مكرمة ملكيّة لا تصحيح أجور

فداء عيتانيمسكين شربل نحاس، وزير العمل الذي يعتقد بأن في إمكانه تعديل النظام الاقتصادي، ولو قليلاً. يقاتل بمفرده، نيابة عن البلاد، ويحاول المستحيل لتحقيق وضع أفضل، ولو بقليل، لأصحاب العمل والموظفين والمنتجين في هذه البلاد. ولكن عبثاً، فهو كمن يصارع الموج والماء يغمره من كل الجهات. فالبلاد نائمة، والناس في سكرة ارتفاع الأسعار والكلام المباح الذي لا يغيّر من أحوالهم شيئاً. حتى كهرباؤهم تُقطع عنهم وهم لا يتحركون.

مسكين شربل نحّاس لأنه فكر في لحظة في أن يكون وزيراً في هذه البلاد، حيث «كل عنزة معلقة بكرعوبها»، وكل طائفة بشيخها وكاهنها، وتنتخب كل أربعة أعوام أمير حربها الذي عادة ما يكون قد قتل من أبناء طائفته أكثر من الآخرين، وتنتخب أيضاً وليّ نعمتها، وكأنه لا حقوق طبيعية للبشر في العمل والصحة والزواج والإنجاب والتعلم، بل كله يحصل بفضل المكارم الملكية والأميرية، كأننا في بلاد النفط المبارك.خسرنا جميعاً، كمواطنين، مرة أخرى أمام أصحاب المال، وليس أصحاب العمل. من هزم مصالح اللبنانيين بأغلبهم هم أصحاب الأعمال العقارية الكبرى والمصارف ومن يعيشون على هامش الإنتاج، وأولئك الذين ينهبون الدولة وصناديقها التي أصبحت شبه مفلسة. والمصيبة أنه ليس في لبنان تنظيمات نقابية، ولا أحزاب يسارية حية، ولا جمهور يمكنه أن يتوحد للحظة خلف مصالحه المباشرة. كل ما تبقى بعض هيئات التنسيق النقابية، وشتات من يساريين هنا وهناك، وإلا لما تجرّأ أحد على تهريب مشروع تصحيح الأجور بالأسلوب الذي حصل به، ويبقى أن لدينا مسكيناً واحداً كشربل نحاس، وزيراً للعمل، يفاوض لمصلحة الناس والعمال والقليل من التطور الاقتصادي في مقابل غول التضخم الذي التهم الزودة قبل أن تقرّ في تشرين الأول، وقبل أن يُتراجع عنها، وكأنه لا حكومة ولا أجهزة رقابة ولا تدابير إدارية ولا محاسبة قضائية ولا آلهة تحاسب، وكأنه ليس في البلاد إلا أغنام وسلّاخو فراء يضربون في أغنامهم كما يروقهم.يحاول اليوم عباقرة الاقتصاد إقناعنا بمقارنة بين مشروع شربل نحاس من جهة والمشروع المقرّ لتصحيح الأجور من جهة ثانية، وبأن الناس خسروا من تعطيل المشروع الأول لتصحيح الأجور الذي اعترض المجلس الدستوري عليه أكثر ممّا ربحوا من المشروع الحالي. هؤلاء أنفسهم، خصوصاً من كان منهم وزير، أينما يحلّون تسود رائحة الفساد الكريهة، والتعيّش من لحم الأجراء والعمال والصفقات المريبة.وفي الواقع، فإن ما قُدّم عبر مجلس الوزراء لا يعدّ أكثر من مكرمة ملكية، على طريقة بلاطات النفط، حيث قرر مجلس الوزراء إعطاء الأجراء (المسجلين في الضمان الاجتماعي فقط) زودة وقيمتها لا تتعدى 275 ألف ليرة، لأعلى الرواتب، ولا تتجاوز 200 ألف ليرة للرواتب الأدنى.أما مشروع نحاس الذي أضاع وقته في البحث، وهدر وقت موظفي الدولة في إعداد التقارير، فهو يلحظ أن 29% فقط من الموظفين والعاملين في لبنان يشملهم الضمان الاجتماعي، وبالتالي فإن 70 في المئة من القوى العاملة لن تستفيد من زودة الأجور، بل ستدفع ثمنها، وافترض أن المطلوب إحداث تغيير في بنية الاقتصاد اللبناني، عبر تخفيف العبء عن المؤسسات التي تدفع اشتراكات موظفيها، ورفع القيمة الشرائية للمواطن عبر إعفائه من كلفة الطبابة بمشروع التغطية الصحية الشاملة من ناحية، وإعفاء المؤسسات من اشتراكاتها في الضمان الاجتماعي لتشجيعها على التوظيف والاستثمار.وافترض المسكين شربل نحاس أن هناك قطاعات غير منتجة في الاقتصاد اللبناني تجني عشرات الملايين من الدولارات من دون أن تضطر إلى دفع أي شيء للدولة اللبنانية، والتي يجب أن تلتزم بتغطية المواطنين في الضمان الاجتماعي وتمويل خفض أكلاف المعيشة. والفئات غير المنتجة هذه في بلادنا، كما يعلم الجميع، تعيش في جنة ضريبية موروثة، ليس فقط من نظام «الطغمة المالية» (والشهيرة بأنها الأب والأم للحرب الأهلية في لبنان، مع الاعتذار عن استخدام تعابير بائدة) بل أيضاً الجنة الضريبية التي كانت حلم رفيق الحريري، فبزّه فيها أخصامه من حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الله وبعض التيار الوطني.الفئات غير المنتجة من تجار العقارات وأصحاب المخالفات والمصارف والمضاربين، حافظت على أرباحها والحمد لله. التضخم سيزداد في الأيام المقبلة، المكرمة الحكومية ستذهب في تمويل حرق البنزين في ازدحام السير والتنقل بين المناطق في بلادنا الشاسعة التي لا يمكن إنشاء خطوط نقل عام لشدة اتساعها وترامي أطرافها .مرة أخرى يربح حراس الهيكل المعركة، وكان المسكين شربل يعتقد بأنه يمكنه أن يزيح صخرة من هذا الهيكل ليؤمن حياة أفضل بقليل للبنانيين ....خسئ اللبنانيون جميعاً، وعاش الاقتصاد الحر.

«تقرير نحاس عن الأجور: نحو دولة تحمي مواطنيها لا حرامييها» المنشور في جريدة «الأخبار» العدد ١٥٣٩ الاثنين ١٧ تشرين الأول ٢٠١١.http://www.al-akhbar.com/node/23765

آخر تعديل على Thursday, 15 December 2011 07:32

الأكثر قراءة