شربل نحاس بات خارج السلطة أمس. استعاد لغته اليسارية كاملة، من دون قفازات ولا أقنعة. بات بإمكانه الحديث عن «الفاشستية» بكل راحة ضمير، وهجومه على التكتلات السياسية لن يتحدّد بخطوط حمراء. يريد أن ينزل الناس إلى الشارع للنفخ على «التكتلات الكرتونية»
نادر فوز
ليس على أجندة شربل نحاس موعد مع الإحباط أو فترة للتأمّل. وقعت «مأساة» استقالته، لكنه يُشعر جميع من حوله بأنه واعٍ لتفاصيل الأمور ومدرك لما يدور حوله. بحث بعض من في محيطه عن وقت ضائع لاستيعاب الأمور، وبعض آخر سقط في صدمة استقالته. أما هو فلا يريد أن ينأى بنفسه أو الابتعاد.
ابتسامته كانت عريضة وساخرة. نكاته وتعليقاته «تنفّس» عن الأشهر الستة الماضية. بدا مرتاحاً مع الواقع الجديد: باستطاعته اليوم وصف النظام بـ«الفاشي» وانتقاد «شراطيطه». أصبح قادراً على استعادة تاريخ نضال العمال في لبنان والتذكير به. يمكنه الدعوة إلى مسيرات احتجاج. بات بإمكانه الحديث عن سياسيين يشترون ونقابيين يُباعون. فكّ شربل نحاس قيوده.
لا خطوط حمراء بعد اليوم، و«أملنا كبير بأن نخرق كل التكتلات السياسية ونفرض بأن لا تحكم البلد عصابات». أي عصابات؟ «القصة تتخطى الاصطفافات السياسية وأعمق من كل شيء»، أي هي أعمق من جهة تبنّته وأخرى عادته، الجميع في دائرة الاتّهام والخطر.
في مكتبه في منزله، وضع على الطاولة كتاب «الحركة النقابية في لبنان، 1919 ــ 1946» لجاك كولان. استعان بهذا الكتاب قبل لحظات من وصول الكاميرات. استعاد بعض الأسماء والتواريخ للحديث عن إضراب عمال الريجي عام 1946 والشهداء والجرحى الذين سقطوا في فرن الشباك. قال ما معناه إن اتهامه بالتسبب بانقسام طبقي يعدّ شرفاً له. وأنه لا خوف بعد اليوم: «ساعة يخيفوننا بشارع سُني شيعي، وساعة بأن المصارف ستفلس. هؤلاء الأشخاص لن يخيفونا، كلهم كرتون بنفخة بيطيروا».
بدا نحاس بعيداً جداً عن الإحباط أو اليأس، وقد تسلّح بوجود عشرات الشبان المؤيدين له. يؤكد أنه ليس في عزلة ولا يشعر بالوحدة، ما دفعه إلى دعوة الشباب إلى الاعتصام: «من بكرا انزلوا على مجلس النواب».
يريد نحاس تفسير الأمور بوضوح. قرار بدل النقل ليس إلا سبباً شكلياً للاستقالة، وما دفعه إلى هذه الخطوة مفهوم تعامل الحكم مع هذه القضايا. فـ«قصة بدل النقل هي قصة إما يهاجر الشباب أو يتم ترويضهم إذا قبلوا باللعبة». وإن لم يوافقوا على الأمرين، فالخيار الوحيد هو الاحتجاج.
إلى الشارع منعاً لمحاولة إعادة «الفاشستية» إلى البلاد عبر توحيد «ما يسمونه هيئات اقتصادية وما يسمونه قيادة اتحاد عمالي». يسخر نحاس بشدة من ظاهرة تحالف أرباب العمل ومدّعي تمثيل العمال: «قدّم الطرفان الشكوى نفسها ضد وزارة العمل، هل حصل في تاريخ البشرية أن من يدافع عن العمال وعن أرباب العمل يقدم شكوى ضد جهة واحدة؟».
كلامه يؤكد أنه لا يريد الانكفاء. يحتفظ شربل نحاس في مكتبه بلوحة تعريف له في مجلس الوزراء. «شربل نحاس، وزير العمل». أضاف الوزير وائل بو فاعور، بخط يده، على تلك اللوحة «العامل عمايل»، بعد أن عارض بشراسة وزير العمل المستقيل اقتراحه إصدار قرار لدعم الفقراء. يعتزّ نحاس بهذه الصفة الجديدة، فمن هذه «العمايل» رفضه «تحويل الظلم قانوناً». يعطي مثلاً «منذ 60 سنة احتلت إسرائيل فلسطين، فهل أصبح الاحتلال قانوناً»! يضيف: «لا 16 سنة ولا ستين سنة، طويلة على رقابهم كلهم».
يشارك نحاس عشرات من زاروه في منزله مساءً للتضامن معه. قلّة حضروا أمس بعدما جمع بعضهم بعضاً بعد ظهر أمس. صفقوا له، التقطوا صوراً معه، عبّروا له عن استيائهم مما يحصل. معظمهم حضروا محصّنين بالكوفيات الفلسطينية. هم شيوعيون ويساريون أتوا إلى الأشرفية على وقع «نشيد الثورة». غاب البرتقاليون. زيارة خاطفة للنائب غسان مخيبر الذي جلس يهزّ رأسه موافقاً على كل ما يقوله نحاس.
في صالون «آل نحاس» دخل شاب عشريني وحده. انتظر دوره بصمت للاقتراب من الوزير. وما إن سنحت له الفرصة، عرّف عن نفسه: «أنا X، من التيار الوطني الحر، وأنا أحتجّ على تخلّي الجميع عنك». حضر الشاب من الشمال، من قرية ساحلية في البترون للتعبير عن رفضه تخلّي تكتل التغيير والإصلاح عن نحاس.
يُفاجأ الشاب حين يسمع أن أياً من «العونيين» لم يحضر. «ما في حدا من التيار؟»، يسأل. يلتف على نفسه ويسأل من جديد: «كل هؤلاء شيوعيون؟»، نعم. يعلّق: «خسارة». يتحدث بكل وضوح عن حالة عونية تعارض قرار تكتل التغيير والإصلاح التخلي عن نحاس. يقول إنّ الفايسبوك يعجّ بالعونيين المستائين والمؤيدين للوزير حتى بعد استقالته. أين هم هؤلاء؟ هم يعلّقون بإيجابية على دعوة نحاس إلى التظاهر على أبواب مجلس النواب ويكتفون بالدعم الإلكتروني.
مساء أمس قُبلت استقالة نحاس، فرفعت كؤوس الانتصار في القصر الجمهوري. كلام الوزير ناظم الخوري يوحي بذلك؛ إذ علّق على الاستقالة بكونها «مهدت الطريق لحلحلة الأمور ومعاودة انعقاد جلسات مجلس الوزراء». إذاً، هي فرحة مزدوجة. الجلسات في طريقها إلى الانعقاد، ولم يعد ثمة «عامل عمايل» فيها.
لم يرَ ناظم الخوري ما رآه الوزير غازي العريضي الذي سجّل لنحاس «كل احترام وتقدير لحفاظه على الانسجام مع نفسه حتى آخر الطريق، وهذا يؤكد اقتناعاته وموقفه وتصرفه ويتطلب شجاعة». إلا أنّ العريضي لم يسأل ما إذا كان ثمة شجعان قد يلبّون دعوة نحاس للنزول إلى الشارع والاحتجاج على مجلس النواب والحكومة معاً.
الخميس ٢٣ شباط ٢٠١٢