في تقرير «الأجندة العالمية 2014»، الصادر في تشرين الثاني من العام الماضي، صنّف المنتدى الاقتصادي العالمي قضية توسع الفروقات في المداخيل «كثاني أكبر خطر عالمي في السنة ونصف السنة» المقبلين. انطلاقاً من هذا التصنيف أعدّت منظمة «أوكسفام» تقريراً تحت عنوان «القبض على المؤسسات السياسية واللامساواة الاقتصادية»، يكشف عن جوانب عديدة من تركّز الثروة في أيدي القلّة
فراس أبو مصلح - الاخبار
«اللامساواة الاقتصادية تنتشر بسرعة في معظم الدول. تنقسم ثروة العالم إلى قسمين: النصف تقريباً يذهب إلى الواحد في المئة الأغنى من السكان، والنصف الآخر يذهب إلى الـ99% الباقين. حدد المنتدى الاقتصادي العالمي هذه الظاهرة كتهديد أساسي للتطور البشري. اللامساواة الاقتصادية الحادة وقبض أصحاب الثروات على المؤسسات السياسية هما غالباً أمران مترابطان. في غياب الروادع، تتقوّض المؤسسات السياسية وتصبح الحكومات خادمة لمصالح النخب الاقتصادية، على حساب الناس العاديين. ليست اللامساواة الحادة أمراً محتوماً، ويمكن ــ بل يجب ــ عكس المنحى السائد سريعاً».
بهذه الخلاصات استهلت منظمة «أوكسفام» تقريرها الصادر في 20 كانون الثاني 2014، http://www.oxfam.org/sites/www.oxfam.org/files/bp-working-for-few-politi... تركّز الثروة والقوة السياسة يمتلك 1% فقط من سكان العالم ما يقارب نصف ثروة العالم. وتقارب ثروة الـ1% الأغنى نحو 110 تريليونات دولار، أي 65 ضعف الثروة الإجمالية لنصف سكان الأرض الأقل ثراءً، بحسب إحصاءات «أوكسفام». في المقابل، استقرت نسبة الرواتب من الناتج المحلي القائم لمعظم الدول، وتراجعت تلك النسبة في دول أخرى، في حين ارتفعت قيمة الأسهم وأرباح الشركات الى مستويات عالية وغير مسبوقة، وفاقمت سياسات «التقشف» هذا المنحى بتجميدها للرواتب وتقليصها للخدمات والتأمينات الاجتماعية، فيما منحت المزيد من التسهيلات الضريبية لرؤوس الأموال، بحسب التقرير. هذا المنحى المتفاقم في السنوات الثلاثين الأخيرة أدى الى «تطور شبكة عالمية من الجنات الضريبية»، ساهمت في تزايد اللامساواة الاقتصادية. «ثروات ضخمة تُخفى عن الأنظار»، فلا تخضع للضرائب، «ما يحرم الخزائن الوطنية من موارد حيوية بالنسبة إلى المجتمع.» تقدر «أوكسفام» هذه الثروات المهربة بحوالى 18.5 تريليون دولار، أي أكبر من الناتج المحلي للولايات المتحدة، «الدولة الأغنى على وجه الأرض»، والبالغ 15.8 تريليون دولار! «هذه الشبكة من السرية والضرائب المتدنية (على الثروات والمداخيل العالية) تسهل التدفق غير المشروع لكميات ضخمة من رأس المال من البلدان الأفقر. بين عامي 2008 و2010 خسرت أفريقيا ما دون الصحراء ما يقدر بـ63.4 مليار دولار سنوياً بهذه الطريقة، ما يعادل أكثر من ضعفي المساعدات التي تلقتها»، بحسب «أوكسفام». تعكس استطلاعات الرأي التي أجرتها «أوكسفام» في ست دول حول العالم (إسبانيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) الاعتقاد السائد لدى أكثرية الناس بأن القوانين والأنظمة باتت تصمم لمنفعة الأثرياء. ففي الولايات المتحدة، «في حقبة ما بعد الأزمة الاقتصادية» عام 2009، استحوذ الواحد في المئة الأغنى على 95% من النمو المحقق، في حين ازداد 90% من السكان فقراً، ويُعزى ذلك، إلى حد كبير، إلى سياسة إنقاذ كبريات المؤسسات المالية المترنحة من أموال دافعي