غالباً ما تجد النساء، ضحايا العنف الأسري أو الاغتصاب صعوبة في التبليغ بسبب المجتمع البطريركي الذي يمتدّ إلى ممارسة الدولة. وفي المخافر تعاني النساء من جهل عناصر قوى الأمن في هذه القضايا، لكن المشكلة الأكبر لا تزال في غياب القانون الذي يحمي المرأة من العنف الأسري
زينب مرعيعندما طرقت فاطمة (اسم مستعار) باب منزلها، جاءها صوت ابنها، منزعجاً، من خلف الباب وهو يطلب منها أن تعود لاحقاً، لأنه لا يريدها أن تدخل المنزل في الحين. لكن فاطمة التي تعرف ابنها جيداً، توسّلت وبكت كي يفتح الشاب ابن الثانية والعشرين عاماً الباب. عندما فعل أخيراً، وقفت فاطمة أمام «مذبحة». لقد قام ابنها بتشطيب نفسه، ثم عمد إلى تكسير العبوات الزجاجية في المنزل بين يديه، ليجهز بعدها على قطع الأثاث المتبقية في المنزل.
دخلت فاطمة فملأت رائحة الدم أنفها. أمام مشهد المنزل المحطّم، والدم الذي يسيل من ابنها وعلى الأثاث، شعرت بأنها تقف وسط مذبحة. هذه هي مذبحة فاطمة العائليّة. نظرت إلى ابنها بيأس من أدركت أنّه لم يعد بمقدورها أن تفعل شيئاً لتخلّصه أو تخلّص نفسها، فالولد ابن أبيه، وهذا الوحش الصغير هو ابن ذاك الكبير. وإن كانت فاطمة تخلّصت، بعد جهد جهيد، من زوجها الذي يقال بالطرق اللائقة أنّه يعنّفها، فكيف ستتخلّص من فلذة كبدها؟ تقول إنّه لن يكون لها خلاص سوى بالرحيل عن هذه الدنيا.فاطمة هي امرأة ولدت وعاشت أعوامها السبعة والأربعين في دوّامة من العنف، وهي مثال عن أيّ امرأة لبنانيّة تعيش فصول العنف الأسري في بيت العائلة ثم في بيت الزوج. في صغرها كانت والدتها تحكم البيت بقبضة ذكوريّة. فمنعت بناتها الستّ من التعلم وجنّدتهنّ جميعاً للعمل في الخياطة منذ نعومة أظافرهنّ، وحرّمت عليهنّ الزواج كي لا تفقد مصدر رزقها، وطلبت من أبنائها الخمسة أن يضربوهنّ متى خالفن أوامرها. فتقول فاطمة «وعيت على كفّ جايي وكفّ رايح». رغم أنّ الأم حرّمته، إلا أنّ فاطمة فكّرت أنّ خلاصها الوحيد هو في الزواج. فهربت في أحد الأيام مع أحد الجنود السوريين، المتواجدين آنذاك في لبنان. تزوّجت فاطمة الرجل، وأرسلت لأهلها من يخبرهم أنّها تخلّصت أخيراً منهم. لكن الحياة الحلوة لم تكن بانتظار فاطمة هنا أيضاً. فبعد عشرين يوماً فقط من الزواج، بدأ زوجها وعائلته بتعنيفها. ومع وصول أطفالها الأربعة، توسّعت دائرة العنف لتشملهم أيضاً. وأصبح «للأتلة» أسماء مختلفة، «أتلة الفروج»، التي يقيّد فيها الطفل على عصا بين سريرين أو «أتلة الصليب» التي يقيّده فيها هذه المرّة على خشبة على شكل صليب، ثم إلى مغطس الماء حين يغمى عليه، ليعاود مسلسل الضرب مجدداً. ابن فاطمة البكر تحوّل منذ الحادية عشرة من عمره إلى أداة أبيه. يتركه وصياً عليها وعلى ابنتيها وابنها الصغير كلّما سافر إلى سوريا، فينصّبه «رجل العائلة» في غيابه ليكمل مسلسل العنف ضدّ العائلة. وفي نفس ابنتيها عشّش العنف أيضاً، فكان يتفجّر على شكل شجار دائم بينهما وتعنيف معنوي ولفظي للأم. أمّا ابنها الصغير، فهو في حالة خوف دائمة، تجعله يعيش ملتحماً بأمّه. أما هي، فقد حاولت الانتحار 4 مرّات على الأقل!