الفقر ليس قدراً

السياسات الاقتصادية تولّد العوز والبطالة والحل ليس بالعلاج الموضعي

رشا أبو زكي

الدين أفيون الشعب، والهدف ليس القضاء على الدين، بل القضاء على آلام الشعب... يمكن اختصار ما أراد كارل ماركس قوله بهذه العبارة. فالاعتبار أن الدين مسكِّن للأوجاع الاجتماعية، يدفع إلى البحث عن مسببات الأوجاع، تمهيداً لعلاجها. هذه العبارة يمكن إسقاطها على الفقر كما هي. فإن كانت البرامج الاجتماعية (كبرنامج دعم الأسر الأشد فقراً) أفيوناً لتسكين آلام الفقراء في لبنان، فلا بد من البحث عن مسببات الفقر، بهدف تقليص وجوده، لا تخدير الفقراء، ليفيقوا على آلامهم بعد انتهاء برنامج الدعم؛ اذ تتجه دراسات وبرامج عديدة نحو الفقر وكأنه «مرض موضعي» يمكن استئصاله، وبعد العملية، يسود الظن أن المجتمع اللبناني سيصبح خالياً من الأمراض.

أو كأن الفقر جرثومة لم يكتشف العلم أسبابها بعد، إلا أن العلماء تذاكوا على الجهل فاخترعوا دواءً للقضاء عليه. تفرز نظريات كهذه حقولاً تجريبية إنسانية، أدواتها التبسيطية تنحصر باستهداف الفقر عبر مساعدات مادية أو عينية، أو عبر تشريعات تخفف من الأعباء المعيشية عن الفقراء، من دون النظر إلى أساس المشكلة... هكذا يمكن اختصار النظرة الحكومية لظاهرة الفقر المتنامية في لبنان. ورغم ذلك، لا تتعدى هذه النظرة التنظير، ولو في إطارها التبسيطي هذا، فلا دواء مجانياً خاضع للرقابة، ولا نقل عاماً يخفض كلفة التنقل، ولا فواتير تصاعدية للكهرباء والمياه، ولا مدارس رسمية تنتج أجيالاً ناجحة. حتى أسوأ الطرق العلاجية لا تزال خارج الاهتمام الحكومي. هذا ما يمكن استخلاصه من مؤتمر «إصلاح السياسات الاجتماعية في لبنان» من تنظيم المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق.

«لا تسألني عن معنى الفقر؛ لأنك التقيت به خارج منزلي. انظر إلى المنزل وأحصِ عدد الشقوق‏. انظر إلى الأدوات المنزلية والملابس التي أرتديها‏. انظر إلى كل شيء واكتب ما تراه‏. هذا هو الفقر‏».‏ بهذه الكلمات عرّف أحد فقراء دول العالم الثالث‏ معنى الفقر،‏ وتصدرت عبارته أحد تقارير البنك الدولي عن الفقر في العالم‏. وبهذه العبارة حاول الدكتور بشير عصمت، ممثلاً وزير الشؤون الاجتماعية وائل بو فاعور، وصف حال آلاف الأسر اللبنانية. سياسات التدخل الاجتماعي لا تحل المشكلة، لكن تساعد على خفض مخاطر الفقر وتخفف على المدى القصير من تأثيرات الأزمات الاقتصادية على الأسر الفقيرة. يشرح عصمت أن 64 ألف طلب تقدم بها اللبنانيون للإفادة من برنامج دعم الأسر الأشد فقراً الذي تنفذه وزارة الشؤون. يتحدث عن البرنامج «الذي سيوفّر عدداً من التقديمات الأساسية للفقراء، منها فارق الاستشفاء والتسجيل في المدارس والحسم في ضمان العداد على فاتورة الكهرباء والأدوية المزمنة...»، تقديمات من المفترض أن تكون عامة!

