كثيرون يصرّون على إغماض أعينهم عمّا يحصل في لبنان اليوم، فلا يعيرون اهتماماً كافياً لسابقة لم يشهدها لبنان في تاريخه، تتمثل في رجحان كفّة سقوط قرار مجلس الوزراء بزيادة الأجور للمرّة الثانية في شهرين. فقد نجح وزير العمل شربل نحّاس في إبقاء مشروعه «حيّاً يُرزق» على الرغم من التحالف الواسع الذي قام لوأده، وها هو حزب الله يضطر إلى الخروج من هذا التحالف ليعلن تأييده للمشروع، ولو بشرط التوصل إلى تسوية مع حليفه الرئيس نبيه بري. وها هو الرئيس برّي نفسه يبدأ رحلة التضحية ببعض المصالح الصغيرة، عبر الموافقة الضمنية على السير بمشروع نحّاس، ولكن مع تعديل «جوهري» يتعلق ببند شمول جميع اللبنانيين المقيمين بتقديمات صندوق الضمان الصحّي المموّل من الموازنة العامّة بدلاً من الاشتراكات، إذ تقضي التسوية «المفترضة» بأن يُترك هذا البند لوزير الصحّة علي حسن خليل الذي يعكف الآن على وضع مشروع «بديل» يحقق التغطية الصحّية لغير المضمونين تحت جناح وزارة الصحّة، وهو تعهّد أخيراً بأن يطرح مشروعه «البديل» للنقاش قريباً جدّاً، معلناً براءته من مشروع سلفه الوزير السابق محمد جواد خليفة.هذا لا يعني أن الوزير نحّاس قبل بهذه التسوية، فهو لا يزال مقتنعاً بمشروعه كسلّة متكاملة غير قابلة للتجزئة، إلا أن إبرام التسوية المذكورة سيضمن أكثرية في مجلس الوزراء تسمح بطرح المشروع للنقاش بعد تجاهله مرتين: في جلسة 11/10/2011 التي جرى فيها تجاوز صلاحيات الوزير المعني، وتفويض رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي التفاوض مع الاتحاد العمالي العام والهيئات الاقتصادية، واتخاذ قرار أسقطه مجلس شورى الدولة بالضربة القاضية، وفي جلسة 7/12/2011 التي جرى فيها التصويت على قرار جديد اقترحه الرئيس ميقاتي، وجاء أسوأ من القرار السابق برأي جميع النقابات والروابط في القطاعين العام والخاص.
إذاً، اللبنانيون أمام فرصة جدّية لتحقيق خرق ما مهم. إلا أن مستوى أهميّته سيكون رهناً باستعدادهم لممارسة الضغوط الكبيرة اللازمة لتحسين شروط التسوية وجعلها أكثر قرباً من حاجاتهم وتطلعاتهم. لذلك تبدو التظاهرة التي دعت إليها هيئة التنسيق النقابية اليوم مفصلية، ووجب المشاركة فيها بكثافة، ولا سيما من جانب أولئك الذين سارعوا (عن قصد أو عن غير قصد) إلى صرف انتباه الناس عن أهم معاركهم بوصف مشروع نحّاس بـ«الطوباوية»، وبأنه غير قابل للتحقق في ظل النظام الطائفي وأطره «الزبائنية» وسطوة مافياته ورسوخ مصالح أطرافه، فأولئك صرفوا حبراً كثيراً في التهليل لتظاهرات «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي»، وشاركوا فيها بحماسة لافتة من دون أن يتبرّعوا برسم خريطة طريق واحدة لكيفية إسقاط هذا النظام «الأكثري»، وهم أنفسهم اليوم يصرفون حبراً أكثر لتبخيس جدوى واحدة من الطرق المتاحة الآن عبر فرض تعديل بنيوي على النمط الاقتصادي المدمّر وكسر واحدة من أهم حلقات «الزبائنية» التي يقوم عليها هذا النظام، والمتمثلة في حق اللبنانيين جميعاً في الحماية الصحّية من دون «وسيط» أو «منّة» من أحد.