محمد زبيب
لا يستحق «الخونة المأجورون» أن يُذكروا إلا في سياق محاكماتهم، ولا سيما إذا كانوا من «الصغار جدّاً» الذين يؤدّون أدواراً هامشية «غب الطلب». إلا أن ما فعلته قيادة الاتحاد العمّالي العام في خضم معركة تصحيح الاجور الاخيرة يفرض تجاوز هذه القاعدة قليلاً. ليس فقط لأن هذه «القيادة» أدّت دوراً مشهوداً في هذه المعركة أسهم في ترتيب المزيد من النتائج الكارثية على شريحة واسعة من اللبنانيين، بل أيضاً لأن المحاكمة على فعل «الخيانة» مؤجّلة لفترة طويلة على ما يبدو، ربما إلى حين قيام حركة نقابية عمّالية مستقلّة عن سلطة رأس المال تتولى مهمّة إعادة الامور إلى نصابها الطبيعي، أي إلى منطق الصراع الطبقي الطبيعي.
إذاً، لا مناص من أن تُذكر قيادة الاتحاد العمّالي في مناسبة جليلة كيوم العمّال العالمي. هذا اليوم الذي تكرّس «عيداً» للاحتفاء بنضالات العمّال القاسية والمديدة، والتي أدّت إلى إنجازات ومكاسب كثيرة يجدر الدفاع عنها لا التفريط بها، وهو ما فعلته هذه «القيادة» أخيراً، وتوّجت به عملاً دؤوباً وممنهجاً قضى بتدمير العمل النقابي في لبنان، بوصفه تدبيراً «حمائياً» أو شرطاً من شروط إرساء النمط الاقتصادي «الإقصائي» الذي هجّر الكثير من اللبنانيين وأفقرهم.
لم يكن أحد يتوقّع من غسان غصن وصحبه أن يتحوّلوا إلى أبطال في مواجهة من نصّبهم «عنوة» ممثلين عن العمّال، إلا أن أحداً في المقابل لم يكن يتوقّع أن يبلغ تواطؤهم ضد مصالح من يدّعون تمثيلهم هذا المستوى المكشوف. كان الجميع يتوقّع أن يحافظوا على «الشكل»، أن يتواطأوا تحت الطاولة كعادتهم، أو أن يصمتوا في أحسن الاحوال، ولكنهم ذهبوا بعيداً هذه المرّة، فلم يكتفوا بتضييع فرصة نادرة لتحقيق مطالب أساسية وملحّة، بل ضيّعوا حقوقاً محصّنة بالدستور والمعاهدات الدولية والقوانين لمصلحة الإذعان لمصالح سلطة المال الفعلية، وقبلوا بأداء دور «المرتزقة» في خطّة إسقاط مشروع وزير العمل المستقيل شربل نحّاس، أو بالأحرى إسقاط أحلام اللبنانيين بمشروع التغطية الصحية الشاملة لجميع المقيمين، وإضفاء بعض العدالة على النظام الضريبي الجائر عبر فرض الضرائب على المضاربات العقارية والمالية القاتلة، وتصحيح الأجور وتحصينها عبر ضم بدل النقل إليها وإلزام المؤسسات بتسديده واحتسابه في تعويضات نهاية الخدمة... فعلوا ذلك بدم بارد وهم على يقين بأنهم لن ينالوا العقاب على فعلتهم! فمن يُعاقب من في ظل إرساء ثقافة العفو عن الجرائم؟
لقد ارتضت قيادة الاتحاد العمّالي العام أن تتولى «العمل القذر»، بكل ما للكلمة من معنى، إذ يكفي التذكير بأنها بالتزامن مع إقرار مجلس الوزراء بتاريخ 21 كانون الثاني الماضي (لأسباب عدّة ليس مجال تحليلها هنا) رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 868 ألف ليرة، وقّعت اتفاقاً مع ممثلين عن أصحاب العمل يقضي برفع الحد الأدنى للأجور إلى 675 ألف ليرة، أي أقل بـ193 ألف ليرة، وأصرّت لاحقاً على تنفيذ هذا الاتفاق، بدلاً من قرار مجلس الوزراء الذي كرّس أيضاً وجود شيء خارج الأجر يدعى «بدل النقل»، وذلك على الرغم من اطّلاع هذه القيادة «العمّالية» على الدراسات التي عُرضت في لجنة المؤشّر، والتي أكّدت أن 45% على الاقل من الأجراء يجري حرمانهم من هذا «البدل»، فضلاً عن أن كل أجير، مهما كانت وضعيته، يخسر بموجب هذا «الاتفاق» نحو 10 ملايين ليرة وسطياً من تعويضات نهاية الخدمة، أي ما يوازي خسارة لجميع الأجراء النظاميين تقدّر قيمتها الحالية بملياري دولار.
لم يحصل في التاريخ أن أقدم من يدّعي تمثيل العمّال على مثل هذا الفعل «الشائن»، إذ كيف يمكن تفسير سلوك من هذا النوع: أن يقف اتحاد عمّالي عام ضد قرار صادر عن مجلس الوزراء (السلطة) يعطي العمّال مكاسب أكبر من التي وافق على منحها أصحاب العمل؟ المسألة لا تقف عند هذا الحد، بل إن قيادة الاتحاد العمالي بدلاً من تخجل من خيانتها أقدمت على التحالف مجدداً مع هيئات أصحاب العمل لتقديم شكوى إلى منظمة العمل الدولية ضد الوزير المستقيل شربل نحّاس، التهمة: عدم اعترافه بما سمّي «الاتفاق الرضائي»، ورفضه استمرار تواطؤ السلطة التنفيذية ضد مصالح من فرضت القوانين على الدولة حماية حقوقهم.
فقيادة الاتحاد العمّالي، بتوقيعها على «الاتفاق» المشؤوم مع أصحاب العمل ورفعها شكوى ضد نحّاس بذريعة وقوفه ضد ما يسمّى «الاتفاق الرضائي»، تنازلت عن حقوق مصونة في القوانين التي تفرض حفظ حقوق العمّال بتقاضي أجورهم كاملة وتصحيحها دورياً بنسبة غلاء المعيشة (أي السلّم المتحرّك للأجر)، سواء قبل أصحاب العمل بذلك أو لم يقبلوا. فهي تنازلت عن المكاسب الواردة في القانون رقم 36/67 الذي يفرض في مادته السادسة «أن يعيّن مجلس الوزراء الحد الادنى الرسمي للأجور ونسبة غلاء المعيشة وكيفية تطبيقها بناءً على الدراسات وجداول تقلبات أسعار كلفة المعيشة مرة كل سنتين على الأقل». كذلك تنازلت عن حصانة الأجر المكرّسة في المادة 57 من قانون العمل والمادة 68 من قانون الضمان الاجتماعي بوصفه يشمل البدل النقدي وسائر البدلات واللواحق والتقديمات العينية والمكافآت المعتادة وغيرها من المنافع التي يتلقّاها الأجير لقاء عمله، ومنها بدل النقل. وكذلك تنازلت عن المادة 44 من قانون العمل التي تفرض أن يكون الحدّ الأدنى للأجور كافياً ليسدّ حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته، أي أن يكون مساوياً لتقديرات خطّ الفقر الذي قدّر بحوالى 816 ألف ليرة شهرياً في نهاية عام 2011...
لائحة الاتهام تطول، فمتى يحين موعد المحاكمة؟
الثلاثاء ١ أيار ٢٠١٢