الطائفيّة نعمة أم نقمة؟

الأب يوسف مونّس*

في الفقرة (ج) من مقدمة الدستور المستحدث 21/9/1990: «المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين بدون تمايز أو تفضيل». إذاً هناك الجنسية والمواطنية، وهناك أيضاً ضمان للحريات الأساسية والحقوق والواجبات والحرمات التي تكفلها الدساتير عادة في الدول الديموقراطية، وأن الشعب هو مصدر السلطات وصاحب السيادة، وأن لبنان دولة جمهورية ديموقراطية برلمانية.

المهم إذاً هو رعاية جماعة المواطنين أي الأمة من جهة، ورعاية حقوقهم كأفراد، وكذلك حقوق الجماعات المختلفة التي ينتمون إليها من جهة أخرى. لكن الحظر هو أنّ بعض النصوص تسبغ الصفة الطائفية على النظام السياسي. روح مبدأ المواطنة الذي يعطي ويؤسس مبدأ إنشاء الفردية العمومية المتمتعة بالحقوق والواجبات (الفصل الثالث لبنان: المواطنة والدولة الطائفية لبنان 2008-2009، التقرير الوطني للتنشئة البشرية نحو دولة المواطن U.N.D.P. 2009، صفحة 69).

المادة 95: تتكلم عن «مرحلة انتقالية، حرية المعتقد، ممارسة الشعائر الدينية، حرية التعليم الديني.

أما المادة 10: فقد كفلت حق الطوائف بإنشاء مدارسها الخاصة.

ملاحظة: في الصفحة 72 «تجدر الملاحظة أن لبنان هو الدولة العربية الوحيدة التي لم تتبنَّ في متن دستورها ديناً معيناً يشكل مصدراً أساسياً أو وحيداً للتشريع. (نحو دولة المواطن صفحة 72). لن أدخل في قانون وخصوصية الأحوال الشخصية وهو مجموعة الأحكام التي تنظم حالة الأشخاص الذاتية كأفراد وتنظم عبر مواقعهم وإداراتهم شبكة العلاقات العائلية (دولة المواطن صفحة 72).

القضاء المذهبي

هناك سبعة قوانين تطبق على المسيحيين، 6 طوائف كاثوليكية لها قانون واحد، أما قوانين المسلمين فهي 4. المجموع أحد عشر قانوناً. وهناك أيضاً قوانين مدنية أجنبية ويختلط كل شيء في شروط الزواج، وحقوق الزوجة والوالدة والبنوة والطلاق والحضانة والنفقة والإرث. وهنا يمارس تمييز ضد النساء غير مقبول.

هذا يقتضي سَنّ قانون مدني موحد ولو اختياري، يكون بمثابة قانون وطني عام. وهنا قام صراع بين الدولة والطوائف، وخاصة أن حجة رجال الدين المسلمين هي أن الدين الإسلامي يشتمل على أحكام إلزامية في مسائل الإرث وهي غير قابلة للتخطي. ونحن نسأل: هل هناك طائفة للحق العام؟ وهذه هي طائفة الدولة وليس ملزم من فيها بالتخلي عن دينه.

نحن نتمنى قانوناً مدنياً للأحوال الشخصية ينحاز فقط إلى الإنسان. والكنيسة لم ترفض الزواج المدني وذلك انطلاقاً من مبدأ الحرية والإيمان. المؤمن يمارس الأسرار لإيمانه بها والذي لا يؤمن بالأسرار حرّ بأن يعقد زواجه حسب القانون الذي ترعاه دولته ومجتمعه. ونحن نسأل كيف يطبق سر مقدس على من لا يؤمن به؟ لذلك فإن الكنيسة تطلب من المؤمنين بالأسرار أن يعقدوا زواجاً كنسياً بعد عقدهم زواجهم المدني الذي لا يكفي لمؤمن بأسرار كنيسته ويمارس واجباته المسيحية.

