محاكمة التمساح: موجات من الاعتداء على كل من لا يهتف ضد محاكمته

محاكمة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، ونجليه جمال وعلاء، ووزير الداخلية السابق، حبيب العادلي، مشاهد من مسرحيّة تراجيدية لم تشهدها عاصمة المعزّ من قبل. في جلسة كان فيها التمساح ممدداً في قفصه، يحاول استراق الأصوات بالواسطة من خلال ولديه، كان الميكروفون بطل اليوم الأول من محكمة القرن. لعلها لحظة فارقة في تاريخ مصر

وائل عبد الفتاح

هبطت الطائرة العسكرية في مطار ألماظة، وغادرها الرئيس المخلوع حسني مبارك، إلى سيارة إسعاف ضخمة. جسده شغل الأمن والناس. الأنظار تابعت جسد التمساح يظهر بعد 6 أشهر وزيادة من الاختفاء. كيف ستكون أحواله؟ هل حقاً سيشاهدون الديكتاتور في القفص؟ نعم، الديكتاتور على السرير. إبداع مصري خالص، في ثورة لم تذبح الطاغية ولم تطرده، لكنها قررت محاكمته بقانون أمعن في تفصيله ليحميه. لم يصدق أحد؛ مسرحية، أو إعلان مجاني، لكنها رغم كل ذلك كانت لحظة فارقة في تاريخ يكتب في القاهرة.Iالتمساح يحرّك ظهره. يريد أن يرى ما يحدث حوله، لا تتيح له نومة الظهر رؤية ما يجري، إنه آخر مكان رسمي شاهد هيلمانه وهو رئيس جمهورية. وقف ليتحدى الجميع: أنا الرئيس الأبدي لمصر، قالها وسط جموع جيشه الثاني: الشرطة التي احتفلت بعيدها وسط ترقب الدعوة إلى «الثورة»، وفي مناخ مشحون بأسىً ورعب من حادثة كنيسة القديسين بالإسكندرية.وعن منصة الاحتفال، أعلن وزير الداخلية السابق، حبيب العادلي، أسماء المتهمين بالتفجير، وأعلن مبارك أنه يثق بـ«جيش الشرطة».في المكان نفسه استلقى مبارك على ظهره، منتظراً أن يُنادى: المتهم الأول. العادلي دخل قبله، تماماً كما كان يحدث في أيام عز النظام. وفي الاستراحة بدت المودة حاضرة مع فرق الحراسة المقيمة في القاعة؛ ضباط شرطة وجيش، بملابس عسكرية ومدنية، يشيرون إلى وزير الداخلية (١٣ سنة) وإلى نجلي مبارك (جمال وعلاء). بدت المودة قاسية أكثر من الجفاء، لأنها تظهر أن المحاكمة تجري بقوة فوق الجميع، قوة أكبر من الحراس القُدامى والجُدد لسلطة. قوة اسمها الثورة.علاء مبارك غطّى العدسة لكي لا يرى أحد مسار عودته إلى سيارة الترحيلات، وحبيب العادلي صافح مودّعيه من الضباط. وبدت مشية جمال مبارك كأنه في تشريفة إلى منصة حكم. أثار المشهد استياءً، لكنه كشف عمّن وراء وجود التمساح ونظامه في القفص، وأن هذه ليست رغبة من في يده السلطة، إنها رغبة من خارج أروقة الحكم. رغبة الميدان، الذي بات تحت الاحتلال ليلة المحاكمة.قوات مختلطة من الجيش والشرطة، إضافة إلى أجهزة أمنية أخرى غير معروفة. كوكتيل أمني احتل الميدان لكي لا يسمح بوجود مادي لقوة التحرير التي قادت التمساح إلى القفص.IIالديكتاتور بكامل ماكياجه. هكذا ظهر مبارك بين جسدي علاء وجمال. كلاهما أغلق المجال المُتاح أمام الكاميرات. لكن كاميرا هربت من سد الأولاد، واقتنصت مشهد مبارك مستلقياً على سرير طبي، يستمع إلى إجراءت محاكمته. يد مبارك لم تتوقف عن الحركة، لم تكن حركة عصبية، لكنه انشغال يملأ مساحة تَدرّب 30 سنة على شغلها بما يليق برئيس لا ينازعه أحد.اليد تلعب في الرأس، تُنظّف الأنف، وتشكّل علامة حكمة تحت الذقن، وتوضع خلف الرأس، أو ينادى بها على الابن الأسرع في الاستجابة: جمال، المذنب، يحاول أن يحمي أبيه. أشار إلى الحراس المدنيين بالانتباه إلى مكان الكاميرات، وأدى دور الحارس بالتناوب مع شقيقه الأكبر علاء الذي بدا أكثر توتّراً بحركته العصبية، والعرق الذي يسيل على وجهه.سد الولدين، منع مبارك من المشاهدة، وطلب منهما الإزاحة ليرى ما يحدث، وخاصة أن أذنه لا تعمل جيداً، وهو ما اضطره إلى عدم سماع سؤال القاضي وهو يناديه: المتهم محمد حسني السيد مبارك. الإجابة المعتادة سمعها الجميع من مبارك: أفندم. حاضر.ديكتاتور يثبت حضوره في قفص الاتهام الجنائي، ويؤكد طاعته لرئيس محكمة وجه إليه التهم بالقتل والفساد.التمساح ظهر من تحت أغطيته الطبيّة، ليعلن حضوره. صوته متحشرج. ومقارنةً بسيطة مع آخر ظهور صوتي عبر قناة العربية، تبدو هزيمة ما، وخفوت نبرة السلطة. ليس خفوتاً كاملاً، ربما لأن الشعور بالسلطة تركز في مظهر التماسك عبر صبغة الشعر والماكياج واستدعاء ما بقي من عنجهية، والخيانة.