الموظفون يلتزمون الاعتصام في مواجهة الوعود العرقوبيّة
يمكن أن يُسجّل للحكومة الحالية إنجازات «تاريخية» في إعادة شدّ عصب الحركات النقابية والعمالية. فمنذ سنوات طويلة، لم يشهد القطاع العام في لبنان حالة احتجاجية كالتي حصلت أمس. غالبية الوزارات والإدارات العامة التزمت الاعتصام تلبية لدعوة هيئة التنسيق النقابية. أما المطلب ــ السؤال فواحد: «ما مصير سلسلة الرتب والرواتب؟». واليوم، سينزل القطاع العام بثقله الكامل إلى الشارع في تظاهرة تنطلق عند العاشرة صباحاً من البربير إلى السرايا الحكومية
رشا أبو زكي
عند العاشرة من صباح يوم أمس، كان شكل معظم الوزارات والإدارات العامة مختلفاً. شاشات الكومبيوتر سوداء. الكراسي متروكة بلا أصحابها. الأوراق متراكمة على بعض المكاتب. هدوء عام داخل المبنى يكسره صخب المطالب خارجه. فقد لبّى أكثر من 8 آلاف موظف (من أصل 8900) نداء هيئة التنسيق النقابية. اعتصموا مطالبين الحكومة بتحرير سلسلة الرتب والرواتب من يد اللجنة الوزارية المكلفة دراستها منذ حزيران الماضي.
هذه اللجنة، شكلها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تحت وعد قطعه أمام هيئة التنسيق ووسائل الإعلام كافة: «لا تقاطعوا الامتحانات الرسمية، وسنقرّ سلسلة الرتب والرواتب قبل نهاية حزيران». انتهى الشهر الموعود على وقع المماطلة، فإذا بالوعد يتحول تسويفاً، لتخرج تصريحات متناقضة خلال اليومين الماضيين، كقول وزير الاقتصاد والتجارة نقولا نحاس إن الحكومة «لن تعمل تحت الضغط»، قبل أن يسأل: «هل تستطيع الدولة تحمّل كلفة السلسلة التي تصل الى 3 آلاف مليار ليرة؟». ومن ثم يناقض الوزير نفسه بالقول: «لا توجد أرقام منجزة حتى الآن»، ليؤكد بعدها أن «الخلاف مع هيئة التنسيق النقابية هو على التفاصيل؛ لأن مطالبهم بمعظمها تحققت»!
الوعود والردود
وقال نحاس لـ«الأخبار» إن العمل على سلسلة الرتب والرواتب لا يزال مستمراً في عمق المشروع الذي قدّمت مسوّدته وزارة المال، مشيراً إلى أن الأمر «ينجز بتأنٍّ حالياً، سواء في اللجنة المكلفة أو بالتنسيق مع وزارة المال ومجلس الخدمة المدنية». وحذّر من أي خطوات ناقصة، لافتاً إلى أن وزارة المال «قدّمت جزءاً من الحل، لكنها لم تقدّم حلاً متكاملاً»، وأن مثل هذا الحل يجب أن يكون مبنياً على التعامل مع فئتين أساسيتين من موظفي القطاع العام، ولا سيما السلكان الإداري والعسكري. فالمشكلة الأساسية هي في العدد الأكبر من الموظفين وكلفته؛ إذ إن المعلمين يمثّلون نحو 40 ألف موظف، فيما يمثّل العسكريون نحو 100 ألف، وبالتالي فإن الكلفة الكبيرة تتركّز في هاتين الفئتين، «وهذا يعني أن علينا العمل على تصحيح متوازن وعادل في السلسلة، فضلاً عن ضرورة أن يكون مستداماً، أي أن تكون كلفته محتملة». وقال: «ما يحصل حالياً هو أن الاقتصاد على طريق الانكماش، فيما الحدود مغلقة والتصدير يتراجع، على الجميع أن يتحمل مسؤولية خياراته، ومن لديه اقتراحات مجدية أكثر فليقدّمها».
إلا أن رئيس هيئة التنسيق النقابية حنا غريب، اتهم اللجنة الوزارية بمحاولة إعادة الموظفين والأساتذة إلى النقطة الصفر. وأوضح لـ«الأخبار» أن تصريحات الوزراء «تشي بتراجعهم عن الاتفاقات» التي عقدت مع الهيئة؛ «إذ إن رئيس الحكومة وعد بإقرار السلسلة في حزيران، واليوم يعلن وزير الاقتصاد أنها ستُقَرّ نهاية آب، ثم يؤكّد في الوقت ذاته أن السلسلة انتهت». وسأل: «إذا انتهى إعدادها، فلم التأخّر في إقرارها؟».
