ما زال غسان سعيد يعيش في أحلام الزمن الجميل. يستحضره دائماً. رَكَلَ المُقاوِم الشيوعي الظروف السياسية والإقليمية ملتحقاً بشعارات حزبه في ذلك الزمن. يعلّل «فعلته» بالصدق والوعي؛ لكن أيكفي الصدق وحده لتحرير وطن!؟ أراد مجابهة العدو الإسرائيلي مع بعض الرفاق من دون مال أو سلاح، «بلا ولا شي». فكان الأسير الأحمر الأخير
ربى أبو عمو
صاليما، حيث يقطن الأسير المحرر من السجون الإسرائيلية غسان سعيد اليوم، تحفظ لابنها إرثه المقاوم. يتماثلان. تمسكت بالصفات التي تجعل منها قرية نموذجية لم تلوّثها الأفكار المدينية، فيما أبى هو التخلّي عن بطاقته الحزبية الحمراء. الماضي حاضرٌ بقوة في كليهما. عند مدخل بلدته لافتة: بلدة المقاوم غسان سعيد. نسأل عاملاً في محطة لبيع الوقود عن منزله، فيسأل بدوره: دمكم أحمر؟ كأن البلدة استعانت به جواز عبور الى المحيط. كان حظّ سعيد جيداً. لم يضطر إلى اللجوء إلى أبواب السفارات والسياسيّين لدى تحريره من معتقل الخيام. ترك وراءه بيتاً في ذلك الجبل، وتمكّن من استئجار محل لتصليح السيارات. عاد المقاوم عاملاً ميكانيكياً، لا يؤمن قوته من أمجاد الماضي.
بعض أهالي البلدة ما زال يسبح في الأحمر، منهم سعيد. ورغم عدم توافر الإمكانيات المادية واللوجستية لتنفيذ أي عملية ضد العدو الإسرائيلي لدى سلوكه هذا الخيار، فهو لا يعتبر فعلته طيشاً. «كنت في الثلاثينيات وقتها». يسأل طفلته: «هل أخطأت»؟ تجيب: «لا». كأنها «تطبطب» عليه. يقول: «أرأيتِ؟». يتناسى ربما الأطفال في هذه السن عاجزون عن بلورة موقف سياسي خاص بهم بعد. ميشال، اسمه الحركي، كان مقتنعاً بكل ما قام به.
بدأ سعيد مقاومته العسكرية من خلال الحزب الشيوعي منذ عام 1982، حيث عمل على إطلاق مضادات للطائرات في كل من عاليه وبحمدون وفالوغا وحمانا. وعام 1983، ساعد المقاومين من خلال تأمين الحاجيات اللوجستية من سلاح وطعام وغيرهما من الأمور، قبل أن يتمركز في الجنوب (عيتا الشعب، يارين، مروحين، ياطر، بلاط). يقول إنه «خلال عامين ونصف العام، شاركت في أكثر من 50 عملية استطلاع ومراقبة وتنفيذ».
فجأة، ومن دون سابق إنذار، ترك كل شيء وسافر إلى الكويت. خلع الزي العسكري الأحمر مرحلياً، من دون أن يترك العمل السياسي. يعزو السبب إلى الحرب الأهلية، وحاجته إلى مساعدة أهله. فكّر في أنه أدى قسطه من الواجب، وبات ممكناً ترك المهمة لغيره. دقّ ذلك الجرس الذي ذكّره بأنه حان وقت «تكوين المستقبل». عمل في الخليج حتى عام 1996، حين قرّر العودة إلى لبنان. كأن هذا الرجل قادر على الانتقال من مرحلة إلى أخرى بانسيابية مطلقة. بدا أنه لم ينفصل عن الحزب أبداً. عاد إليه من حيث تركه. لم يخمد نفسه المقاوم، بل خذله الحزب في الخمول الذي وجده فيه. وضع الظروف السياسية المحلية والإقليمية جانباً. تناسى تغيّر المرحلة. أراد إحياء التاريخ. قرر أن المقاومة يمكن أن تُخلق من العدم، تكفيها الإرادة. وهكذا كان. تمادى في حلمه، ووضع نُصب عينيه تحرير الأسرى. أزعجته خيانة الحلفاء وبحثهم عن مصالحهم الشخصية.
لم يكن سعيد وحده، بل شاركته مجموعة من المتحمسين القدامى والجدد. بدأ الإعداد للعملية التي حملت اسم سهى بشارة، وكانت ستنفذ في 16 أيلول عام 1998، ذكرى انطلاق جبهة المقاومة، لولا الكمين الذي تعرض له ورفيقه الشهيد بيار في الرحلة الاستطلاعية الثالثة. حافظ على شعارات المرحلة السابقة. قال إن العملية تهدف إلى «التحرير والتغيير الديموقراطي في البلد»، و«استكمال العمل النضالي والمقاوم الذي أسسه الحزب الشيوعي»، و«الرد على محاولة إنشاء سرايا المقاومة اللبنانية والالتفاف على الجبهة التي كانت مقاومتها وطنية علمانية، وعلى الطوائف وسلطة السوريين ورأس المال». كان على المتحمسين الدفع من جيبهم الخاص. أمّنوا 8 آلاف دولار لثلاث رحلات استطلاعية.
يقول سعيد إن هدف العملية كان أسر رجل استخبارات إسرائيلي وبدء عملية التفاوض لمبادلته بجميع الأسرى في معتقل الخيام والأراضي المحتلة. ويذكر أنهم في الرحلة الاستطلاعية الثالثة كانوا على بعد 150 متراً من موقع زغلة الإسرائيلي في حاصبيا، قبل أن يشتبك ورفيقه بيار مع نحو 20 جندياً إسرائيلياً أثناء عودتهما. استشهد الأول، فيما أصيب هو في أماكن عدة وأسر وأودع معتقل الخيام. ويشرح أن المجموعة الاستطلاعية كانت تضمّ شخصين إضافيين تمكّنا من إتمام مهمتهما والعودة إلى الديار، والاستفادة من المعلومات التي جمعاها وتنفيذ عمليتين ضد العدو.
خضع سعيد لقصص التعذيب ذاتها التي رافقت كل معتقل. لكنه لم يعترف بشيء. قال فقط إن بيار هو المسؤول، وقرّرنا معاً تنفيذ العملية. حمى باقي المجموعة، علماً بأن هاتف أحدهم وقع في يد الجيش الإسرائيلي من دون أن يتمكنوا من الحصول منه على معلومات إضافية. لكن مشروع العملية حقق مبتغاه. تحررت بشارة بعد 21 يوماً من أسره. برأيه، أرادت إسرائيل إسكات الشيوعيين وإبعادهم.
لا يزال سعيد شيوعياً وحزبياً فقط. لا مجال للمقاومة العسكرية اليوم. فالعدو أصبح بعيداً. يؤيّد بقاء سلاح حزب الله، لكنه يرى أن الأخير أزاح النزعة الوطنية للصراع.
السبت ١٥ أيلول ٢٠١٢