تقود صراحة سليمان فرنجية الفظة، الى وصف حليفه على طاولة «الاصلاح والتغيير» شربل نحاس بـ«الغليظ والمتعِب». يعايره بـ«ماركسيته». العقيدة التي ينبذها الزعيم الزغرتاوي. حلفاء الوزير اليساري الآخرون يكتمون غيظهم من «الدخيل» الذي «يعرف كل شيء ويحشر أنفه في كل شيء». وزير المالية محمد الصفدي «يثرثر» ايضاً على نحاس. يرى «انه يدير اكثر من وزارة» ويدقّق في الشاردة والواردة... حتى أن وليد جنبلاط الذي كان يستأنس سابقاً بشربل نحاس صار يكره سماع اسمه، حاله حال باقي الوزراء «المناضلين» في «جبهة النضال».وكما في مجلس الوزراء، ايضاً في البيئة العونية، التي تبدو في معظمها غير مستعدة لتقبل الحساسية اليسارية الحادة عند شربل نحاس. يستثنى من ذلك ميشال عون، خاصة مع تجربة حكومة نجيب ميقاتي ودخوله للمرة الأولى الى الحلقة الضيقة في الرابية جنباً الى جنب جبران باسيل أو بالأصح، بدرجة أقل منه، لاعتبارات لا يمكن أن تنطبق على النحاس اليساري. الأمثلة كثيرة، ولطالما همس وزراء ونواب ورجال أعمال وعاملون في المهن الحرة في أذن «الجنرال» بأن شربل نحاس «ينقز القطاع الخاص»، وأنه «لا يُحسن تدوير الزوايا»، و«لا يخدم جماعتنا» ولا.. ولا..صارت عودة شربل نحاس الى الحكومة بالنسبة الى جنرال الرابية، معركة سياسية وإصلاحية، بعدما اشتمّ استعداد باقي وزراء التكتل للمساومة والتسوية وفي الوقت نفسه، انزعاج فريق 14 آذار وخاصة سعد الحريري وفؤاد السنيورة من طروحاته ودوره في مجلس الوزراء، وزاد الطين بلة، أن «الجنرال» اشتم نفساً ليس ايجابياً عند رئيس الحكومة الحالي ازاء الوزير المشاكس برغم الصداقة التي تجمع بين الاثنين.لهذه الأسباب وغيرها عاد شربل نحاس الى الحكومة ويكاد يتحول «ثابتاً» الى جانب «وزير الوزراء» جبران باسيل.على طاولة الرابية، يرى فادي عبود في اليساري الحالي والسابق «الشيطان الأكبر». في السياسة، لا «يشارع» الاثنان في توجهات الرابية الاستراتيجية. في الملفات الاقتصادية هما يشكّلان مصدر شغب في غرف النقاش المغلقة. عصا عون السحرية جمعت الراديكالي ورجل الاعمال على طاولة واحدة. كان رهان «جنرال الرابية» منذ البداية على تقليل حجم الخصوم للتغيير والاصلاح. فأتى بالصناعي، صاحب العقل الربحي، المتأثر بالفكر النيوليبرالي «الحسّاس» على تدخل الدولة بمنطقها الكابح للاستثمارات الخاصة. كما فرض نحاس، بالمقابل، رقماً صعباً على الحلفاء قبل الخصوم. هو الرجل الذي قيل عنه انه يشتغل «ضد النظام» بالمفهوم الاقتصادي. نقيضان ميزتهما الاساسية المشتركة أنهما يقبلان بقواعد اللعبة الديموقراطية ونتائجها. صراع الديوك على طاولة الرابية له قصته. في العام 2005، وضع العماد ميشال عون، الآتي من المنفى، بين ايدي مناصريه برنامجاً انتخابياً تأثرت بنوده بشكل كبير ببرامج النيوليبرالية ولغة اقتصاد السوق. انتهى «التيار الوطني الحر» في انتخابات 2009 ببرنامج انتخابي يتجاوز بطروحاته الراديكالية، البرامج اليسارية. لدى الاستفسار عن هذا التحوّل جاء الجواب: «ابحثوا عن بصمات شربل نحاس». في الخلفية العقائدية لقائد الجيش السابق ما ساعده على «تشرّب» الفكر الإصلاحي بوجهه اليساري. هو ابن حارة حريك. ابن الطبقة الوسطى. ابن المدرسة الشهابية بمعناها الدولتي الاجتماعي. ابن المؤسسة العسكرية التي شهدت على انهيار مؤسسات الدولة وعلى جشع