كانت في الصوت ليس وحده، لكن علاء وجمال، لم يخلُ الصوت من حشرجة بعد أن استهلكت الصورة كل الطاقة المدافعة عن الذات.ماذا تقول في التهم الموجهة إليك؟سأل القاضي ووصلت عبر جمال إلى أذن مبارك. وأجاب مبارك: أنفي التهم. وجّهه القاضي: ليس من حقك النفي أو القبول. من حقك الاعتراف أو الإنكار فقط.وأنكر مبارك الذي تعذب بسماع التهم ورأي النيابة، وآراء المحامين بالحق المدني، بمن فيهم المتطرف في سخريته ويرى أن الموجود في القفص نسخة، وليس حقيقة، وأنه يحكم مصر منذ سبع سنوات. أو المحامي الآخر الذي حمل ختّامة لكي تُجرى المحكمة «فيش وتشبيه» (صحيفة الحالة الجنائية) لمبارك وعائلته.أُذن مبارك التقطت رغماً عنها وعن تعطلها ٣٠ سنة. سمعت بالأمر المباشر لمن هتفوا: ها نحن نحاكمه. أما صورته فقد رآها ملايين تابعوا المحاكمة، وصورة مبارك الحريص على صبغ شعره، ووضع كريمات الأساس لبشرة يُداري بها عمره، الذي كان أمل أتباعه في استدرار العواطف… بدا مبارك في صورته ضد نفسه، وضد مشروع تحويله لأي ميلودراما. انتقل إلى حدود التراجيديا.IIIتراجيديا مصرية: ديكتاتور في القفص بسبب استسلامه لشهوات العائلة. ضحية متجبّرة ، وبطريرك وزع حنانه الأبوي على «عصابة» قادها ابنه في السنوات الأخيرة.كل ابن تحوّل إلى حاجب أمام الكاميرات، بعدما أسهم في تعرية ظهره أمام شعب رأى وسمع عن تضخّم ثروات وصفقات بيع الغاز لإسرائيل، والمعارك حول النسبة بين جمال وحسين سالم، الصديق الواجهة الهارب إلى إسبانبا وخلفه أساطير تولد منها أساطير أخرى.العائلة ستغادر دولتها السرية، شرم الشيخ، بعد أن قرر القاضي نقل مقر الزنزانة الطبية إلى المركز الطبي العالمي، وهو مستشفى عسكري حديث مبني في الطريق الصحراوي بين القاهرة ومدينة الإسماعيلية، يضم بين بنايته مهبط طائرات، ويعتمد على أنه مركز استشفاء دولي. ومن بين خدماته علاج العناصر العسكريين الأميركيين الموجودين في المنطقة، ولهذا يطلق عليه شعبياً اسم: مستشفى المارينز.IVنريد المشير. فريق الدفاع عن مبارك وأعوانه، طالبوا بشهادة المشير (حسين طنطاوي)، لأنه الحاكم الفعلي منذ 28 كانون الثاني، كما قال محامي مبارك فريد الديب.وفريق الحق المدني طالب أيضاً باستدعاء المشير، لكن هذه المرة لأنه قال إنه رفض تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، كما قال رئيس أركانهالفريق سامي عنان. وعلى حد تعبير أحد المحامين: طلب منا إخلاء الميدان بأي طريقة.فريد الديب لم يطلب المشير فقط، لكنه استدعى ألعابه القديمة. طلب ما يقرب من 1300 شاهد. ألعاب تمنّى الثوار أن تسير إلى مصير موكليهالسابقين نفسه: الجاسوس عزام عزام، ورجل الأعمال قاتل عشيقته هشام طلعت مصطفى. الأول حصل على السجن المؤبد والثاني على الإعدام.هل يحقّق الديب الأمل وتقود ألعابه مبارك إلى مصير المجرمين؟Vالديكتاتور مجرم، لا يستحق الذبح. الثورة تستحق أن تقود مبارك إلى المحاكمة لا التصفية. النقلة النوعية هنا في أن الثورة لا من يحكم باسمها قادت الديكتاتور إلى قفص في المكان نفسه الذي كان يُخرّج منه قيادات جيشه.حتى سلاح الخيّالة ظهر ضمن إجراءات حماية الديكتاتور. الثورة نامت هادئة رغم AffinityCMSت الاعتداء الوحشي على ثوار التحرير. الهستيريا أصابت الرافضين محاكمة مبارك.لماذا يرفضون؟لا إجابة غير نثار عاطفي ممزوج بالعنف والعصبية. وبعيداً عن الطوق الأمني المتعدد الأجهزة، تحولت العصبيّة العاطفيّة إلى موجات من الاعتداء على كل من لا يهتف ضد محاكمة مبارك. ميليشيات خرجت من مخازن استخدمها مبارك وحزبه في الانتخابات، لم تجد غير العنف الموجّه إلى رموز معارضة مبارك، للإرهاب والانتقام.لمصلحة من؟الثورة اختارت طريق العدالة، لتبني على أساس محاكمة مبارك، دولة قانون غابت في عهده. ومبارك لم يبق مدافعاً عنه إلّا جيش بلطجية مع تبخّر أجهزته السياسيّة وتفكّك مؤسسات الدولة.النظام في القفص، وفرق المحامين عن الشهداء مرتبكون. فالمتهم رئيس ونظامه بالكامل، وهم غير مدرّبين يتحركّون بفوضى ملحوظة، لا خطة ولا أسماء لامعة، بينما فريق الدفاع عن مبارك وأعوانه محشو بنجوم المحاماة.الميكروفون كان بطل اليوم الأول من محكمة القرن، القاضي يطارده، والمحامون يتخاطفونه، والمتّهمون يمسكونه بأيدٍ مرتعشة؛ لأن حضورهم يكتمل أمام الجمهور الواسع لأول مرة منذ سقوط رأس النظام.