وثيقة الوفاق الوطني وميثاق العيش المشترك

الميثاق، ميثاق 1943، هو غير الصيغة الطائفية التي تم التعارف عليها لتقاسم السلطة فأصبح لبنان مقسماً بين الطوائف، وأصبحت الطوائف تمتلك مؤسساتها الخاصة من كل الأنواع، وهذا ما أدى أحياناً إلى الانغلاق أو الاكتفاء. وصعب نشوء الأمة في مساق العبور التاريخي الى الهوية الوطنية فاستوعبت الطائفة أعضاءها، منطلقة من وحدة الانتماء المذهبي «ونقاوة» العرق الطائفي الديني فذاب الفرد في الطائفة وتماهى بها، فقام الفساد السياسي بدفع الأعضاء الى الولاء والانصياع للطائفة وزعيمها. فكيف تصلح النفوس قبل النصوص، ورحنا نستعطف أصحاب النفوذ ونستزلم لهم للحصول على مركز أو وظيفة أو ترقٍّ أو تقدّم أو حماية وفقدنا ثقافة المواطنة. وغلب الخطاب الطائفي على الخطاب السياسي لنجد لنا أطر الحماية، فقامت ثقافة الطائفيات السياسية الاجتماعية ليكون لنا الطمأنينة والاستقرار والسلم الأهلي. ولم نعد نعرف أن الحريات والكرامة والتمتع بحقوق المواطنة مكتوبة في الدستور وصار تماسكنا طائفياً، اجتماعياً، مذهبياً وليس وطنياً قومياً إنسانياً نؤسس فيه الهوية الوطنية والمجتمع المدني والحداثة في التشريع والمعاصرة.

مديح الطائفية

في القسم الثاني من كلمتي، أخاف بداية أن يكون موقفي موقفاً غريباً يقرأ في كتاب لا يقرأه الجميع وينفرد في «ردة» لا يرددها أحد من الحضور ولا من الجالس في وسط القوم، ألا وهو مديح الطائفية. إذا كان لي الحق بالاختلاف وحرية التفكير والخطأ والتوبة، فاسمحوا لي أن أقول: الطائفية في جوهرها التزام قومي بتراث الطائفة الفكري واللاهوتي والفني والطقوسي والاحتفالي: أسبوع الآلام، عاشوراء، ليست هي في السياسة بل هي في كلندار الزمن الاحتفالي لمشهدية الأيام التي تمر رتيبة لولا الإيقاع الطقوسي للطائفة واحتفالاتها وأعيادها وأناشيدها ولباسها وبعض أعيادها ورش مياه غطاسها، وترانيم شعانينها وحضور كبارها وصغارها. نحن حوّلنا الطائفية آفة عندما جعلنا منها بعداً سياسياً وظائفياً. ألا تريدون مني أناشيدي واحتفالاتي وأعيادي وأنا أقول «تشبحتو الموريو» الكئيبة في زمن الآلام أو «اليوم عُلق على خشبة» أو «أرسل الله» الفرحة في زمن الميلاد. أتريدون مني هكذا أن أدخل كآبة أيامي ورتابتها وعبثيتها وقرفها ولا أناشيد عندي لكسر كآبتها وأغسل بدموعي خطاياي ضد الحب والسلام والرحمة والنور.

الطائفية: اشتموها قدر ما عندكم من شتائم، ارجموها بكل الحجارة فهي الزانية وصانعة الخطيئة في مدينتكم ووطنكم ومبعدة التقدم والرقي والحداثة في مجتمعكم. لكن هذا بالنسبة لي خطأ كبير. المشكلة ليست فيها، بل في قعر نفوسكم المريضة لأنّكم جعلتموها رافعة لشهواتكم السياسية والحزبية وطريقاً سلوكياً إلى المناصب والجاه.

أنا طبعاً في كونية شمول إنسانيتي وعالميتها كباقي الناس. لكن ولدتني امرأة تميزت عن جميع النساء لأنها أمي، وأنا ربيت في بيت وحي وكنيسة، وكان عندي رفاق وأصدقاء دروزاً وشيعة وأرثوذكساً وأرمناً وبروتستانت وجميعهم لم أكن أعرف عقائدهم، صابئون كانوا ويزيديون. كانوا بالنسبة لي تراثاً فكرياً وروحياً وثقافياً مميزاً، ولم أكن أعرف أنهم طوائف. كانوا فقط في جمال حضارتهم كياناً رائعاً من ألوان الجمال اللاهوتي والروحي. ضربني وضربهم الطاعون يوم كبرنا وانقسمنا بحسب طوائفنا وتذابحنا، وقتلنا بعضنا بعضاً على الهويات القاتلة. لكن أسألكم كيف تريدون أن تسلخوا جلدي وماضيّ أنا الماروني العائش مع الحكمة والمعرفة الدرزية في رهبة الله ورحمته السنية. وفي جرح كربلاء والشيعة، والبيزنطيين والأرمن. فأنتم تخلطون بين تراثي القومي والتاريخي وانتماءاتي السياسية والحزبية.

