يواجه الأُجَراء خطراً جدّياً يتمثّل بخفض أجورهم بدلاً من تصحيحها؛ فقد أصدر مجلس شورى الدولة أمس رأياً سلبياً في مشروع مرسوم تصحيح الأجور، يعدّ فيه بدل النقل كلفة وليس أجراً... هذا الرأي تزامن مع صدور أول القرارات القضائية التي تطعن بوجود بدل النقل أساساً
محمد زبيب
قد يمضي بعض الوقت قبل أن يدرك اللبنانيون حقيقة الملابسات التي رافقت إصدار مجلس شورى الدولة أمس رأيه السلبي في مشروع مرسوم تصحيح الأجور. لكن عرضاً موجزاً لمسار الأحداث قبيل ساعات من نشر هذا الرأي يسهّل فهم الأهداف من خلفه: ـــــ عُقدت قبل ظهر أمس جلسة عمل، هي الثالثة، بين وزير العمل شربل نحّاس وقضاة مجلس شورى الدولة لاستكمال النقاش في شأن مشروع المرسوم المطلوب إبداء الرأي فيه، وقال نحاس بعد الجلسة إن «العمل مستمر، ولم يقل أحد إن رأي مجلس شورى الدولة سيصدر اليوم. والعلاقة مع المجلس طبيعية واستشارية والهدف هو إعادة تسوية الانتظام العام».
ـــــ بعد أقل من نصف ساعة، أدلى رئيس مجلس شورى الدولة القاضي شكري صادر بتصريح إذاعي مماثل الساعة 1.15 من بعد الظهر، وقال إن «اللقاء شهد بحثاً طويلاً لكيفية مقاربة موضوع الأجور وصولاً إلى صيغة سليمة وقانونية»، وأكّد أن نحاس «كان متجاوباً مع الآراء التي أبداها المجلس (...) وسيواصل المجلس درس المشروع للتوصل إلى صيغة قانونية، ولا مواعيد محددة لإصدار الرأي، فقد يكون ذلك غداً (اليوم) أو ربما بعد غد (غداً)». ـــــ عاد وزير العمل إلى مقرّ وزارته وعقد اجتماعاً مع فريق عمله لإعداد الردود على أسئلة طرحها قضاة المجلس لتزويدهم بها قبل إصدار الرأي، فإذا به يفاجأ بنشر رأي المجلس عبر الوكالة الوطنية للإعلام عند الساعة الثانية و39 دقيقة، وقبل إبلاغ مضمونه رسمياً إلى وزارة العمل وفقاً للأصول، وبحسب المعلومات، ورد الرأي إلى الوكالة قبل دقائق من نهاية الدوام الرسمي في المجلس عند الثانية من بعد الظهر، ليقفل صادر هاتفه بعد ذلك ويغيب عن السمع! ما الذي حصل، ولماذا تصرّف المجلس كما لو أنه متورط في أمر ما؟ يمكن التكهّن في ضوء عرض المعلومات الآتية: ـــــ في سياق السجال بشأن بدل النقل، كُشف عن وجود نحو 30 مراجعة تقدّمت بها هيئات أصحاب العمل ومؤسسات خاصّة للطعن بمراسيم تحديد بدل النقل وتعديله منذ عام 1995، وقد عمد مجلس الشورى إلى «تنويمها» طوال السنوات الماضية، إلا أنه استفاق أخيراً وبدأ بإصدار قرارات في شأنها، أحدها في 20/11/2011، يتعلّق بمراجعة تقدّمت بها جمعيات المصارف والصناعيين وتجّار بيروت لإبطال مرسوم تجديد بدل النقل وزيادته في عام 2002، وقضى القرار الإعدادي بقبول الطعن وإبطال المرسوم (وكل المراسيم المشابهة)، وقضى أيضاً بتحميل الدولة نفقات المحاكمة والرسوم المستحقة عليها. والمعروف أن القرار الإعدادي هو بمثابة حكم قضائي أولي يُنشَر في عدد الجريدة الرسمية المقبل (الخميس) بهدف منح المعترضين على مضمونه مهلة شهر للإدلاء باعتراضاتهم قبل أن يصار إلى تحويله إلى قرار نهائي واجب التنفيذ، وبالتالي