المستشار أحمد رفعت: قاضي محاكمة القرن

من هو المستشار أحمد رفعت الذي نظر في محاكمة العصر في مصر أمس؟ سؤال تردد كثيراً مع ظهور الرجل الذي أصدر من قبل حكماً شهيراً بالبراءة لنائب مرشد الإخوان المسلمين، محمود عزت، في قضية القطبيّين. وهو أيضاً القاضي الذي تنحّى عن التحقيق مع المستشارين محمود مكي وهشام البسطويسي في القضية التي كانت عنواناً لصراع تيار الاستقلال القضائي ضد نظام مبارك المستبد. رفعت هو العنوان الأبرز فى كل القضايا الكبرى مثل قضية الآثار الكبرى، التي اتّهم فيها رجال أعمال، وضباط شرطة، وأجانب بالاستيلاء، وتهريب آثار مصريّة إلى الخارج، وتنحيّه عن نظر قضية فتاة مصر الجديدة، التي اتهم فيها أحد أفراد الأسرة الحاكمة الإماراتية «نظراً إلى استشعاره الحرج». بقي أن نعرف أن مصر كلها تنظر وتنتظر من رفعت الكثير في قضية نظام كامل أفقر المصريين وأذلّهم وأصابهم بالفشل السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي والفشل الكلوي، والسرطان. وفي النهاية أبى أن يرحل إلا بقتل أكثر من 1000 مواطن في ثورة سمع عنها العالم، خرجوا بحثاً عن العدالة والحرية والكرامة.z

الأكثر قراءة