في حياتها لم تشهد فاطمة سوى هدنتين قصيرتين. الأولى كانت عند دخول زوجها السجن لخمس سنوات، والثانية عند استدعاء ابنها للخدمة العسكريّة في سوريا، فغاب لثلاث سنوات. فصول العنف في حياة فاطمة أكثر من أن تحصى، وهي لم تنجح بالتخلّص من زوجها إلا عندما قرّر البقاء في سوريا ليتّخذ لنفسه هناك زوجة أخرى تونسية تعيش في بريطانيا.إلى بلاد الإنكليز طار زوج فاطمة السابق، تاركاً خليفته، ابنه البكر، وراءه. وإن كان زوج فاطمة السابق قد حافظ على طباعه السيئة في بريطانيا واعتماده على عمل زوجته، إلا أنّه لم يستطع أن يمارس هواياته العنيفة عليها وعلى أطفالها هناك، ونسي «الأتلات» التي اخترعها وأسماءها، ليس لأنّه عاد إلى رشده أو تغيّر بل لأنّه في ذلك الجزء من العالم هناك قانون يحمي المرأة. في بريطانيا، لأنّه لم يعجب الزوجة اعتماد زوجها المالي الدائم عليها وبقاؤه في المنزل، حصلت على الطلاق واحتفظت مع أولادها بالمنزل، بينما خرج هو ليبحث عن عمل وشقّة. تقول فاطمة بحسرة: «كيف لو عمل فيها ربع لعملوا فيني؟». إذ لا يهمّ إن كنّا نأتي إلى هذه الدنيا خيّرين وتفسدنا مجتمعاتنا من بعدها، كما يقول الفيلسوف السويسري روسو، المهم أنّ القانون يجبرنا على أن نكون بشراً.بعد موجات العنف والضرب كانت فاطمة تخرج مع أطفالها الأربعة إلى الشارع. يتابع هو مشاهدة التلفاز بينما تخرج هي إلى الشارع لتبات الليلة من دون مأوى مع أولادها. إذ في لبنان لا قانون يحمي المرأة من العنف أو يضمن حقوقها. لنستمع إليها تروي ما حصل حين حاولت اللجوء للقانون؟في ليلة ظلماء، بعدما كان زوجها قد بدأ بضربها في السادسة مساء، وهي حامل، وتركها قطعة لحم مهشّمة العظام في الرابعة صباحاً، حملت تقاريرها الطبيّة التي تفيد بضرورة بقائها في السرير لشهر كامل وتقارير طبيّة أخرى تصف وضع أولادها الصحّي، وذهبت إلى بعبدا لتتقدّم بشكوى ضدّ زوجها. «تقدّمت بدعوى وانتظرت. أخبروني أنّهم سيرسلونها إلى المخفر وعليّ أن أتابعها هناك. مرّت ستة أشهر وأنا أسأل تارة في المخفر وتارة في بعبدا عن دعواي. في المخفر يقولون لي لم تصلنا الدعوى بعد وفي بعبدا يقولون لي، لا شغل لك هنا سنرسلها نحن إلى المخفر». خلال الستة أشهر تلك، ذاقت فاطمة المزيد من عنف زوجها، وملّت من قضاء وقتها بين المخفر وبعبدا من دون جدوى. عندما كان يضيق بها الحال، كانت تقصد المخفر لتقدّم شكوى. في المخفر، حيث يشربون الشاي، كان العناصر يسخرون منها تارة ويرسلونها للنوم في الشارع مع أولادها تارة أخرى. «لا دخل لنا بين الزوج وامرأته» يقولون لها أو «إذا ما ربّيتي ابنك نحن بدنا نربّيلك ياه»! حتى أنّهم كانوا يطلبون منها أن تذهب وتشكوه إلى حزب الله! «الدولة طلبت منّي أن أتقدّم بشكواي لدى حزب الله! مع ذلك فعلت فأخبروني أنّهم ليسوا الدولة لأقدم شكواي لديهم».