واستغرب رئيس الهيئة تنبيه نحاس إلى «عدم رضوخ الحكومة للضغط»، متسائلاً: «على أي أساس عقدوا معنا اجتماعات تنسيقية؟ وهل كان الحوار تمثيلاً على الرأي العام، أم لإدخال قضيتنا في متاهة المماطلة؟». وانتقد غريب كلام وزير العمل سليم جريصاتي عن حصول الهيئة على 80 في المئة من مطالبها، وقال: «فليقروها إذن! من دون مراوغة. الـ 80 في المئة لا تزال وعوداً وسمكاً في البحر، فليخرجوا السمك إلى البر لنطعم أولادنا».
وشدد غريب على أن الأساتذة جزء من القطاع العام «والسلسلة هي لكل القطاع العام، ولا تعنينا وحدنا، ومحاولة القول إن السلسلة جاهزة للأساتذة، وإن تلك المتعلقة بالموظفين تتطلب وقتاً، ليس سوى محاولة لشق هيئة التنسيق التي عبرت كل الطوائف والمناطق من أجل مطلب موحد». وحذّر من أن «محاولة تحويل هيئة التنسيق النقابية إلى اتحاد عمالي ثانٍ لن تنجح، ولن تسمح الهيئة باستفراد القطاعات كل على حدة، أو بالانقضاض على الحقوق وضرب العمل النقابي».
وأكد نائب رئيس رابطة موظفي الإدارة العامة وليد الشعار لـ«الأخبار» أن نسبة التجاوب مع دعوة هيئة التنسيق في الوزارات والإدارات العامة كانت شبه كاملة، باستثناء وزارة المال في صيدا، حيث لم يُسمح للموظفين بالاعتصام.
وذكّر بأن مطلب المعتصمين هو إقرار السلسلة كما أحالها وزير المال محمد الصفدي على الحكومة بعد أن أعلنت هيئة التنسيق النقابية الموافقة على معظم بنودها، مشيراً إلى أن هناك 30 ألف أستاذ و120 ألف عسكري و8900 موظف في الإدارة العامة ينتظرون زيادة رواتبهم منذ أشهر. وأوضح أن قيمة الزيادة للموظفين بحسب مشروع وزير المال تصل إلى 139 مليار ليرة، والمعلمين 409 مليارات ليرة، والقوى العسكرية 498 مليار ليرة. وأعلن أن الحكومة أقرت سلسلة لأساتذة الجامعة اللبنانية والقضاة، ولا يمكنها التعاطي مع بقية موظفي الدولة على أنه لا حقوق لهم.
وقال: «فلتعلن الحكومة أنها حكومة تقشف، لكي تسكتنا، لكن أن تعد موازنة فضفاضة فيها أرقام بمليارات الليرات كنفقات غير معلومة الوجهة، ومن ثم تمتنع عن زيادة رواتبنا، فهذا ما لا نقبله».
وعن اعتبار جريصاتي إضراب الموظفين مخالفة للمادة 15 من القانون، أجاب الشعار: «ليلتزموا القانون، واتفاقية العمل الدولية التي تنسف المادة 15 التي أكل عليها الزمن وشرب».
اعتصامات في كل لبنان
وسط هذه المعمعة، يحاول موظفو القطاع العام باعتصامهم أمس، وفي تظاهرتهم المركزية اليوم، التي ستضم الأساتذة والمعلمين، انتزاع جواب واضح عن سؤال واحد: «متى ستقر سلسلة الرتب والرواتب وفق الاتفاقات مع رئيس الحكومة؟ ونقطة على السطر». السؤال العصي عن الإجابة، كما يبدو، كان حاضراً في الاعتصام الذي نفذه موظفو وزارة المال أمام مبنى الوزارة. تنظر إحدى الموظفات إلى مبنى الوزارة الذي يجري ترميمه منذ نحو عام ونصف عام، وتقول: «ترميم الحجر هنا يكلف آلاف الدولارات، ونحن البشر نئن من الجوع». عبارة ترسم ابتسامة مريرة على وجه عصام اللقيس، الموظف في دائرة تخليص رواتب المتقاعدين منذ 25 عاماً، والذي لا يتعدى راتبه الـ 750 ألف ليرة، «لا تكفيني ثمن أدوية».
مدير الشؤون الادارية في الوزارة فيصل قسيس، الذي يتقاضى مليوناً و100 ألف ليرة شهرياً بعد 34 عاماً من الخدمة، يسأل: «هل يريدوننا أن نسرق؟ هل نعيش على وعود الزيادة على الراتب الى حين الممات؟».
