الدولة تحتاج إلى موازنة. هذا شرط من شروط وجودها، إذ لا حاجة إلى الدولة من دون الموازنة، وبالتالي لا حاجة إلى الموازنة من دون الدولة. هما كالجندي مع سلاحه.في لبنان، لا يشعر الحكّام بحاجتهم إلى الموازنة، لأنهم لا يشعرون بحاجتهم إلى الدولة، أو أن أكثريتهم لا تريدها. الحكّام هنا يتصرّفون كالغزاة، لا تعنيهم هذه الأرض إلا بوصفها مصدراً للثروات أو ممراً إليها، ولا ينظرون إلى سكّان هذه الأرض إلا بوصفهم محكومين، ليس بيدهم حيلة، يجبون منهم الضرائب كما لو أنها جزية، يدفعونها وهم صاغرون، وينفقون الأموال كما لو أنها رشى، تماماً كما يتصرّف أيّ غازٍ. أليس وراء كل غزو مصالح وأعمال ومشاريع وشركات؟ أليس الغزو استثماراً كبيراً جدّاً؟ الغازي يحكم ولا يبني دولة، يدمّر ولا يعمّر، ينهب ويفرّق ويستقوي بحفنة من الخونة والعملاء والجواسيس وطلّاب المنافع وبائعي الولاءات والمستثمرين في تجارة الدم والأرض والعرض والكرامة.لبنان بلا موازنة حقيقية منذ عام 1979. لا يوجد تدقيق في حسابات الدولة المالية منذ ذاك التاريخ (انتهى دور ديوان المحاسبة يومها)، وكل الحكومات التي تعاقبت طيلة 32 عاماً لم تحترم أياً من أحكام الدستور أو القوانين في إعداد الموازنات العامّة وصرف الأموال وجباية الإيرادات. عام 1979 هو العام الذي بدأت تظهر فيه ملامح ما سمّي يومها «الإدارات المدنية»، أي تلك الإدارات التي أقامتها الميليشيات لتحلّ محلّ الدولة في تسيير شؤون المناطق التي أخضعتها لسيطرتها: صار لكل ميليشيا قوانينها الخاصّة وإدارتها الخاصة ومحاكمها الخاصّة وجيشها الخاص وأمنها الخاص وعلاقاتها الخارجية الخاصّة ونظام خدماتها الخاص... بمعنى أكثر وضوحاً، صار لكل ميليشيا حصّتها واقتصادها ومنافعها ومنظومة مصالح طويلة عريضة مرتبطة بها، فوصلت الأمور إلى التجنيد الإجباري وإقامة المعابر الحدودية في الحوض الخامس ومرافئ جونية والأوزاعي والجيّة والناقورة... صارت الميليشيات تتمتّع بالسيادة على «أرضها»، تفرض الضرائب وتتحكّم في الثروة وتقيم آلياتها لإعادة التوزيع: غزت الميليشيات الدولة، انهارت الليرة، انقسم الجيش، ومئات آلاف اللبنانيين ماتوا أو جرحوا أو فقدوا جنى عمرهم أو هاجروا أو شرّدوا أو حملوا السلاح طلباً للعيش حتى مع «جيش أنطوان لحد».طارت «الدولة» في عقد الثمانينيات، ومنذ ذاك التاريخ يعيش اللبنانيون من دونها، بمعزل عن نوعها أو صنفها أو مدى القبول بها. كل ما تغيّر أن «المتحاربين» اضطروا إلى تنفيذ «الأوامر» بوقف إطلاق النار على بعض خطوط التماس، احياناً إذا شعرت ميليشيا ما بأن سيادتها مهددة تسارع إلى مخالفة «الأوامر» وتعمد إلى إطلاق النار الحي على الناس، أو تُوقف معمل الكهرباء أو تحتل طبقة في وزارة الاتصالات أو تمنع إمرار مشروع قانون استثنائي لتغطية إنفاق عام إضافي بقيمة 8900 مليار ليرة... أو تطالب بأن ينتخب كل مذهب نوّابه!تكيّف اللبنانيون مع هذا «الغزو» ورضخوا له. تصرّفوا كما يتصرّف الخاضعون للاحتلال. هنا حققت «عقيدة الصدمة» نتائج مبهرة. عرض متواصل وبنجاح كبير: فعندما اعتقد اللبنانيون أنهم يلملمون أشلاء أولادهم ويبحثون عن مصير المفقودين منهم... كانت الميليشيات تستكمل غزوها؛ صادرت أملاكهم البحرية والنهرية، وأملاكهم الخاصة في وسط بيروت، وسيطرت على المطار والمرافئ لترعى الاتجار بالسلاح والمخدرات وتحتكر استيراد السلع الحيوية: النفط، القمح، الدواء... وأقامت شركاتها باسم «سوليدير» و«سوكلين» و«ماباس» (مغارة جعيتا) و«باك» (السوق الحرّة)، وأزالت الجبال بالمرامل والمقالع والكسّارات، ودفنت النفايات السامّة في جوف الأرض، حفرت الآبار الارتوازية لتبيع مياه الشرب، ونصبت المولّدات في الأحياء لتستغل الحاجة إلى الكهرباء، هيمنت على وسائل الإعلام وتوزيع القنوات الفضائية وخطوط النقل المشترك والاتصالات والأحزاب السياسية والنقابات العمّالية والهيئات الأهلية، سرقت المازوت المدعوم والطحين المدعوم والتبغ المدعوم، نشطت في تبييض الأموال وبيع «النساء»، وراكمت مديونية تاريخية... كل ذلك باسم إزالة آثار الحرب والإعمار ودعم النمو والاستثمار... والمصارف.لا أثر للدولة في لبنان في ظل الرضوخ لغزو الميليشيات: عساكر ورجال أعمال... فلا تنتظروا الموازنة، لأنها إذا جاءت فستكون كسابقاتها: تطبيقات إضافية لعقيدة الصدمة. فبذريعة الخوف من الانهيار، سيُجلد الناس بضرائب وديون تذهب إلى جيوبهم، وستضرب مجدداً أغاني «الخصخصة» و«الشراكة مع القطاع الخاص» الرخيصة، ليستكملوا عملية «النهب المنظّم» باسمكم، ومن أجل خلاصكم.
العدد ١٦٢٢ الاثنين ٣٠ كانون الثاني ٢٠١٢