غيّب الموت، أمس، الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بله، عن 96 عاماً، إثر إصابته بأزمة تنفسية. وكانت صحة الزعيم الجزائري، الذي شارك في تفجير ثورة الجزائر، ثم انُتخب رئيساً للبلاد بعد الاستقلال عن فرنسا، سنة 1963، قد تدهورت على نحو مفاجئ ، خلال الأسابيع الماضية. برحيل «غيفارا الجزائر» تُطوى صفحة عمرها قرابة قرن من النضال الوطني من أجل الكرامة والتحرّر، وتودّع الأمة العربيّة آخر بقايا «العمر الجميل»، وهو عنوان المرثيّة التي وضعها الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي لحقبة حركات التحرّر العربيّة
مراد طرابلسي, عثمان تزغارتالجزائر | باريس | في الثامن من مايو/أيار 1945، خرج آلاف الجزائريين، في مدن سطيف وقالمة وخراطة، شرق البلاد، في تظاهرات عارمة للاحتفال بالانتصار على النازية، والمطالبة باستقلال الجزائر، كما وعدت به فرنسا المجندين الفرنسيين الذين طُلب منهم القتال في جيوشها، خلال الحرب العالمية الثانية. لكن الفرحة لم تكتمل، حيث وُوجهت تلك التظاهرات بقمع وحشي أفضى إلى مجازر قتل خلالها جيش الاحتلال الفرنسي 45 ألفاً من المدنيين الجزائريين العزل.كانت هذه المجازر منعطفاً مفصلياً في مسار الحركة الوطنية الجزائرية.
على أثرها، قرّر شاب اسمه أحمد بن بله، كان عمره 26 عاماً آنذاك، الانخراط في «حزب الشعب الجزائري»، أكثر الأحزاب الجزائرية راديكالية في مواجهة الاحتلال، والوحيد الذي كان يجاهر، وقتها، بالمطالبة بالاستقلال وجلاء الاستعمار.غيّرت تلك الأحداث مسار حياة أحمد بن بله جذرياً، وزجّت به في أتون الثورة، ليصبح بعدها في أقل من 20 عاماً، أول رئيس للدولة الجزائرية الوليدة. كان يتطلع إلى تحقيق الشهرة، لكنه لم يكن يتصوّر في شبابه أنه سيصبح زعيماً سياسياً. كان حلمه أن يكون نجماً من نجوم كرة القدم، واتخذ من فترة تجنيده للخدمة العسكرية سنة 1937، فرصة للبرهنة على مواهبه الكروية. ونجح في لفت الأنظار إليه، فكان أول «فرنسي مسلم» ينضم إلى المنتخب العسكري الفرنسي، الشيء الذي فتح له أبواب النجومية، بعد تسريحه من الخدمة، حيث أصبح، عام 1939، قلب هجوم نادي أولمبيك مارسيليا، أشهر أندية الكرة الفرنسية وأعرقها.لكن انفجار الحرب العالمية الثانية عصف بمسيرته الكروية، فقرّر _ على غرار آلاف الشبان الجزائريين _ الالتحاق بالقتال في صفوف القوات الفرنسية ضد النازية، مدفوعاً بالوعود الفرنسية بمنح الاستقلال للجزائريين في مقابل إسهامهم في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي. وأبدى بن بله تفوقاً في القتال، خوّله أن يكون أول «جندي مسلم» ينال رتبة ضابط صف، سنة 1943. ثم قلّده الجنرال، في حفل خاص أقيم في إيطاليا، في أبريل/نيسان 1944، ميدالية الشرف العسكري، نظير بلائه في القتال خلال معركة «كاسين» الشهيرة، بقيادة الجنرال جوان.
في غمرة احتفال الحلفاء بانكسار النازية وانتصار «العالم الحر»، طالب الجزائريون فرنسا بالوفاء بوعود منحهم الاستقلال. وجاءت فجيعة مجازر 8 مايو/أيار 1945، لتدفع الآلاف ممن قاتلوا في الجيوش الفرنسية ضد النازية إلى الانخراط في حركة التحرير الجزائرية، وكان أحمد بن بله واحداً منهم. ترقّى بسرعة في صفوف «حزب الشعب»، وتولى مواقع قيادية في التدريب والتأهيل السياسي. وكان مشهوداً له بكاريزما قوية وقدرة كبيرة على الإقناع والتواصل والجدل الفكري. لكن نقمته على الفرنسيين كانت قد بلغت درجة جعلته يتطلع إلى العمل المسلح لطرد الاستعمار بالقوة.
