لنقل إنها عودة إلى «البدايات» التي أسست لاحقا لحضوره اللافت، أكثر من كونها تجربة جديدة بالمعنى المتكامل للكلمة. لكن مع هذه العودة، علينا أن ننتبه فعلا إلى الرحلة الطويلة التي قطعتها تجربة مارسيل خليفة، غناء وتأليفا موسيقيا، على الأقل من حيث مهارات العزف التي تجمعت وتراكمت خلال هذه السنين الطويلة. من هنا قد «نظلم» الفنان كثيرا، في ما لو اعتبرنا أن هذه العودة هي مجرد عودة بسيطة ومجانية، بل ثمة شيء أكبر: في محاولة أن يقف على المسرح بدون رفقة الفرقة التي اعتدناها معه (رافقه فقط ابن أخيه ساري خليفة على التشيللو)، نجد أن مارسيل خليفة في حفله ضمن مهرجانات بعلبك لهذه السنة يفرد مساحة أكبر للعزف على العود، كما يفرد مساحة للصوت والكلمة، قد يكون «انشغل» عنهما في تجاربه الأخيرة، بمعنى أن التأليف الموسيقي والتوزيع كانا حاضرين أكثر من غيرهما في الحفلات الأخيرة التي قدمها في السنوات الماضية. من هنا، وإن تذكرنا هذه البدايات، علينا أن نتذكر أيضا عازف العود الأساس في هذه التجربة التي تربت عليها أجيال مختلفة. وإن ذكرنا الأجيال، كان اللافت في جمهور الحاضرين تنوع هذه الأجيال، وبخاصة الجيل الشاب. وإن دلّ ذلك على شيء فعلى أن هذه التجربة عرفت كيف توصل ما بين الحقب المختلفة. فإن سلمنا جدلا بأن قسما كبيرا من الحاضرين، يعرف مارسيل خليفة وموسيقاه، ومشى معهما منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي (وربما كان يشعر بحنين ما، أقلها حنين الذاكرة، إلى تلك الفترة)، إلا أننا يجب أن نقرّ فعلا، أن هذه التجربة، استطاعت أن تتخطى زمنها المحدد ومكانها، لتصل إلى «عقلية» أخرى وإلى فئات متنوعة، وهي بذلك خرجت من إطارها المحدد. وهذا ليس بقليل لتجربة وُضعت في مرحلة ما، تحت خانة سياسية محددة، وضمن خط فكري محدد. ما أريد قوله، ان التنميط والنمطية يسقطان هنا لمصلحة الفن. وما كان لهذه التجربة أن تستمر، إن لم تكن تجربة فنيّة حقيقية، لم تعتمد على خطاب سياسي صرف ومباشر، بل على خطاب إنساني بالدرجة الأولى، وإن وجدنا بالطبع، أن هذه التجربة الإنسانية تأتي من خلفية فكرية محددة. إذ «في البال أغنية»، حفل مارسيل خليفة في مهرجانات بعلبك الدولية، أعادنا إلى الكثير من الذكريات، وهي بعد ذكريات راهنة، ربما لا تتوقف على أن تعيد نفسها كل فترة من تاريخ هذا البلد. مع «أحن إلى خبز أمي» و«ريتا» و«منتصب القامة أمشي» و«يا بحرية» وغيرها من الأغاني، نعود إلى منابع التجربة عند مارسيل خليفة، التي وجدت صداها إلى عند الجمهور الحاضر الذي رافقه غناء وإنشادا، ومع «بغيبتك نزل الشتي» وغيرها أيضا يستمر اللحن والصوت، اللذان يدلان على تنوع التجربة التي تقدمت باتجاهات عديدة (من بينها أغنيته الجديدة عن شكر ملك الملوك). ومن هذه الاتجاهات الكتابة الموسيقية الصرفة كمقطوعة «سرير الغريبة» التي قدمها ساري خليفة عزفا على التشيلو. وهنا أيضا لا بد من الإشارة إلى هذه الموهبة الموسيقية الحقيقية التي اكتشفناها على الخشبة ليل السبت الماضي، والتي تعطي قيمة إضافية للعمل الموسيقي. وإن كان من ملاحظة أجدها غير إيجابية في حفل خليفة، وبالطبع ليس الفنان مسؤولا عنها (وليست انتقاصا من فنه مطلقا)، ذاك الجو المسيطر، الذي ذكرني بعشية حرب أهلية ما. بالتأكيد يبدو الوضع الأمني، بسوداويته، ملقيا ظله على المناخ العام، من هنا أتت بين «ريتا وعيوني بندقية»، على سبيل المثال، لتدخلنا في مرارة الذكرى. عسى فقط أن نتذكر الأغنية، وألا نعود لندخل التجربة من جديد