لبنان بلا عقل

تهميش البحث العلمي وتشجيع هجرة الأدمغة يدمّران المستقبل

نعم، لبنان بلا عقل. فالبحوث العلمية التي تعد شرطا رئيسا من شروط التقدّم في جميع دول العالم، لا تحظى بأي اهتمام فعلي في لبنان، فالدولة لا تنفق على تطوير عقلها سوى اقل من 0،5 في المئة من مجمل الإنفاق، ولا يحظى دعم الابحاث في الجامعة اللبنانية بأي حصّة من هذا الانفاق، ما عدا بعض الفتات الباقي من موازنة «تشغيلية» للجامعة. لعل ذلك السبب الأبرز لبعد اللبنانيين عن معرفة واقعهم بكل الميادين... والاكيد ان التجهيل هو صناعة يتقنها النظام المجتمعي القائم

رشا أبو زكي

تسيطر على اللبنانيين أسطورة التفوق على نحو واضح. يظنون أنهم أرباب العلم والحضارة والتطور. نظرة من خارج الاصطفاف «الشوفيني» توضح الصورة أكثر. صورة مرسومة بانحدارات اكاديمية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية، ثقافية ونفسية. صورة تنقل لبنان الى العالم على أنه بؤرة من التخلّف المهيمن على العلاقات والبنى المؤسساتية بكل انواعها. صورة تظهر أن المجتمع اللبناني قائم على الأساطير، إن لم يكن هو نفسه بتجمعاته المتنافرة أسطورة «مفتعلة» بحدود بلد «ملتبس»، إذ عكس الاسطورة هو الواقع، ولمعرفة الواقع لا بد من العلم، والدخول الى العلم لا يتحقق بلا أبحاث وأرقام إحصائية موثقة.

ضعف الابحاث اللبنانية قد يكون من الاسباب الاساسية لعدم معرفة المجتمع اللبناني خصائصه، وتالياً تقويم تفاعله وواقعه محلياً وعالمياً. فعلياً، لبنان لا يصنع العقول العلمية، التي لا تنحصر طبعاً في الفيزياء والكيمياء وانما تمتد الى الاجتماع والاقتصاد والبيئة والنفس وغيرها. تغيب العناصر الإبداعية عن مناهجه الاكاديمية، وإذا انتصر مبدع لبناني على آلة العشوائية «الشغّالة» دوماً، تتلقفه جميع بلدان العالم الا دولته الأم. فلبنان ليس فقط بعيداً عن صناعة العقول العلمية، بل حين تتوافر الظاهرة استثنائيا، يحرص على قذفها الى خارج حدوده الجغرافية. وحين يصبح المبدع اللبناني خارجاً، ترتفع الصيحات الرسمية ابتهاجاً بـ «الكفاءات اللبنانية في الاغتراب»، وما يتبعها من «نمو تحويلات المغتربين التي تحيي النموذج الاقتصادي اللبناني»... ويدور التصفيق.

التخلف البحثي

واقع لبنان من واقع الدول العربية. لعل المعلومة الأكثر تداولاً في الابحاث المتعلقة بغياب أرضية البحث العلمي في العالم العربي، هي أن مجموع ما تُرجم من كتب الى العربية منذ عصر المأمون حتى اليوم هو 10 آلاف كتاب، وهو عدد يساوي ما تترجمه اسبانيا في عام واحد. هذا المؤشر يفتح الباب واسعاً امام دراسة كيفية تغييب لبنان لمبدأ اساسي لتنمية الشعوب والدول، أي البحث العلمي، إذ تنحو الدراسات والمقالات العالمية الى اعتبار أن النفط لم يعد معياراً لتحديد مدى تطور المجتمعات ورخائها، ولم تعد الارض واستخراج ما تحويه، من المحددات الأساسية لفقر أو ثراء الدول، وانما ما يجري استخراجه من العقول.

تشرح رانيا بو خير، وهي اللبنانية الحائزة الجائزة الفرنكوفونية للبحث العلمي، أن البحث العلمي يمثل تحديا اقتصاديا واجتماعيا في مختلف انحاء العالم، وهو شرط اساسي لبقاء الجامعات، وتحديد المستوى التعليمي فيها، إذ إن البحوث تغير الكثير من الواقع المعيش، من العمارة والطب وتأثير العوامل المسببة لحالة انسانية معينة، كالطلاق والقتل والسرقة والبطالة، مع اعتماد نماذج احصائية متطورة وتكييفها حسب الظروف الموجودة في لبنان. توضح بو خير في بحث لها عن واقع البحث العلمي في لبنان أن نسبة البحوث التي أنتجتها مختلف المؤسسات في لبنان الحكومية وغير الحكومية منذ نشأتها حتى عام 2011 يمكن اعتبارها ضئيلة.