يصبح بدل النقل (والمنحة التعليمية) باطلاً وغير مستحق للأُجراء، بمعنى أن كل أجير معرّض اليوم لفقدان جزء مهم من أجره. ـــــ في هذا السياق، لم يصدر عن مجلس الوزراء حتى الآن أي مرسوم لتجديد بدل النقل والمنحة التعليمية؛ إذ إن المرسوم السابق انتهت مفاعيله في 5 تشرين الثاني الماضي، وبالتالي لم يعد البدل والمنحة مستحقين قانوناً، وهذا سيساهم بإجهاض حقوق الأُجراء ويعرّضهم لأكبر عملية «قرصنة» موصوفة. ـــــ في سياق المداولات مع قضاة مجلس شورى الدولة منذ طلب رأيهم في مشروع المرسوم الأول في تشرين الثاني الماضي، كان هؤلاء مدركين للمخاطر على الأجراء جراء إبطال مراسيم بدل النقل، وكانوا متحمّسين لإيجاد فتوى قانونية تتيح اعتبار بدل النقل عنصراً من عناصر الأجر سنداً إلى المادة 86 من قانون الضمان الاجتماعي، وبقوا على موقفهم حتى طلب رأيهم في مشروع المرسوم الثالث؛ إذ طلبوا من وزير العمل تعديل صيغة المشروع ليأتي بصورة يمكن تبنّيها، وهو ما دفع نحّاس إلى الأخذ بملاحظات القضاة وأحال عليهم في 29/12/2011 مشروع مرسوم يراعي الملاحظات الأولية لتسهيل الموافقة عليه، إلا أن القضاة عادوا بعد ذلك عن رأيهم لأسباب لم يعلنوها، ورأوا أنهم لا يمتلكون صلاحية «توصيف» بدل النقل، وأن هذه الصلاحية تعود إلى مجلس النواب حصراً، لكنهم أبدوا استعداداً للتعاون منعاً لإهدار حقوق الأُجراء، فوافقوا على تأجيل إصدار رأيهم ريثما يتسنى للوزير إعداد صيغة تحفظ حقوق الأُجراء لعرضها عليهم وأخذ موافقتهم قبل إحالتها مجدداً على مجلس الوزراء لإقرارها مرفقة برأي مسبق من مجلس شورى الدولة لوضع حدّ نهائي للتجاذب في هذا الملف. وكان المطلوب أياماً قليلة فقط لتحقيق هذه الصيغة، إلا أن المجلس سارع إلى إصدار رأيه بعدما وعد أمس بتأجيل هذه الخطوة يومين فقط. إذاً، تجاوز المجلس صلاحياته كمستشار، وانحاز إلى أصحاب العمل عبر تقديم توصيف لبدل النقل كان يرفض توصيفه، فرأى أن «بدل النقل لا يُعَدّ دخلاً ناتجاً من العمل أو مقابلاً له، بل تعويضاً عمّا ينفقه الأجير للانتقال من العمل وإليه»، فبات مشاركاً في خفض الأجور بدل زيادتها. وجاء هذا التوصيف في معرض التبرير لعدم الموافقة على مشروع المرسوم؛ إذ قال: «خلافاً لما تقتضيه النصوص القانونية والمبادئ العامة لجهة وجوب إعادة النظر بالحد الأدنى الرسمي للأجور بصورة دورية (سنوية على الأقل) وتحديد نسبة غلاء المعيشة وكيفية تطبيقها عند الاقتضاء (...)، لم تصدر أية مراسيم لتحديد الحد الأدنى الرسمي للأجور أو لتحديد نسبة غلاء المعيشة وكيفية تطبيقها، خلال الفترة الممتدة من عام 1996 وحتى عام 2008. في المقابل، تزامن ذلك مع صدور مراسيم بتجديد، ومن ثم برفع قيمة بدل النقل اليومي للأُجَراء، الذي كان قد مُنح لأول مرة في عام 1995 بصورة مؤقتة إلى حين تفعيل وسائل النقل العام (بموجب المرسوم رقم 6263 تاريخ 18/1/1995)، فارتفعت قيمة بدل النقل من ألفي ليرة في عام 1995 حتى وصلت إلى ثمانية آلاف ليرة عن كل يوم عمل فعلي في عام 2008. وانطلاقاً من هذا الواقع، وبالنظر إلى كون تدخل السلطة التنفيذية لتحديد أو تعديل بدل النقل اليومي للأُجراء يخرج عن نطاق التفويض المعطى لها (...)