الميليشيات في أكلها من الكتف. هو علماني بالدرجة الاولى، لكن زعامته تتكئ بشكل اساسي على خطاب مسيحي عموده الفقري عصبية الطائفة. هذه التوليفة «العونية» قضت بتشييد اسس زعامة مسيحية بخطاب اجتماعي عموده الفقري فكرة «دولة الرعاية» وحماية المواطن وحاجاته وتكريس انماط من العدالة الاجتماعية... كان عون على رأس النادي الذي لم يستفد من فلس واحد في عهد الوصاية السورية. بعودته من المنفى الباريسي اتضحت الصورة في ذهنه أكثر. كان على الجنرال العائد أن يتمسّك بخطاب طابعه انقلابي تغييري يستهدف تلك الطبقة الوسطى من المسيحيين التي دفعت ثمناً باهظاً من كلفة الحرب والخروج منها وحرمت من منافع الدولة وثرواتها وسياسة توزيع المكاسب فيها طوال سنوات ما بعد الطائف والرعاية السورية المباشرة له.كثيرون يرون أن ميشال عون وجد ضالته في شربل نحاس. النقمة العونية عليه في بدايات توزيره العام 2009 لم تدم طويلاً. اكتشف «البرتقاليون» لاحقاً أنه «قيمة مضافة» في «تكتل التغيير والإصلاح»، وان اتهمه البعض في معرض المديح بأنه «يفضح جهل الآخرين».الاستنجاد بفادي عبود الوجه الحزبي القومي السابق وغير الاستفزازي، البديل «الوسطي» عن غسان الأشقر «النافر» متنياً، الصناعي الخبير بلغة رجال الأعمال والاستثمارات والسياسة التنافسية كان حاجة مادية لميشال عون و«بروفيل» الضرورة بوجه نحاس الشيوعي الماركسي. «شربل» المناضل من جيل المثقفين الذين استسلموا للخيبة كخيار أجدى من خيار بعض رفاقه الذين «أجّروا عقولهم» والتحقوا بـ«دواوين» السلطة من دارة رفيق الحريري وصولاً الى الخليج او اختاروا الهجرة لتحصيل لقمة العيش. فلفش ميشال عون ملياً في سيرة نحاس ومحاولاته الاصلاحية منذ الثمانينيات: عمل على برنامج اعادة اعمار بيروت بين 1992 و1996 وساهم في تطوير القطاع المصرفي وقطاع الاتصالات. وضع برنامج «التصحيح المالي» في حكومة الرئيس سليم الحص بعد إزاحة رفيق الحريري عن الواجهة، وصولاً الى العام 2002 حيث وضع «المخطط الشامل لترتيب الاراضي في لبنان» الذي أقرته حكومة فؤاد السنيورة، لكنه بقي في الجارور. وقاد لاحقاً الفريق الذي وضع خطة الاستثمارات العامة واستراتيجية التنمية الاجتماعية في لبنان ومشروع إصلاح ضمان الشيخوخة... سيرة ذاتية تُختصر بكونها نقيض القماشة السياسية الحاكمة. هي كومة العصي في دواليب مراكمي الثروات على حساب الشعب. التعاون الثنائي بين عون ونحاس حصل في العام 2007 حين طلب الاول من دكتور الهندسة والتخطيط وضع ملاحظات على برنامج الحكومة على مؤتمر «باريس 3» وإعداد ورقة بديلة عن البرنامج. يومها نصح ميشال عون بتوزيع هذه الورقة على المشاركين في المؤتمر. ومع وصول الرئيس سعد الحريري الى السرايا كان قرار «جنرال الرابية» قد اتخذ بتوزير شربل نحاس. بين «سياحة» فادي عبود و«اتصالات» شربل نحاس، اراد عون التوأمة بين منطقين. ما يحمله الاستاذ الماركسي من طروحات تغييرية جذرية وما يمكن للصناعي ان يقدمه لمجتمع الاعمال. برأي رئيس تكتل التغيير والاصلاح يستطيع الاثنان ان يتجاورا ويتحاورا. منطق «البيزنس» يستطيع ان «يلطّف» من «ثورجة» اليساري. لم تكن التجربة في حكومتي الحريري ونجيب ميقاتي مشجعة. باعتقاد مقربين من الرابية. لم يلعب عبود دوره كصناعي بل تحوّل الى رأس حربة في مواجهة شربل نحاس وطروحاته. العلاقة الشخصية بين الرجلين مقبولة. كلام فادي عبود في السياسة كالمياه الفاترة.. الاثنان يبصمان في السياسة على خيارات الرابية. غالبا ما يحضر الصناعي واليساري في حلقات النقاش الموسّعة كما أنهما مشاركان أساسيان على طاولة الاجتماعات الاسبوعية. لكن عندما يراد للنقاش ان يأخذ نطاقه الاضيق. يحضر ثلاثة هم ميشال عون، جبران باسيل وشربل نحاس.