هكذا تقضي فاطمة سنواتها في العنف من دون أن تمتد لها يد الدولة. تقول منسقة حملة تشريع حماية النساء من العنف الأسري في منظمة «كفى عنف واستغلال» فاتن أبو شقرا إنّ بعض الاتصالات التي ترد إلى المخافر للتبليغ عن حالة عنف أسري يتمّ الردّ عليها بـ«نحن ما خصّنا، بس تموت ارجعوا اتصلوا فينا»! بالنسبة إليها، يأتي ردّ قوى الأمن سلبياً لأنّهم غير ملزمين بالتحرّك في هذه القضايا بعد. ليس هناك إلزامية للتحرّك أو التبليغ. فلا يبلّغ أيضاً عن حالات العنف ضدّ المرأة إلّا من هو متعاطف مع هذه القضية، فمثلاً الطبيب ليس مجبراً على التبليغ عن حالات العنف التي يعاينها مهما كانت صعبة. وتضيف «في مشروع قانون «حماية النساء من العنف الأسري» الذي صار اسمه «قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرى من العنف» طلبنا قطع قوى أمن متخصصة، في مختلف المناطق، فيها أشخاص مدرّبون على كيفيّة التعاطي مع السيدة التي تعرّضت لعنف، اغتصاباً أو عنفاً أسرياً، كيف يتمّ التحقيق معها، كيفية الحفاظ على خصوصيّتها لتشجيعها على التبليغ. إذ إنّ الكثير من النساء اليوم لا يبلّغن، خاصة في حالات الاغتصاب، بما أنّها ما إن تخرج من المخفر حتى يكون أحد العناصر قد تكفّل بنشر الخبر في القرية مثلاً. كما أنّ المخافر غير مجهّزة. فإذا أراد الطبيب الشرعي أن يفحصها عليه أن يفعل ذلك على سرير العنصر الخاص في المخفر»!بسبب الشكاوى التي كانت ترد عن تصرفات قوى الأمن في المخافر، يقول رئيس شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي المقدّم جوزف مسلّم إنّهم عمدوا إلى إصدار مذكّرة في العام 2010 وموضوعها حسن استقبال المواطنين وكيفيّة التعاطي مع الضحايا بشكل عام. وقد تمّ تدريب العناصر على هذا الموضوع بحسب مسلّم. ويضيف «نحن الآن بصدد تحضير مذكّرة لتلبية نداءات الاستغاثة لضحايا العنف الأسري. في المذكّرة شقّان، نظري وتطبيقي. يشمل الشقّ النظري الاتفاقات الدوليّة عن العنف ضدّ المرأة والإطار العام للعنف الأسري، والجزء العملي هو في كيفيّة تلقي اتصال المرأة المعنّفة، كيفية التحقيق في هذه القضايا وتقديم المعلومات عن الخدمات التي تؤمنّها الجمعيات المدنيّة في هذا الإطار، من المساعدة القضائيّة إلى الإيواء». ويضيف مسلّم أنّه سيبدأ تدريب العناصر على هذه المذكّرة قريباً. لا شكّ أنّ الخطوة إيجابية لكن تبقى العبرة في التنفيذ.مؤخراً قامت فاطمة وسيدة أخرى بإرسال رسالتين إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، تخبرانه فيهما قصّتيهما باختصار شديد. ما كان ردّ دولة الرئيس؟ الردّ نشر في صحيفة «النهار» وجاء فيه «أنّه فور تلقيه الرسالتين كلّف (الرئيس بري) مستشاره الإعلامي علي حمدان الاتصال بممثلات الهيئات النسائية وشرح لهن تأييد رئيس المجلس لهذا القانون رغم الملاحظات النيابية عليه. وأوضح بري أنه ينتظر التئام الهيئة العامة في مجلس النواب لعرض هذا القانون على التصويت «وأن لا إمكانية في مثل هذه الظروف لانعقاد الهيئة في هذه الأيام والبلد غارق في مشروع قانون الانتخاب». أولاً تقول «كفى» إنّ المستشار الإعلامي لبري علي حمدان، لم يتّصل أو يحاول التواصل معهم، حتى الساعة، بأي شكل من الأشكال. ثم يفيدنا مصدر في مجلس النواب، عندما نسأله عن الرسالتين، بأنّ الرئيس بري يتلقى يومياً الكثير من الرسائل! فعلاً؟! تصله إذاً رسائل كثيرة مصبوغة بهذه المعاناة؟ من أين جاءه إذاً كلّ هذا الصبر؟ عشرون عاماً، في رئاسة المجلس ولم يحرّك ساكناً من أجل قانون يحمي المرأة من العنف، والآن يخبرنا بأنّه يؤيّد هذا القانون لكن للانتخابات الأولويّة؟! معظم الأحزاب أعلنت أيضاً تأييدها لهذا القانون. لكن الخوف من أن يكون تأييدهم له يشبه تأييدهم لهيئة التنسيق أو إسقاط النظام الطائفي!يعرف الرؤساء كم سنة قضوا على الكرسي ويتحسّرون عليها، فسنوات الكرسي جيدة من دون شك، أمّا سنوات العنف فكيف تقاس؟ لا يمكنك أن تسأل فاطمة عن السنة التي ولدت، تزوجّت أو رفعت دعوى فيها... أو تلك التي نالت فيها أول كفّ وأول ورم. فهي لا تعرف ولا تعرف ولا تعرف...لم يكن لديها الوقت ولم تكن واعية لتحسبها، هي تريد فقط لهذا العمر أن ينتهي في أقرب وقت ممكن.
عدم التبليغ = عدم الثقة
كلّما تحسّن أداء القوى الأمنيّة واحترمت خصوصيّة مقدّم الشكوى ارتفع معدّل الإبلاغ، خاصة في حالات العنف ضدّ النساء. الأرقام التي اطلعنا عليها رئيس شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي المقدّم جوزف مسلّم تثبت عدم الثقة في التبليغ لدينا. ففي العام 2011، تمّ التبليغ عن 8 حالات اغتصاب فقط، من بينها قضية ميريام الأشقر التي شغلت الإعلام، بالتالي فإنّ الحالات التي تمّ التبليغ عنها هي فعلياً هي سبع! وتضع الإحصاءات العالميّة تسهيل عمليّة التبليغ للضحيّة في أعلى سلّم الحدّ من العنف ضدّ النساء. وتشير إحصاءات شملت 57 دولة أنّ امرأة واحدة من عشر فقط، تبلّغ عن اعتداء جنسي تعرّضت له. كما تشير الدراسات إلى أنّ مستوى التبليغ عن جرائم الجنس التي تتعرّض لها المرأة يرتفع بنسبة ملحوظة إذا ما كان في المخافر عناصر من الشرطة النساء جاهزات للتعامل مع قضايا الاغتصاب خصوصاً. في هذا المجال برزت البرازيل كمثال، سرعان ما اعتمتدته الدول اللاتينيّة الأخرى. إذ إنّ البرازيل أنشأت منذ العام 1985 مخافر مكوّنة من عناصر نسائيّة فقط. في لبنان يقول مسلّم إنّ «التدريبات الجديدة تشمل جميع العناصر من رجال ونساء، لكن انضمام حوالي 1000 رتيب من النساء مؤخراً إلى قوى الأمن، أمر إيجابي بالنسبة إلينا. إذ نحن لسنا فقط بحاجة إلى رتباء من النساء، لكن أيضاً البيئة التي أتى منها الرتيب، رجلاً كان أم امرأة. لذا يجب أن يكون هناك عمل أساسي على تطوير المجتمع بالتزامن مع حركتنا. مهمّتنا أن ندرّب العنصر لكن أيضاً على النساء اللواتي يتعرّضن للاغتصاب مثلاً أن يبادرن إلى التبليغ لأنّ المغتصب شخص عادة ما يكرّر جريمته». في تقريرها عن أحوال النساء في العام 2011، شدّدت الأمم المتحدة أيضاً على القوانين التي تجرّم الاغتصاب والعنف الأسري بما أنّ لا شيء يكبح هذا النوع من الجريمة سوى اليقين بوجود العقاب.
العدد ١٩٥١ السبت ٩ آذار ٢٠١٣