أنتجت الجامعة اللبنانية منذ نشأتها 1738 بحثاً (نشرت في مقالات في الصحف، أو في المؤتمرات، او في الكتب). أما الجامعات الخاصة، فأنتجت 9303 أبحاث. مراكز الابحاث الرسمية اللبنانية توصلت الى 322 بحثاً، المستشفيات العامة 66 بحثاً، المستشفيات الخاصة 4522 بحثاً، المؤسسات الاستشارية الخاصة 67 بحثاً. وتشرح دراسة بو خير أن 4 جامعات في لبنان من بين 19 جامعة ومؤسسة بحثية رسمية تستحوذ على 71 في المئة من اجمالي البحوث المنشورة المحكّمة (11363 بحثاً)، فيما تستحوذ 3 مستشفيات فقط بين جميع المستشفيات العاملة في لبنان على 87 في المئة من البحوث المنشورة المحكّمة (البحوث المحكّمة هي المنشورة في مجلات علمية متخصصة وحاصلة على تقويم وتحكيم باحثين متخصصين معترف بأهليتهم الأكاديمية البحثية).

أما عن تطور البحث العلمي في جامعات ومراكز الابحاث بين اعوام 2007 و2011، فقد ارتفع العدد بمستويات هزيلة جداً في الجامعات (من 317 في عام 2007 الى 362 في عام 2011). وكذلك هي الحال في مراكز الابحاث الرسمية (من 34 الى 69 بحثاً)، فيما سجلت نمواً بطيئاً في المستشفيات (من 788 الى 1124 بحثاً) لتتراجع في مؤسسات الاستشارات الخاصة من 8 أبحاث الى بحثين فقط في عام 2011! علماً ان التطور الحاصل في عدد الابحاث العلمية في الجامعات ارتكز على ثلاث جامعات فقط، فيما بقي العدد مستقراً سلباً لدى جميع الجامعات المتبقية، بينما يسجل المؤشر تطوراً في مستشفيين في مقابل تراجع واستقرار سلبي في المستشفيات الاخرى، التي للمفارقة يحمل عدد كبير منها رخصة مستشفى جامعي.

المثير للغرابة، أن اختصاصي الاقتصاد والاعمال، والفنون والعلوم الانسانية في الجامعات الخاصة في لبنان يستحوذ على 61 ألفاً و183 طالباً، الا أن عدد الابحاث التي استفاد منها اساتذة هؤلاء الطلاب للنشر جاءت على التوالي 0.90 في المئة و0.50 في المئة فقط، فيما عدد الطلاب المتخصصين في الهندسة هو 13 الفاً و136 طالباً لم ينشر سوى 0.75 من ابحاثهم، والحال هي نفسها بالنسبة الى طلاب علوم المعلوماتية، الذين يبلغ عددهم 11 الفاً و807 طلاب، لم ينشر من اعمالهم سوى 0.9 في المئة. اما في الجامعة اللبنانية، فإن عدد طلاب الفنون والانسانيات وصل الى 37 الف طالب، لم ينشر من ابحاثهم اي بحث، بينما عدد طلاب العلوم البيئية يبلغ 101 طالباً، نشر من ابحاثهم 14.9 في المئة. واللافت كذلك، ان 81 في المئة من الابحاث في مختلف المؤسسات في لبنان (جامعات ومراكز ابحاث) منذ نشأتها تركز على الابحاث الفيزيائية، فيما الأبحاث الصحية تحصل على نسبة 14 في المئة فقط من اجمالي الأبحاث، والاجتماعية على 5 في المئة من الابحاث الاجمالية. بالنسبة إلى الأساتذة الناشرين حتى عام 2011 ومن مختلف جامعات لبنان لا يتعدى عددهم 1308 أساتذة، من بين 13 ألفاً و455 أستاذاً، أما عدد الابحاث المنشورة من قبل هؤلاء، فهو 1134 بحثاً فقط لا غير.

وفي مقارنة مع الدول العربية، تحتل الجامعة الاميركية في بيروت المرتبة الـ8 في التصنيف العربي للجامعات (عدد الجامعات الداخلة في التصنيف 118 جامعة عربية)، فيما تحتل الجامعة اللبنانية المرتبة الـ37، فجامعة القديس يوسف في المرتبة الـ65، الى الجامعة اللبنانية الأميركية في المرتبة الـ67، وصولاً الى جامعة البلمند في المرتبة الـ95، وجامعة بيروت العربية في المرتبة الـ116. وترى بو خير أنه يمكن للبنان أن يحتل مراكز عالمية في البحث العلمي، الا أن هذا الموضوع يواجه إهمالاً أكاديمياً ورسمياً واضحاً.