أسهم بن بله، سنة 1949، إلى جانب حسين آيت أحمد ورابح بيطاط، في تأسيس «المنظمة الخاصة»، التي كانت بمثابة جناح عسكري سري لـ«حزب الشعب» كُلِّف الإعداد لتفجير الثورة المسلحة. لكن اكتشاف المنظمة أدى إلى اعتقال بن بله، سنة 1950، والحكم عليه بالسحن 7 سنوات. إلا أنه تمكن من الفرار سنة 1952، والتحق بحسين آيت أحمد في القاهرة. وواصلا جهودهما من أجل ترجيح كفة المطالبين باعتماد العمل المسلح لتحرير الجزائر. وتُوِّجت تلك الجهود بتأسيس «اللجنة الثورية للوحدة والعمل» المعروفة أيضاً باسم «مجموعة الـ 9»، نسبة إلى القياديين التسعة الذين أسهموا في تفجير الثورة الجزائرية في نوفمبر/تشرين الثاني 1954.كان بن بله قد أقام، خلال لجوئه إلى القاهرة سنة 1952، شبكة علاقات قوية مع شخصيات مقربة من الرئيس جمال عبد الناصر، من أبرزها رئيس الاستخبارات المصرية الأسبق، فتحي الديب، ما سهّل التواصل بينه وبين عبد الناصر، بعد اندلاع الثورة الجزائرية، حيث انتدبت قيادة الثورة أحمد بن بله لاستثمار تلك الصلات لجعل القاهرة القاعدة الخلفية الأبرز للثورة الجزائرية، ففيها تقيم القيادات المطرودة للمنفى، وعبرها تمرّ المساعدات الخارجية والأسلحة، ومنها تبث تصريحات الثوار وبياناتهم الحماسية عبر «صوت العرب».
أسهمت الصلات الوثيقة التي ربطته آنذاك بالرئيس عبد الناصر في بروز بن بله واشتهاره أكثر من بقية قادة الثورة الجزائرية. وفي صيف عام 1956، اعترضت مقاتلات سلاح الجو الفرنسي طائرة مدنية مغربية كانت تنقل بن بله وأربعة رفاق له من القادة التاريخيين للثورة الجزائرية، هم محمد بوضياف وحسين آيت أحمد ومحمد خيضر ومصطفى لشرف، وقامت بأسرهم. لكن «قطع رؤوس التمرد» لم يؤد، كما روّجت الدعاية الكولونيالية، إلى إحباط الثورة الجزائرية، بل تصاعدت أحداثها إلى غاية جلاء الاستعمار. حين حصلت الجزائر رسمياً على الاستقلال، بعد استفتاء تقرير المصير في 5 يوليو/تموز 1962، كان أحمد بن بله ورفاقه الأربعة لا يزالون في معتقل «فور لييدو»، جنوب فرنسا. ولم تكد الجيوش الاستعمارية الفرنسية تغادر البلاد، حتى احتدم الصراع بين الحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية وقيادة الأركان العسكرية. وزحف «جيش الحدود» على العاصمة، لإطاحة رئيس حكومة الثورة بن يوسف بن خدة بالقوة، الشيء الذي دفع آلاف الجزائريين إلى النزول إلى الشوارع في تظاهرات عارمة رفعت شعارات «سبع سنين بركات» (تكفي 7 سنوات من الحرب). وحال ذلك دون تطوّر صراع «الإخوة الأعداء» إلى اقتتال أهلي، حيث تطلب الأمر من ضباط «حلف وجدة»، الذين خططوا للاستيلاء على الحكم منذ 1958، الاستعانة بواحد من الرموز التاريخية لحركة التحرير، للالتفاف على الاعتراض الشعبي على «سرقة الثورة» من قبل العسكر.