الضرائب، في حين تُرك أكثرية هؤلاء لمصيرهم، بعد تبخر جزء مهم من مدخراتهم بفعل انفجار فقاعة الرهونات العقارية، وخسارة الكثيرين لمنازلهم. أما سبب اختلال السياسات، فتظهره «المعطيات الإحصائية التي تدعم بقوة مخاوف «أوكسفام» حول زيادة تركز الثروة وعدم المساواة في التمثيل السياسي. تظهر دراسة حديثة أدلة إحصائية على التمثيل الطاغي لخيارات الأثرياء الأميركيين في السياسة الحكومية، مقارنة بخيارات أبناء الطبقات الوسطى. في المقابل، لا تظهر خيارات المواطنين الأفقر أي تأثير يذكر على أنماط تصويت المسؤولين الحكوميين (على المشاريع والقوانين)». «تشير الأدلة الحديثة إلى ترابط بين اللامساواة في الدخل واللامساواة في الفرص، فالوضع الاجتماعي ــ الاقتصادي للأهل يحدد إلى درجة كبيرة الفرص المتاحة للأولاد». الأدلة تشير إلى «تجميع الفرص» أو احتكارها، من حصة من الإنفاق العام أو تعليم ذي نوعية جيدة أو وظائف مجزية، ما يؤبد الفوارق الاجتماعية ــ الاقتصادية، بحسب «أوكسفام» التي تخشى أن يؤدي تمتع الأثرياء بنسب الضرائب الأدنى، واستحواذهم على الرعاية الصحية الأفضل والتعليم الأفضل لأبنائهم، إلى توريث امتيازاتهم عبر الأجيال، وحرمان الآخرين فرص الترقي الاجتماعي، وحبسهم في دائرة الفقر والتخلف.
القبض على المؤسسات السياسية
تعتبر «أوكسفام» «بعض اللامساواة ضرورية لتحفيز النمو ومكافأة الإبداع وأصحاب الخبرات والمبادرة»، إلا أنها ترى أن اللامساواة الاقتصادية «الحادة» «قد يكون لها آثار سلبية على النمو الاقتصادي وتقليص الفقر، وقد تفاقم المشاكل الاجتماعية، كعدم المساواة بين الجنسين.» لكن الأهم أن «تركز الثروة يقوّض التساوي في التمثيل السياسي». في غياب «الروادع السياسية» للحدّ من تحكم الثروة في السياسة، تعمل الحكومات لمصالح الأثرياء، ويتم لَيّ القوانين لمصلحتهم، وتتسع الفروقات الاجتماعية، وتتقوّض الحكومة الديمقراطية، و«يتمزق النسيج الاجتماعي»! لا ديمقراطية حيث تتركز الثروة في أيدي القلة. يقول القاضي في المحكمة العليا الأميركية، لويس برانديس، «يمكن أن يكون لدينا ديمقراطية، أو يمكن أن يكون لدينا تركز للثروة في أيدي القلة، ولكن لا يمكن أن يجتمع الأمران»! في ما يشبه الوصفة العالمية الموحدة، يتشابه أثر قبض أصحاب الثروات على المؤسسات السياسية في الدول الغنية والفقيرة على السواء: تحرير أسواق المال، وأنظمة ضريبية «ملتوية» وقوانين تسهل التهرب الضريبي، وسياسات «التقشف»، أي تجميد الأجور والإنفاق الاجتماعي والاستثماري، واحتكار ريوع النفط والثروات الطبيعية. هذه كلها أمثلة توردها «أوكسفام»، وتُظهر من خلالها كيف ينتج الريع السياسي الثروة وتفاوت المداخيل. تظهر أمثلة تاريخية أن هذا المنحى الخطير يمكن عكسه: في العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية، خفضت الولايات المتحدة وأوروبا اللامساواة بالتزامن مع نمو اقتصاداتها. كذلك حققت أميركا اللاتينية خطوات واسعة نحو المساواة في العقد الأخير، عبر الضرائب التصاعدية والخدمات العامة والتأمينات الاجتماعية. وكان ذلك في صلب «العملية السياسية الشعبية» التي تعبر عن مصالح الأكثرية، تؤكد أوكسفام. فمن غير الممكن إحداث توازن مع نفوذ الشركات العملاقة وأصحاب المليارات من دون إشراك قطاعات واسعة من المواطنين في العملية السياسية، دفاعاً عن مصالحهم.