إنفاق ضئيل جداً

بالانتقال الى العالم، يغيب لبنان عن اي مرتبة مكونة من ثلاثة أرقام. بحيث يُظهر مؤشر ترتيب الجامعات ومراكز الابحاث، وفق الابحاث المنشورة في الدوريات الموثقة عالميا بين فترة 1996 و2008، أن الجامعة الاميركية في بيروت تحتل المرتبة 1159 في العالم (الترتيب يشمل 2124 جامعة)، فيما تحتل جامعة القاهرة في مصر المرتبة 592. أما من حيث عدد الدوريات الموثقة والمفهرسة في قواعد المعلومات العالمية، فلا يتعدى عددها الـ 8 من لبنان، علماً ان عدد الدوريات العالمية في قاعدة المعلومات العالمية يصل الى 56 الف دورية. وفي تقرير هو الاحدث صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في تصنيف المراكز البحثية في 127 دولة لناحية كفاءتها وتميزها البحثي، لم ترد الدول العربية الا في المرتبة الـ36 التي احتلتها تونس، وغاب لبنان عن التصنيف.

وتشير قاعدة معطيات البنك الدولي والمجلس الوطني للبحوث العلمية الى ان لبنان انفق 0.2 في المئة من الناتج المحلي على البحث العلمي. ويرى رئيس المجلس معين حمزة انه لا توجد الية او قاعدة ثابتة لاحتساب الانفاق على البحث العلمي في اي دولة، ولا توجد قاعدة معتمدة عالمياً، لكن رغم تناقض المعايير يمكن القول ان العالم العربي ينفق 0،2 في المئة فقط من ناتجه القومي على البحث العلمي، وذلك بحسب تقرير UNDP في عام 2009 وبحسب التقرير العربي، مع تفاوت شديد بين 22 دولة عربية، فيما الدخل القومي للدول العربية يمكن تقديره بحوالى الف و400 مليار دولار، بحيث لا تنفق هذه الدول سوى 2.8 مليار دولار على البحث العلمي، أي ما يعني حوالى 10 دولارات لكل مواطن عربي في السنة، فيما تصل القيمة الى 350 دولاراً لكل مواطن في بلد صغير مثل فنلندا، التي تنفق 3.8 في المئة من دخلها القومي على الابحاث.

يشرح حمزة ان لبنان لا يشذ عن القاعدة العربية في الانفاق الضئيل على تنمية العقول. علماً ان قانون انشاء المجلس الوطني للبحوث عام 1962 لحظ بوضوح أن موازنة المجلس الوطني يجب ألا تقل عن 1 في المئة من الموازنة العامة. وخلال 50 عاما لم تحترم هذه النسبة الا مرة واحدة في بداية الستينيات، في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وبعد ذلك جرى تناسيها. وفي أحد قوانين الموازنة السنوية في بداية التسعينيات جرى تهريب مادة في قانون الموازنة استبدلت أن لا تقل عن 1 في المئة بكلمة أن لا تزيد عن 1 في المئة. وبالتالي فإن مساهمة الدولة في موازنة المجلس لم تزد عن 6 مليارات ليرة سنويا منذ عام 2002. بينما تمثل هذه النسبة ما لا يزيد على 40 في المئة من نفقات المجلس، ويسعى المجلس إلى تحصيل الفارق من خلال كلفة الخدمات العلمية التي يؤديها للقطاع العام والخاص، والبرامج الثنائية والدولية التي يحصل عليها. ويقدر حمزة اجمالي الانفاق على البحث العلمي من قبل كافة المؤسسات العامة والخاصة، وكافة مراكز الابحاث الصناعية والزراعية والبحثية في لبنان بما لا يتعدى الـ 3 مليارات دولار سنوياً، 50 في المئة من هذا المبلغ تنفق على التجهيزات والموازنات التشغيلية لمشاريع البحوث والتنمية، و50 في المئة نفقات غير مباشرة تتعلق برواتب الباحثين.

واقع مؤسف، يغيب عن بال اللبنانيين من الفئات كافة، وفي ظل مشهد قاتم كهذا، لا يمكن استغراب حفلات الجنون، إن كان في السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة، أو الهذيان الحاصل في الجامعات والشارع. بلد لا يعرف شيئاً عن نفسه، هو بلد بلا عقل.

11 باحثاً عربياً

يجري الاستشهاد بأبحاثهم في الدوريات الموثقة عالمياً، وينتمون كلهم الى جامعات سعودية، الا ان المفارقة أن واحداً فقط من بين هؤلاء يحمل الجنسية العربية، وجميع الاخرين من جنسيات اجنبية.

إسرائيل... العالمية

نشرت اسرائيل 16826 بحثاً عام 2011 وحده، فيما لم ينشر لبنان سوى 1557 بحثاً. وكذلك نشر لبنان بين عامي 2007 و2011 حوالى 6038 بحثاً، في المقابل نشرت اسرائيل 81 الفاً و800 بحث. ويشرح الباحث الفلسطيني خالد سعيد ربايعة، ان اسرائيل تنفق 4.7% من انتاجها القومي على البحث العلمي، وهذا يمثل أعلى نسبة انفاق في العالم. اما بالنسبة إلى براءات الاختراع، فقد سجلت الدول العربية مجتمعة حوالى 836 براءة اختراع في كل تاريخ حياتها، وهو رقم يمثل 5% فقط من عدد براءات الاختراع المسجلة في إسرائيل.

الاثنين ٢٥ حزيران ٢٠١٢

الأكثر قراءة