أرسل العقيد هواري بومدين ضابطاً شاباً اسمه عبد العزيز بوتفليقة لجس نبض نزلاء «فور لييدو»، في محاولة لاستمالتهم إلى جانب قيادة الأركان في صراعها مع الحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية. اعترض محمد بوضياف على التحالف مع «جيش الحدود»، متمسكاً بمقررات «مؤتمر الصومال»، الذي عقدته «جبهة التحرير»، عام 1956، وجرى التوافق خلاله على «تغليب دور القادة السياسيين على العسكر، ومنح الأولوية لقيادات الداخل على هيئات الثورة في الخارج». لكن بوتفليقة نجح في استمالة أحمد بن بله، وأقنعه سرّاً بالتحالف مع هيئة الأركان. الشيء الذي مهّد لعودته إلى البلاد، ليدخل العاصمة في 27 أيلول 1962، محمولاً على ظهور الدبابات. نُصِّب رئيساً للمجلس التأسيسي، ثم انتُخب رئيساً للجمهورية في 15 أيلول 1963.لكن إسناد الحكم إلى شخصية كاريزمية مثل بن بله لم يضع حداً لصراع «الإخوة الأعداء». انشق محمد بوضياف عن «جبهة التحرير»، وأسّس «حزب الثورة الاشتراكية»، فأمر بن بله باعتقاله وحل حزبه في يونيو 1963، وفي شهر أيلول استقال حسين آيت أحمد من رئاسة المجلس التاسيسي، وأسّس حزباً معارضاً سماه «جبهة القوى الاشتراكية»، وسرعان ما تحوّل الصراع بينه وبين بن بله إلى تمرد عسكري في جبال القبائل. مع توالي انشقاق القيادات التاريخية للثورة الجزائرية، اضطر قدماء «جيش الحدود» إلى تجميع كل المناصب السياسية بيد بن بله، فجمع بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة المكتب السياسي لـ«جبهة التحرير»، الشيء الذي اتُّخذ لاحقاً كحجة لإطاحته، بتهمة وضع حد «للزعامة الفردية»، في انقلاب عسكري قاده وزير الدفاع، العقيد هواري بومدين، في 19 يونيو 1965، ليودع بن بله السجن إلى غاية وفاة بومدين، سنة 1979.وبالرغم من أن بن بله لم يبق في السلطة أكثر من 3 سنوات، إلا أنه أطلق تجربة سياسية واقتصادية فريدة خولت الجزائر أن تكون واحدة من أبرز دول عدم الانحياز. كان بن بله يحلم، بعد توليه الحكم، أن يكون بمثابة «غيفارا الجزائر». لذا، وزّع الأراضي الزراعية، التي كانت في السابق ملكاً للمستوطنين الفرنسيين، على الفلاحين الجزائريين الفقراء، وحوّل المصانع إلى تعاونيات يديرها العامل ذاتياً، الشيء الذي أفرز تجربة اقتصادية فريدة أبهرت تشي غيفارا ذاته، حين زار الجزائر، على هامش أعمال مؤتمر التضامن الأفرو _ آسيوي، في فبراير 1965.بقي بن بله في السجن 14 سنة، ثم نُقل إلى الإقامة الخبرية في يونيو 1979، بعد أشهر قليلة من وفاة بومدين، تمهيداً للإفراج عنه بعفو خاص من الرئيس الشاذلي بن جديد، في تشرين الأول 1980، ليغادر إلى المنفى في سويسرا، حيث أسّس حزباً معارضاً سماه «الحركة من أجل الديموقراطية». وفي كانون الأول 1985 تحالف بن بله مجدداً مع رفيقه السابق، حسين آيت أحمد، لتأسيس جبهة معارضة تطالب بالتغيير الديموقراطي في الجزائر.عاد بن بله إلى بلاده، عام 1990، بعد إقرار التعددية السياسية، إثر انتفاضة الشباب في تشرين الأول 1988، لكنه اعتزل العمل السياسي بعد هزيمة حزبه في الانتخابات المحلية، في يونيو/حزيران 1990. ورغم المصالحة التي أُقيمت سنة 1999 بينه وبين الرئيس بوتفليقة، الذي كان أحد أبرز أقطاب الانقلاب الذي أطاحه سنة 1965، إلا أن بن بله رفض تولي أي منصب رسمي في الجزائر، واكتفى إلى غاية رحيله، أمس، برئاسة «لجنة الحكماء» التابعة لمنظمة الوحدة الأفريقية، التي تُعنى بفض النزاعات السياسية في القارة السمراء.
الشائعة والحقيقة
كان الرئيس الجزائري الراحل، أحمد بن بله، في الأسابيع الأخيرة الماضية، محوراً لشائعات تحدثت عن وفاته، بعد تردّي وضعه الصحي. حتى إن بعض الصحف الجزائرية خرجت بخبر وفاته في فبراير/شباط الماضي، وهو ما سارعت العائلة إلى نفيه، مؤكدة أنه لا يزال على قيد الحياة. غير أن النفي لم يلغ الحالة الصحية الحرجة التي كان يعانيها الرئيس الراحل.وقد تدهورت حالته على نحو مفاجئ، خلال الأسابيع الماضية، حيث أُدخل المستشفى العسكري في الجزائر مرتين في آذار الماضي، بسبب تعقيدات تنفسية أصيب بها إثر علاجه من أزمة قلبية في باريس، خلال الصيف الماضي.وكان يواظب على الدخول إلى المستشفى «لحقنه بمضادات تخثر الدم»، بعد إصابته بانسداد الأوعية الدموية.غير أن الشائعات ما لبثت أن تحولت إلى حقيقة مع الإعلان الرسمي أمس لوفاة بن بله، الذي لم تحدد الدولة الجزائرية بعد موعد تشييعه ولا تفاصيل جنازته. وقال محمد بن الحاج، كاتب سيرة أحمد بن بله، في اتصال مع «فرانس برس»، إن الرئيس الأسبق «توفي الساعة 15,00 (14,00 تغ) خلال نومه، وكانت إلى جانبه ابنتاه مهدية ونوريا» في منزل العائلة في الجزائر.
الخميس ١٢ نيسان ٢٠١٢