هل انتهت «الأغنية السياسية» اللبنانية، تلك التي بدأت تحفر مكانتها ومكانها في اللحظة التي سبقت الحرب الأهلية في لبنان؟ في تلك اللحظة، كانت المحاولات الأولى التي بدأت تتمخض عن قول ولحن جديدين، والتي ازدهرت لتأخذ اتساعها في سنوات الحرب، لتتبوأ طليعة الأغنية، نظرا أيضا إلى ما طرحته من قضايا، على مختلف الصعد.
هي أكثر من ظاهرة، وهم أكثر من أسماء، عرفت كيف تستمر لتذهب شيئا فشيئا نحو تكريس لكلّ هذا العمل، ولتترك معها جمهورا، رافقها، وما زال يحن إليها، وبخاصة عندما تشتد أزمة ما، أو حين يأتي حدث ليذكرنا بكثير من الأشياء التي لا تزال عالقة.
هذه الذكريات هي التي يلاحظها المرء في الحفل الفني الذي أقامه خالد الهبر والفرقة، مساء الثلاثاء الماضي، في قاعة قصر اليونسكو في بيروت، والذي أتى ضمن سياق الاحتفاء بالأول من أيار. للعمال عيدهم، والهبر لم يتوقف، منذ البداية، عن خياراته السياسية بالدرجة الأولى، أي لم يتوقف عن توجيه التحية للعمال الذين يشكلون فضاء تحركه، ومجاله الحيوي في الكتابة والتلحين والغناء. والجمهور أيضا لا يتوقف عن ملاحقة الهبر من حفلة إلى أخرى، كأنه أسس وراءه أكثر من جمهور، أي أسس مريدين، لا يتوقفون عن الصراخ له، وعن الهتاف بتحيته، وعن مطالبته باستعادة أغان قديمة، يرغبون في العودة للاستماع إليها، مباشرة، حتى ولو كانت موجودة على تسجيلات قديمة.
لكن قد لا تكون هذه التسجيلات القديمة، كافية ليعرف المستمع التطور اللحني الذي طرأ عليها، فغالبية الألحان القديمة، عُمل عليها مجددا منذ سنوات، لتقدم في توزيع جديد حملها إلى أماكن أخرى، لتحمل معها بالتأكيد أنفاس ريان الهبر، الذي يعمل مؤخرا مع والده، ليقدم صيغته الموسيقية الجديدة.
ثمة صيغة لحنية إذاً في عمل خالد الهبر، وقد بانت في حفلته هذه، ليستعيد فيها العديد من قديمه، لكن أيضا بعض جديده. وفي كلّ مرة، ثمة مسّ كهربائي يعود ليشتعل بين المتلقي والفنان، لكن أحيانا، يطغى حضور الجمهور أكثر، بمعنى لا يتوقف هذا الجمهور عن المطالبة بالعودة إلى هذه الأغنية أو تلك، كأنه بذلك يستعيد حنينا «تاريخيا»، وكأنه لا يرغب في الاستماع إلى الجديد، أو لنقل لا يرغب في التعرف إلى الجديد في لحظة التماس هذه، بل كأنه يؤجلها إلى فترة لاحقة، ولا يريد سوى الاستمرار في لعبة التماهي هذه.
في أي حال، حفلة أخرى لخالد الهبر، الذي لا يزال واقفا عند خياراته، وهي الخيارات التي لا يتخلى عن مبادئها، وأقصد بهذا، الخيارات السياسية التي انطلق منها منذ بداياته، والتي لا يزال يدافع عنها في نصوصه، بعيدا عن العمل الموسيقي، الذي يعرف منذ سنوات عملا مختلفا وتطورا في اتجاهات أخرى.
إسكندر حبش