الحديث نفسه يتكرر أمام وزارة الاقتصاد والتجارة. الموظفون الذي هُدّدوا بـ«إجراءات عقابية» من قبل المدير العام في اعتصامهم السابق قبل نحو ثلاثة اسابيع، عادوا إلى الشارع. يقول فؤاد الشامي الذي يعمل منذ 3 سنوات ويتقاضى مليون ليرة إن الوعود أصبحت مرهقة، والديون تتراكم على الموظفين، في انتظار «الزودة» الموعودة. ويلفت المراقب في مديرية حماية المستهلك مارون منصور، العامل منذ 38 عاماً في الوزارة، الى أنه لا يريد سوى الانصاف: «اتقاضى مليوناً و900 ألف ليرة ومن ضمنها بدل النقل، وسأخرج قريباً الى التقاعد بحيث سيُحتسَب راتبي على أنه مليون ونصف مليون ليرة، فكيف سأعيش شيخوختي؟».
الى وزارة الاتصالات، تقف آمال شكر بين زملائها ولا تنطق إلا بعبارة واحدة: «يا عيب الشوم على هالدولة». فهي تعمل في الوزارة منذ 31 عاماً، وراتبها مليون ليرة فقط. تقول شكر: «ننتظر منذ آب الماضي زيادة راتبنا، انها مراوغة».
وتساءل محمد هاشم، وهو رئيس دائرة في وزارة الاتصالات لا يتعدى راتبه المليون ونصف مليون ليرة: «أهلي باعوا أراضي لكي يعلموني، ماذا سأبيع لأعلم أولادي؟».
هموم الرواتب الهزيلة و«الزودة» جابت كل المناطق اللبنانية أمس، وشكوى الموظفين واحدة: «من يسأل عنّا وعن معاناتنا المتواصلة؟». وفي اعتصامهم أمام وزارة التربية، أكد الموظفون أن وضعهم لم يعد يُحتمل. فيما شارك نقيب المعلمين في المدارس الخاصة نعمه محفوض في الاعتصام، وأعلن تفهمه لكلام رئيس الجمهورية ميشال سليمان حين قال إنّ «القطاع العام هو أساس الدولة ولا يمكن فصله عنها وإنّ المسؤولين عن هذا القطاع هم أمناء على الدولة ومصالحها ومصالح أبنائها»، لكنه سأل عمّا إذا كان سليمان في جو الاتفاقات بين هيئة التنسيق ورئيس الحكومة والتراجعات عنها، لافتاً إلى «أننا سنأخذ موعداً من الرئيس وسنضعه في أجواء مفاوضات بدأت منذ 10 أشهر». وأكد: «لسنا أصحاب سلبية ولن نأخذ القطاع العام إلى الانهيار ليقيننا بأنه العمود الفقري للدولة اللبنانية».
وردّ محفوض على قول وزير الاقتصاد إنّ هيئة التنسيق غير قادرة على فهم الوضع الاقتصادي، بالقول إن وزارة المال هي من وضعت السلاسل، وسأل: «هل تعمل الحكومة موحدة أم بالقطعة؟».
وكان وزير التربية والتعليم العالي حسان دياب قد اعلن أنه بُتَّ كل مطالب هيئة التنسيق النقابية، والمطالب الاضافية لهيئة التنسيق بسلسلة الرتب والرواتب الخاصة بالإدارة موضوع يحتاج الى وقت. فيما أشار نحاس الى ان تحرك هيئة التنسيق النقابية يضر بالتلاميذ، وقال: «كفى ظلماً». فيما رأى وزير العمل أن «الامتناع عن تصحيح مسابقات الشهادتين الثانوية والمتوسطة هي أسر للطلاب اللبنانيين»، مؤكداً تلبية 80 في المئة من مطالب المعلمين. وقال إن «شعارات هيئة التنسيق فارغة، لمطالب تحققت».
158 ألفاً و900
هو عدد المستفيدين من سلسلة الرتب والرواتب من معلمين وقوى عسكرية وموظفي قطاع عام. وهؤلاء لم يحصلوا حتى اللحظة على الزيادة على غلاء المعيشة التي تقاضاها موظفو القطاع الخاص في شباط الماضي
انفصام أم زلة لسان؟
هل كان تصريح وزير العدل سليم جريصاتي بشأن مخالفة موظفي الإدارة العامة لقانون الموظفين زلة لسان؟ هذا على الأقل ما تمناه أمس موظفو وزارة التربية، مستغربين كيف أن الوزير نفسه الذي وقّع الاتفاقية الدولية الرقم 87 الخاصة بالحرية النقابية وحماية حق التنظيم النقابي، يحظر عليهم المشاركة في تحركات هيئة التنسيق النقابية من أجل إقرار سلسلة الرتب والرواتب تحت ذريعة المادة 15 التي تمنع الموظف من الإضراب والاعتصام والتمنع المتعمّد عن أداء الخدمة العامة.
الاربعاء ٢٥ تموز ٢٠١٢