العمل من أجل التغيير
تخلص «أوكسفام» إلى أن «تركز الثروة والدخل يعوق تحقيق مبدأ المساواة في الحقوق والفرص، عبر جعل التمثيل السياسي للمجموعات غير المحظية أصعب، لمصلحة المجموعات النافذة»، و«الاختلال في توزيع الثروة يشوه المؤسسات ويقوض العقد الاجتماعي بين المواطنين والدولة»، وتدعو «الذين لديهم القدرة على عكس منحى تزايد اللامساواة» إلى عمل الآتي: ــ «عدم استخدام ثرواتهم لكسب نفوذ سياسي يقوض التعبير الديمقراطي لإرادة مواطنيهم»: فقد «عملت أوكسفام طوال سبعين عاماً على محاربة الفقر والظلم في أكثر من تسعين دولة، كما حاربت الجنات الضريبية والدَين الذي يفوق قدرة الاقتصاد على الاحتمال. خلال هذه التجارب، شهدت أوكسفام بشكل مباشر كيف يقبض الأفراد والمجموعات الأثرى على المؤسسات السياسية لتعظيم سطوتهم ومصالحهم، على حساب بقية المجتمع. المستويات غير المسبوقة من اللامساواة الاقتصادية التي نشهدها اليوم تنبئنا بأنه في غياب الروادع، ستمعن المؤسسات التمثيلية في التآكل، وفارق القوة بين الذين يملكون والذين لا يملكون قد يترسخ ويصبح عصياً على التغيير». ــ «تنظيم الأسواق لتحفيز النمو المستدام والعادل»: بحسب أوكسفام، «ليست الأسواق ظواهر مستقلة تعمل حسب قوانينها الطبيعية الخاصة، بل هي في الحقيقة بُنى اجتماعية تضع قوانينها المؤسسات وتنظمها الحكومات التي يُفترض أن تكون مسؤولة أمام المواطنين... حيث هناك نمو وتقليص للفروقات الاجتماعية، تعمل القوانين الحاكمة للأسواق لمصلحة الطبقات الوسطى والشرائح الأفقر في المجتمع. ولكن حيث الأغنياء يكسبون وحدهم، تكون القوانين محوّرة لتخدم مصالحهم حصراً». ــ دعوة الحكومات إلى اعتماد نظام ضريبي تصاعدي على المداخيل والثروة، واستعمال الواردات الضريبية لتقديم خدمات التعليم والتأمينات الاجتماعية والتغطية الصحية الشاملة للمواطنين: في هذا الإطار، أميركا اللاتينية هي «الإقليم الوحيد الذي نجح في تقليص الفوارق الاجتماعية خلال العقد الأخير»، عبر زيادة الواردات الضريبية وزيادة الإنفاق الاجتماعي. بين عامي 2002 و2011 «انتقل حوالى 50 مليون شخص إلى صفوف الطبقة الوسطى، ما يعني أنه للمرة الأولى في الإقليم ينتمي ناس إلى الطبقة الوسطى أكثر من أولئك الذين يعيشون في الفقر». «بحسب بعض التقديرات، ارتفع الإنفاق الاجتماعي كنسبة من الناتج المحلي في أميركا اللاتينية 66% خلال السنوات العشرين الماضية». ــ تظهر دراسات «أوكسفام» أن الدول التي قلّصت اللامساواة بنجاح اعتمدت رزمة من السياسات المشتركة: إنهاء السرية المالية، والتضييق على التهرب الضريبي، وإعادة توزيع المداخيل، وتقوية برامج الحماية الاجتماعية، والاستثمار في خدمات الصحة والتعليم الشاملة، وتطبيق الضريبة التصاعدية، ورفع الحد الأدنى للأجور، وصيانة حقوق العمال، وإزالة موانع المساواة أمام المرأة.