«كيف الصحّة؟» أليس هكذا يبادر الناس عادة إلى السؤال عن أحوال بعضهم بعضاً. «الصحّة» هي الأساس في تحديد حاجاتهم والتعبير عن ثقافتهم وأعرافهم وتقاليدهم وهمومهم ومخاوفهم. إلا أن أكثر من نصف اللبنانيين المقيمين «صحّتهم مش منيحة»، وأكثر من 75% من الأجراء يفقدون ضمانهم الصحّي عندما يصبحون أكثر حاجة إليه في حالات البطالة والتقاعد، وكلهم يواجهون مخاطر المرض وحدهم من دون أي رعاية أو تدخّل من الدولة إلا من خلال «زبائنية فاقعة» يحتاج إليها النظام الطائفي ليحافظ على «ديمومته» ويستمد من خلالها «قوّته»، تماماً كحاجته الدائمة الى «وصايات خارجية» تحميه أو تحمي «أطرافه» المتنازعين على الحصص والمصالح المقيتة، وحاجته أيضاً الى قدر أقلّ من «الدولة» وقدر أكثر من «ليبرالية اقتصادية» مزعومة لا يوجد مثيلاً لها إلا في نماذج «الديكتاتوريات» العسكرية و«ممالك» الريوع النفطية.لقد نجح «أخطبوط» النظام الطائفي في تدجين خصومه بكفاءة عالية. جعل حصنه الأكثر مناعة يكمن تحديداً في سيادة شعور عام باليأس لدى هؤلاء، جعلهم يسلّمون بأنه غير قابل للكسر، وجعلهم يستسلمون له، فيما «الأخطبوط» يمدّ أذرعه إلى كل شيء ليهيمن على أوجه الحياة في هذا البلد: دمّر مشروع الدولة لمصلحة تنظيمات «وسيطة» دون مرتبتها، راكم مديونية عامّة تبلغ حالياً نحو 70 مليار دولار، رهن مصالح اللبنانيين وحاجاتهم لأولوية خدمة هذا الدين، فأصبحوا يسددون الضرائب والإتاوات لقلّة تتركّز لديها الثروة، وتكفي الإشارة الى أن 1% فقط من الحسابات المصرفية فيها الآن أكثر من 60 مليار دولار، فيما 70% من المودعين لا يمتلكون سوى أقل من 3 مليارات دولار من مجموع الودائع في القطاع المصرفي المحلي! كذلك تكفي الإشارة الى أن 20% من أصحاب الدخل الأعلى في لبنان يستأثرون بأكثر من نصف فاتورة الاستهلاك، فيما 50% من اللبنانيين لا تبلغ حصّتهم من هذه الفاتورة إلا 20%!حتماً هناك صعوبة في تغيير هذا الواقع، بل قد يكون البعض محقّاً في أن «الأخطبوط» مستعد لجر البلاد إلى حروبه إذا شعر بأن مصالحه مهددة بأي شكل من الأشكال، إلا أن الصحيح أيضاً أن اعتزال أكثرية «المناضلين» وانصرافهم الى ترتيب أوضاعهم كيفما اتفق بانتظار عاصفة هوجاء أو زلزال مدمّر أو «قوى خارجية» (قد) تطيح هذا النظام هو ما يجعل التغيير أكثر صعوبة.الآن، هناك معركة حامية الوطيس، تتخذ لنفسها عنواناً هو تصحيح الأجور: المعارضة النيابية غائبة كلّياً، ما عدا بعض الانتقادات الخجولة لما تسمّيه «أداءً حكومياً سيّئاً»، والموالاة تبدو متخبّطة في هذا الملف أكثر من أي ملف آخر، وقيادة الاتحاد العمّالي العام باتت مكشوفة جدّاً في خضوعها لميزان القوى الاجتماعي القائم، وهيئة التنسيق النقابية تبدو عاجزة حتى الآن عن سدّ الفراغ الذي يحدثه غياب العمل النقابي الجدّي، والنخب المثقّفة حائرة أمام هذا المشهد، ولكي تبرر عجزها وتكيّفها (وتورّطها) تذهب الى التشكيك في كل المشهد، وتتصرّف بلامبالاة واضحة تجاهه... ما يحصل يبدو صادماً لكل هؤلاء، فهل يكفّون عن التصرّف كما لو أنهم يواجهون استحقاقاً «عادياً»، ويقتنعون بأنهم في خضم تصادم كبير يحصل اليوم بين المصالح المتناقضة التي تراكمت منذ انهيار مشروع الدولة في الثمانينيات...؟ هل يقتنعون بأن الأوان قد آن للنزول إلى الشارع من أجل فرض ميزان قوى جديد؟