يوسف حاج علي
قرابة منتصف ليل الجمعة الماضي حمل الناشطان السياسيان علي فخري وخضر سلامة (صاحب مدونة «جوعان») قوارير الدهان الأحمر و«الستنسل». توجها إلى الطريق العام في منطقة رأس النبع لناحية تبعد بضعة أمتار عن جسر المشاة. حملا معهما شعارين، الأول «سوريا الثورة مستمرة»، والثاني صورة ملمّحة لرئيس عربي مع شعار «الشعب يسقط النظام». رشّا «الغرافيتي» على أحد الجدران وهمّا بالصعود في السيارة. لاحظهما عسكري من الجيش فصرخ بهما. وعندما حاولا أن يشرحا له الموضوع رفع جهاز اللاسلكي وأجرى اتصالاً. حضرت دورية برئاسة ضابط برتبة ملازم أول على عجل. اعتقلتهما ونقلتهما إلى مقر قيادة «فوج التدخل الخامس» في منطقة الكرنتينا. هناك حققت معهما مجموعة نصفها من العسكريين بالبزات الرسمية ونصفها الآخر من المحققين الذين تم إيقاظهم من النوم فحضروا بالملابس الرياضية و«البروتيلات» والمشاية «إم أصبع».
وبعدما جمعوا من سيارة سلامة ما أسموه «المضبوطات» وضعوها في صندوق صغير. صار صندوق «المضبوطات» المذكور يتنقل مع الشابين خلال رحلة التحقيقات. «المضبوطات» هي عبارة عن دفتر يحوي أرقاماً هاتفية لسلامة، ولافتة تقول «دولة ما بتسوى ليرة والبنزين بأربعين ألف ليرة»، وملصق لمحاكمة الشاب سمعان خوام، ودعوة لجمعية تعنى بالمعوقين، وكتابا «نقد الخطاب الديني» لنصر حامد أبوزيد و«قضايا في نقد العقل الديني» لمحمد أركون. الكتابان الأخيران سيظلان في عهدة الجيش لـ«مزيد من التدقيق فيهما».
كبّلوا أيديهما وأوقفوهما كل إلى ناحية ووجهه باتجاه الجدار. دام التحقيق زهاء ساعة من الزمن. قبل أن يتقرر نقلهما إلى مقر الشرطة العسكرية في منطقة المتحف. سيسمعان خلال التحقيق الأول عبارات من نوع: «سكوت ولاه! ما بتفتح تمّك! ما بترفع صوتك!». جندي «هرّب» سراً مياه الشرب لفخري الذي أجرى عملية جراحية في معدته أخيراً.
في مقر الشرطة العسكرية، حيث نقلا مخفورين، سمح لهما باتصال هاتفي واحد. أبلغ سلامة شقيقته الصغرى أنه سينام خارج المنزل بعدما طلب منه العسكري عدم الغوص في التفاصيل. وتولّى فخري الاتصال بناشطة صديقة بعدما ادعى أنها قريبته من أجل تعميم خبر الاعتقال. وضعا في زنزانة «مزرية»، عفنة، حمامها معطّل، لا يصل إليها ضوء، وتغزوها الصراصير.
في الصباح التالي وبعدما تناولا الفطور الذي أحضره الأهل بدأ التحقيق الثاني الذي استند على التحقيق الذي سبقه. لم يجد المحققون توصيفاً قانونياً واضحاً للتهمة. فتارة هي «محاولة فرار من عسكري»، وتارة أخرى «إثارة نعرات طائفية وانشقاقات»، وتارة ثالثة «زعزعة العلاقات مع دولة شقيقة»، وتارة رابعة «التحريض على أمن الدولة الداخلي».
بعد تحقيق الشرطة العسكرية سلّمتهما هذه الأخيرة إلى فصيلة طريق الشام التابعة لقوى الأمن الداخلي. حدث هذا عند الظهر. وضع الشابان في زنزانة مع سجين آخر لمدة ثلاث ساعات. كان الخبر قد انتشر بسرعة عبر موقع الـ«فايسبوك» ووصل إلى آذان الإعلام فبدأت الحملات الإلكترونية والحيّة. اعتصم المتضامنون أمام فصيلة طريق الشام ورفعوا اللافتات المنددة وقوارير الدهان. وبدأت اتصالات السياسيين والمراجع.
توسّعت التحقيقات بحضور ملازم وعنصر أمن مدني، وبإشراف ضابط برتبة رائد. تكرّرت الأسئلة «الكبيرة» ذاتها: من أرسلكم؟ من هي الجهة التي تموّلكم؟ ممن تقبضون؟ من أعطاكما الأوامر بالتنفيذ؟ هل تعملون مع سفارات أجنبية؟ من أين أحضرتم قوالب الرسم؟
لم يسمح للمحاميين بحضور التحقيق. وقّع الشابان على أقوالهما بعدما سمح لهما بقراءتها. تحقيق الأمن الداخلي ومعاملته كانا أرق من مثيلهما لدى الجيش. تقرّر نقلهما إلى «ثكنة بربر الخازن» في فردان. ليعاد التحقيق للمرة الرابعة على التوالي لدى محققي «الشرطة القضائية».
وقّع الشابان لدى «الشرطة القضائية» تعهّداً بعدم تكرار «الفعل»، أي الرسم على الجدران مجدداً، وأفرج عنهما بسندي إقامة مساء السبت. حيث من المفترض أن يرفع محضر التحقيق لاحقاً إلى النيابة العامة في بيروت التي تقرّر إذا ما كانت تريد الإدعاء في القضية، بعد تحديد التهمة، أم لا.
وعلى الرغم من عدم اقتناعهما بتوقيع التعهد، على الأرجح، لم يكن أمامهما خيار آخر. كان الحلّ الوحيد ليسمح لهما بالخروج من زنزانة بلد كثرت خيباته لتصل إلى حدّ القبض على «غرافيتي» ملوّن فوق جدار.