جمول

كان لا بُدّ لـ16 أيلول من أن يُطلّ مرة واحدة كل عام، ليؤكّد أن ما حدث يومها في العام 1982 لم يكن مجرّد لحظة عابرة، وأن ما حدث بعد ذلك اليوم لم يكن مغامرة انفعالية، وأن ما حدث لاحقاً لذاك اليوم لم يكن هوساً أحمق، أو حماسة شبابية فقط. أخطاء فادحة وكثيرة ارتكبها أمنيون وسياسيون. "تجارة" تمّ التداول بأخبارها منذ سنين بعيدة. لكن الذين واجهوا العدو الإسرائيلي ميدانياً كانوا أوفياء لأنفسهم وهم يوجّهون صدورهم للموت، ويخترقون أمن "جيش الدفاع الإسرائيلي"، ويُلحقون به خسائر وهزائم، أفضت إلى انسحاب ذليل ولو كان جزئياً حينها.  أسئلة كثيرة متعلّقة بسيرة "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمّول)" لا تزال ملتبسة ومعلّقة. المأزق أن الصمت طاغ، وأن حكايات كثيرة مخفية، وأن تفاصيل عديدة مغيّبة. شذرات قليلة لا تكفي لاستكمال الصورة، وإن كانت مهمّة. مقاومون استشهدوا في العمليات الميدانية ضد إسرائيل، وآخرون قُتلوا غدراً لأسباب سياسية، وبعضهم هاجر أو انعزل في شقاء مفروض عليه. أمنيون وسياسيون لا يزالون أحياء، لكنهم يصمتون. مقاومون لا يزالون أحياء، ويستكينون إلى الصمت هم أيضاً. الشذرات القليلة لا تصنع تاريخاً يليق بمقاومين استشهدوا أو قتلوا أو هاجروا أو انعزلوا، ولا تكفي لإضاءة لحظات حقيقية فَتَك مقاومون عديدون خلالها بجيش ظنّ أنه الأقوى في الشرق العنيد والمتهالك والمفكّك. الشذرات القليلة لا تصوغ ذاكرة، ولا ترسم ملامح حقبة يُراد إسقاطها في عفن النسيان، والانشقاقات المتتالية، والتزوير القاتل.  ليس حنيناً أو قرفاً من أحوال راهنة لا تُطاق. ليس وقوفاً على أطلال بلد حاول مقاومو "جمّول"، ذات يوم، أن يُعيدوه إلى رشده. ليس ندباً أو بُكاءً. الذكرى تُطالب بالاحتفاء بها من أجل مقاومين استشهدوا أو قُتلوا أو هاجروا أو انعزلوا، لأن هؤلاء المقاومين جعلوا عيناً مُضيئة تُقاوم مخرزاً دموياً، وأرغموا جيشاً على التراجع والتقوقع في أمكنة ضيّقة. لأن هؤلاء المقاومين كتبوا، للمرّة الأولى، في التاريخ المرير لهذا البلد، معنى أن يتصدّى شبابٌ عُزّل لجيش احتلّ أراضي عربية بعد مواجهات حقيقية لكنها قليلة. استعادة ذكرى انطلاق "جمّول" جزءٌ من التنقيب المطلوب في أرشيف الذاكرة الفردية عمّا جرى، وكيف جرى ما جرى. وذلك كلّه من أجل الذين صنعوا هذه الذاكرة، ومن أجل أناس رفضوا إدراك أن شباباً عزّلاً واجهوا جيشاً عتيّاً وانتصروا عليه، وواجهوا دناءة الداخل ببسالة، قبل أن تنقلب عليهم خطابات ماورائية، واستراتيجيات أمنية، وأجندات إقليمية ودولية.  ***  كانت لحظات مجيدة. يومها، كان صدى "جمّول" وبطولاتها في "المنطقة الشرقية" معيناً معنوياً لقول مختلف لدى قلّة، اقتنعت أن مناهضة إسرائيل أسطع نوراً، وأبهى جمالاً، وأرقى نضالاً من أكاذيب متسلّطين على تلك المنطقة.  كانت لحظات مجيدة. لكن المأزق كامنٌ في أن الجمال يذوب سريعاً في أوحال الخراب الداخلي

الأكثر قراءة