نموذجان فاقعان فضحا تضارب الكيمياء الاقتصادية بين الوزيرين الحليفين. في حكومة سعد الحريري طرحت وزيرة المال ريا الحسن في مشروع موازنة 2010 تخفيض الضريبة على إعادة تقييم الاصول العقارية وغير العقارية لدى الشركات الى 3%. واجه الوزير نحاس يومها المشروع بكل قوته. في مفهومه كان هذا يعني ان شركة كـ «سوليدير» تستطيع من خلال هذا المشروع ان تربح مليارات الدولارات لكونها تملّكت عقارات الناس منذ التسعينيات بأسعار زهيدة جداً، فيما ارتفعت اسعار العقارات بعدها مئات المرات. وزير السياحة انفرد من بين كل حلفائه في مجلس الوزراء بالتصويت مع المشروع الذي سقط بسبب عدم حصوله على اكثرية الثلثين. بعدها زار عبود الرئيس الحريري محاولاً إقناعه بإعادة طرح المشروع على التصويت معدلاً، وفي الخلفية ان المصانع والمؤسسات التي لا تتاجر بالعقارات تستفيد من اعادة تقييم أصولها لانها تزيد من حجم ميزانيتها. ميشال عون تبنّى وجهة نظر نحاس وليس عبود في هذه المسألة. في حكومة الرئيس ميقاتي دعم العماد عون مقاربة نحاس لتصحيح الأجور التي تتضمن تطبيق مشروع التغطية الصحية الشاملة بحيث تطال هذه الزيادة كل اللبنانيين وليس فقط الاجراء النظاميين. في مجلس الوزراء وقف فادي عبود ضد مقاربة شربل نحاس لتصحيح الأجور فغلب «طبع» رب العمل على «تطبّعه» كجندي في جيش «التغيير والاصلاح»، مكرراً لازمة عدم جواز تدخل الدولة الا لرفع الحد الادنى للاجور. الامر الذي دفع الوزير علي حسن خليل الى التوجه الى وزراء «تكتل التغيير والإصلاح» قائلاً «أقنعوا فادي عبود بالمشروع قبل أن تقنعونا». حليفا «التيار الوطني» غير الملتزمين في الحزب «البرتقالي» شكّلا قيمة مضافة الى رصيد «التكتل»، لكن ليس كثنائي. الكباش الصامت بين الرجلين يسهّل على خصوم الرابية اللعب على وتر التناقضات، وأدى الى تشتيت قدرة فريق عون في مجلس الوزراء من دون تحقيق مكاسب حاسمة. «التجربة النحاسية» تذكّر ببعض المحاولات الاصلاحية الفردية السابقة، وان كان من المبكر رصد اوجه التشابه.عندما شكّل الراحل الرئيس سليمان فرنجية حكومة الشباب برئاسة صائب سلام تم توزير الياس سابا واميل بيطار وبيار حلو. الاول خاض معركة بوجه التجار ضد رفع الاسعار وخسرها. الثاني اقتحم مافيا تجارة الادوية فكان مصيره الاستقالة. الثالث خاض مواجهة لدعم الانتاج الصناعي لم تؤد الى اي نتيجة. في حكومة سليم الحص جاء جورج قرم وزيراً للمالية من خارج النادي ولم يتمكن من الدخول الى مغارة وزارة المالية، حاله كحال كل من تعاقبوا على هذه الوزارة لاحقاً وآخرهم محمد الصفدي.مر قطوع التمويل. صارت الأولوية على الطاولة الميقاتية للملفات الاجتماعية... بانتظار استحقاق آذار وملف شهود الزور وجلاء المشهد السوري. الأولوية الاجتماعية تعني أن شربل نحاس لن يهادن، وفي المقابل، سيجد فادي عبود نفسه في أغلب الأحيان مدافعا عن رأي الهيئات الاقتصادية وأرباب العمل، مثله مثل معظم الطبقة السياسية المندرجة في «السيستيم».