بالحقيقة، أتيتم بي لأشتم الطائفية فإذا بي أمدحها. فيا ويلي من رجم الحجارة التي ستقع على رأسي بعد أن تعرّوني من ثيابي، كما فعل بولس مع اسطفانوس وتبدأون برجمي، لكني أقول لكم ما كان يقوله اسطفانوس تحت الحجارة أرى السماء، سماء الحب مفتوحة لحق الاختلاف واحترام التنوع وشرود العقل على دروب اكتشاف الله وعشق القلب وسكره من اختيارات وراء حبيب سيصلبون من أجله ولن يستطيعوا أن يداووا جراحهم من شوقهم إليه. أنا لا أخاف من الطائفية وهي الجمرة المقدسة المحمولة بأنامل من ولدوا فيها كتراث حضاري وروحي وإنساني وفني وطقوسي وفولكلوري، أنا أخاف من الممتطين خيول الطائفية السياسية كديناصورات الموت والهواء الأصفر والطاعون والسيدا.

كيف تريدون أن تنزعوا مني ما أعرف من صوفية القديس الأرمني نارك، أو عن لاهوت كيرللس الإسكندري أو عن قلق أغوسطينوس وخطاياه أو عن عبقرية مار أفرام السرياني ويعقوب النصبيني ويوحنا الدمشقي ويعقوب السروجي أو باسيليوس وغريغوريوس ويوحنا فم الذهب أو ابن عربي والحلاج والسهروردي والشيرازي أو عن قصائد أوغاريت وجلجامش وأناشيد الموتى في المراكب المصرية العابرة إلى العالم الآخر. مع هؤلاء أنا طائفي للعظم. مع أفلاطون وسقراط وأرسطو وأوربيد وشعر فيرجيل أريستوفان أو مع (Te Deum) لباخ أو نشيد الفرح لبيتهوفن.

كيف تمزقون لحمي وجسدي في ثقافتي هذه أنا الماروني الآتي من تواضع الوديان وأناشيد الدموع وسهول الفلاحين ولا أعرف إلا البكاء والنوح في صلاتي: صلاتك معنا، يا أم الله يا حنونة، يا شعبي وصحبي، واحبيبي. أو أنا الأرثوذكسي المولود من البهاء الإلهي على الأكينوستاز المتوهج جمالاً وسناءً. أو أنا الدرزي المعمم بالحكمة والمعرفة والغموض والأسرار في قلنسوتي وجبتي. أنا الأرمني وجرحي ينز من ذبحي وإبادتي ولا أحد يجيد مثلي طقوس الحياة، أو أنا الشيعي وما زلت جرحاً كربلائياً مدمّى. أو أنا البروتستانتي ولم يرتو عقلي من الشك والخوف والرعدة على خلاصي.

أنجدوني، خذوا طائفتكم الخاطئة الزانية التي كشفت عورتها على قارعة دروب السياسة فتدنست وأعيدوا إليّ ما في تراثي من غنى وجمال واختبار فريد عليه أربّي أولادي وأساهم في تاريخ الحضارة والثقافة. وأعيدوني الى جرن عمادي الأول قبل أن تلوثني خطاياكم ويدنسني زناكم وكذبكم ومحرقاتكم التي هي رياء وفساد في ثنائية خطابكم السياسي.

أنا مع الدولة المدنية والمجتمع المدني والعلمنة، أي فصل الدين عن الدولة والروحي عن الزمني... أنا مع فصل الدين عن الدولة أو مع العلمنة (Laïcité)... أنا مع الزواج المدني الاختياري وليس مع الدهرنة (séculirisation). أي قطع المقدس عن العالم... أنا مع شريعة واحدة للإرث دون أي تمييز بين ذكر وأنثى... أنا مع المساواة على جميع المستويات في الحقوق والواجبات دون أي تمييز... أنا مع تكافؤ الفرص للجميع وبحسب الكفاءات... أنا مع توحيد قانون مدني للأحوال الشخصية. من أجل دولة مدنية... الدين شيء والدولة شيء آخر... الزمني شيء والروحي شيء آخر. لتكن الطائفية نعمة، لا نقمة، علينا أن نكون في مدينة الله، لا في مدينة قيصر.

* أمين سرّ اللجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام في مجلس كنائس الشرق الأوسط

الجمعة ٧ كانون الأول ٢٠١٢

الأكثر قراءة