يتلقف المستشار الإقليمي للـ«إسكوا» أديب نعمة الفكرة. يؤكد أن تعريفات الفقر المتوافرة ليست دقيقة، ولا تنقل الواقع، وتخلص إلى نتائج مضللة حول قياس معدلات الفقر في العالم. «60 في المئة من سكان العالم هم فقراء، وهؤلاء حصتهم لا تتجاوز 5 في المئة من الناتج العالمي» يقول نعمة. إذن الفقر ليست حالة فريدة، إنها نتاج السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة، والبحث والعلاج يبدأ من هنا. فقد طُرح عدد من الدراسات والبرامج في لبنان عن الفقر، لم يُنفَّذ أيّ منها، ولم تتحول أي دراسة أو برنامج إلى الإطار العملي. لكن إيجاد حلول لموضوع الفقر لا يمكن أن يتحقق بلا وجود خمسة عناصر للتنمية الشاملة والمتكاملة: المكون الاجتماعي، الاقتصادي، البيئي، السياسي والثقافي. مكونات مترابطة، وإغفال أي عنصر يولد اختلالات هيكلية تؤدي إلى انهيار التنمية مع تقدم الزمن. التنمية الاجتماعية هي جزء من الكل، وهي الجزء الأساس. ثمة مقاربتان اجتماعيتان: الأولى هي «مقاربة الحرمان» التي تهدف إلى التركيز على معالجة المشكلات والثُّغَر ونقاط الضعف، إلا أنها غير كافية أبداً إذا لم تقترن وتتزامن مع «مقاربة التنمية». فاقتصار العمل وفق استراتيجية مكافحة الفقر مثلاً، تبقى ضمن «مقاربة الحرمان»، وهي خطوة ناقصة وغير مجدية ومصيرها الفشل، بحسب نعمة، إلا إذا اقترنت بتحقيق مستويات أعلى من المعيشة وتحقيق الرفاه الاجتماعي. وإن كانت التنمية الشاملة هي أساس أي علاج للفقر، فإن الاقتصاد هو نواة التغيير للوصول إلى التنمية؛ إذ إن انفراد السياسات الاقتصادية بأهداف ضيقة وعدم تضمنها أهدافاً اجتماعية ذات طبيعة تنموية جعل السياسات الاقتصادية نفسها أحد المصادر المولدة للفقر والبطالة والتفاوت والتهميش... ولبنان أبرز مثال.

يدعّم مدير صندوق التنمية الاقتصادية والاجتماعية هيثم عمر هذه الفكرة؛ إذ إن الإنفاق الاجتماعي في لبنان منذ عام 2000 لا يستهدف إحداث أي تغيير في الواقع الاجتماعي. جزء كبير من هذا الإنفاق يذهب على المنشآت والمقاولات، مثل إنشاء مدارس بلا مدرسين وتجهيزات، ومستشفيات بلا مجالس إدارة وتجهيزات. يضاف إلى ذلك ثُغَر قطاعية تحدّ من آثار الإنفاق الاجتماعي؛ ففي الصحة يوجد توزيع مناطقي غير متوازٍ للمراكز الصحية، في مقابل كلفة عالية للخدمات الصحية، ما يولد الاعتماد بنسبة 80 في المئة على المراكز الصحية الخاصة. في حين أن 87 في المئة من موازنة وزارة التربية تنفق على الأجور.

وإن كان الفقر أزمة، فالبطالة مولدة الأزمات. يرى الخبير الاقتصادي نجيب عيسى أن إيجاد 40 فرصة عمل جديدة ومجزية سنوياً لا يمكن أن تتحقق إلا بإيجاد نمط نمو اقتصادي بديل، عبر تحويل الاقتصاد اللبناني من الريع إلى الاقتصاد المعرفي، ومواكبة التحول إلى اقتصاد المعرفة بإصلاح النظام التعليمي، دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى تنظيم سوق العمل وترشيد الاعتماد على اليد العاملة الوافدة إلى لبنان.

السبت ١٧ آذار ٢٠١٢

الأكثر قراءة