، أي بالنظر إلى عدم شرعية المراسيم المتعاقبة منذ عام 1995 حتى الآن، والتي تضمنت منح قيمة بدل النقل أو تعديلها، يأتي مشروع المرسوم المقترح ليعيد ترتيب المبالغ التي منحت للأُجَراء تحت تسمية بدل النقل، والتي صدرت المراسيم بمنحها في فترة زمنية غابت فيها مراسيم تحديد الحد الأدنى ونسبة غلاء المعيشة، وليضعها تحت التسمية التي تستطيع السلطة التنفيذية أن تتدخل فيها من حيث المبدأ، وهي تسمية الحد الأدنى للأجور ونسبة غلاء المعيشة». ويقول خبير قانوني (رفض ذكر اسمه) إن هذه الفقرة الواردة في رأي المجلس كانت كافية لتبرير الرفض والإيحاء بأن تصحيح الأجور بعد إبطال بدل النقل يجب أن يستند إلى سنة أساس هي سنة 1995، أي أن يكون التصحيح بنسبة 110% واعتبار الزيادة المقطوعة في عام 2008 (200 ألف ليرة) بمثابة سلفة منحت للأُجراء، إلا أن المجلس ذهب إلى حيّز خطير؛ إذ رأى «أن تحقيق إعادة ترتيب المبالغ المذكورة (أي بدل النقل) في الموقع القانوني السليم لا يمكن إجراؤه من دون تدخل المشترع، وذلك للأسباب الآتية: 1ـــــ لأن ذلك يتعارض مع المادة 68 من قانون الضمان الاجتماعي (...) التي اشترطت أن يكون المبلغ الذي يتقاضاه الأجير ناتجاً من العمل أو مقابلاً له (...) ولأن بدل النقل لا يُعَدّ دخلاً ناتجاً من العمل أو مقابلاً له، بل تعويضاً عما ينفقه الأجير للانتقال من العمل وإلىه. 2ـــــ لأن المبلغ المقترح ضمه إلى الأجر أو اعتباره عنصراً من عناصره، أي 236 ألف ليرة، هو في جزء منه بدل نقل عن كل يوم عمل فعلي منحته المراسيم المتعاقبة منذ عام 1995 خلافاً للقانون، إلى حين تفعيل وسائل النقل العام، ولهذا السبب إن اعتبار هذا المبلغ جزءاً من الأجر يُعَدّ تعديلاً في المراسيم المتعلقة ببدل النقل المشوبة بعيب عدم الاختصاص، والتي لا يمكن تصحيحها أو تعديلها بمراسيم، بل بتدخل من السلطة صاحبة الاختصاص، وهي السلطة التشريعية. ماذا يعني ذلك؟ برأي الخبير نفسه، قرر المجلس أن يرفع المسؤولية عنه بالإيحاء بأن الأجور لم تصحح طوال سنوات، وبالتالي يجب أخذ ذلك بالاعتبار، وأقرّ ضمناً بأن بدل النقل جاء تعويضاً عن عدم التصحيح، ولكنه في الوقت نفسه أطاح بدل النقل من دون الارتكاز على مبدأ تحقيق العدالة، أي إنه لم يربط إبطال بدل النقل وتوصيفه ككلفة، لا كأجر بمسألة العودة لتصحيح الأجور منذ إقرار بدل النقل «الباطل» في عام 1995. بدا واضحاً من مضمون رأي المجلس أن المطلوب منه «تزكية» الاتفاق بين قيادة الاتحاد العمّالي وبعض هيئات أصحاب العمل؛ إذ أبدى المجلس رأياً مبدئياً يعتبر أن «إمكان تدخل الحكومة لتحديد نسبة غلاء المعيشة وكيفية تطبيقها على صورة زيادة على الأجور، محصور إما عند انتهاء التفاوض الجماعي إلى اتفاق، بحيث يأتي المرسوم لتكريس هذا الاتفاق، وإما عند غياب أي اتفاق بنتيجة التفاوض الجماعي».