الاسم الحقيقي للمنزل الذي سكنه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري هو «قصر أياس». وللقصر مالك لا يزال حياً، لكن يمنع عليه الاقتراب منه؛ فقد استولت عليه «سوليدير» من دون علمه، وأدخلته إلى «إمارة الحريري». لا الدعاوى نفعت ولا الشكاوى وصلت!
رشا أبو زكي«بيت الوسط»، تسمية اعتاد اللبنانيون تردادها منذ انتقل رئيس الحكومة السابق سعد الحريري إلى منزله في وسط بيروت. البيت شكله مربّع، بناؤه قديم جداً، لونه أصفر، على سقفه قرميد، يشبه أحد القصور القديمة من عهد العثمانيين. السؤال الذي يتبادر إلى ذهن زائر المنزل: هل يُصَنَّف «بيت الوسط» من البيوت والعقارات التي صادرتها «سوليدير»؟ لا صعوبة إطلاقاً في الإجابة عن هذا السؤال؛ فـ«بيت الوسط» لم يرثه الحريري عن أجداده، ولا أجداد أجداده، وطبعاً لا تملكه «سوليدير» بصورة قانونية ناصعة. إنه «قصر أياس»، وهو أصل الحكاية.
ما علاقة عائلة «أياس» (البيروتية) بعائلة «الحريري» (الصيداوية)؟ أيضاً، لا حاجة إلى التفكير طويلاً؛ فالجواب هو: «لا علاقة». فقد تملّك الرئيس الراحل الحريري القصر من شركة «سوليدير»، التي هجّرت منه مالكيه الحقيقيين، حتى من دون تعويض، وقد سكنه الحريري من دون علم أصحابه! وفي «بيت الوسط»، استقبل رئيس الحكومة السابق سعد الحريري ضيوفاً عالميين ومحليين، وأبناء بيروت أيضاً، ودعا إلى مائدته سفراء ووزراء وملوكاً ورؤساء، ويرى مالكو «البيت» أنه لو علم هؤلاء «قصة البيت» لما دخلوه، أو لربما دخلوه على رؤوس أصابعهم، لئلا يتعثروا بقصص أصحابه الذين لا يزالون أحياء وذكرياتهم ومأساتهم ويمنع عليهم حتى الاقتراب من باحة منزلهم!تبدأ الحكاية بذكريات تتقلّب مع دولاب كرسيّه، وكلما دفع نفسه خطوة إلى الأمام تتسابق إلى عقله الأفكار. يرتبك قليلاً ليعيد تنظيم عباراته. فالقصص كثيرة. والوقائع غريبة. وقلة الراغبين بسماع حقائق عن معاناة أهل بيروت مع آل الحريري تستلزم منه القليل من الجهد لاستحضار المعطيات بدقة. ورقة على الطاولة، عليها شجرة عائلة آل أياس، «ستساعدك لتعرفي كيف ورثنا القصر، ومن هم المالكون الحقيقيون لما يسمونه جوراً وظلماً بيت الوسط»، يقول قبل أن يركن كرسيّه المدولب بالقرب من الطاولة. فقد أصيبت قدمه بكسر خطير، كسر لم يلتئم منذ أكثر من شهرين بسبب الوهن الذي أصاب عظامه. فالسنوات الإحدى والسبعون لم تمر بسهولة على محمد أنيس النصولي، وخصوصاً السنوات الست الأخيرة، أي منذ عام 2005 حين قرر العودة من الكويت إلى لبنان، ليكتشف فعلة سوليدير ومالكها!إنه العقار 105، الموجود في ميناء الحصن. اسم الشارع قديماً هو «شارع فرنسا»، والعقار عبارة عن «قصر أياس». بناه محمد عثمان أياس، ولقبه «بيلار بك». لقب منحه إياه العثمانيون، ومعناه «رئيس البكوات في الشرق الأوسط»، وهو باني سوق أياس القديم في وسط بيروت كذلك. أما موقع القصر، فيعود إلى رغبة «محمد بك» في أن يكون منزله بالقرب من قصر الوالي العثماني (القصر الحكومي حالياً).وكان لـ«محمد بك» ثلاثة أولاد: محمد علي أياس، محمد خير أياس، ومحمد سعيد أياس، عاشوا كلهم في القصر حتى وفاتهم. بما أن محمد علي لم يكن لديه أولاد، انتقل إرثه إلى حنيفة أياس (ابنة محمد خير) وحصتها 75%؛ لأنها اشترت حصص أخوتها من الإرث، ومريم أياس (ابنة محمد سعيد) وحصتها 25% من الإرث. تزوجت حنيفة بأنيس النصولي، وتزوجت مريم بيوسف الداعوق، فورث محمد النصولي حصة والدته، فيما ورث خالد الداعوق حصةوالدته.تزوجت حنيفة أياس (والدة محمد النصولي) وأقامت في البيت وبقيت فيه حتى الحرب الأهلية في عام 1975، إلا أن أخاها بقي في القصر في عز الحرب الأهلية، وتوفي هناك وحيداً؛ إذ اقتحمت قوة من الميليشيات القصر ورمته من الشرفة، وسرقت محتويات القصر التي تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات. لم يصب القصر بأضرار خلال الحرب، ومع بدء «أوجيه لبنان» المملوكة لآل الحريري ورشة الإعمار، ومن ثم إنشاء «سوليدير»، لم يدخل القصر ضمن مخطط الأخيرة، فما الذي حدث إذاً؟ابتسامة هازئة تغيّر ملامح محمد النصولي. يشرح أنه في التسعينيات هدم «أحدهم» سقف القصر، وجزءاً من سوق أياس، وعملوا على إصدار قانون جديد ضموا فيه القصر إلى مخطط المنطقة «التي استولت عليها شركة سوليدير عام 1995». لم يكن النصولي يعلم شيئاً عن هذه الأحداث، فقد كان في الخليج منذ عام 1964، وكل ما كان يعرفه أن القصر نُهب وأن خاله رُمي من الشرفة. لم يخطر بباله أن أحداً سيصادر قصر العائلة. هدم السقف وضم القصر وترميمه وامتلاك الحريري له وتحويله إلى منزل، كل هذه التطورات كانت تحدث من دون علم أيّ من مالكي قصر أياس!في عام 2003 كتب النصولي في إحدى الجرائد موضوعاً عن جرف الرئيس رفيق الحريري مقبرة «السنطية»، وهي مقبرة مخصصة للعائلات البيروتية منذ آلاف السنين، وتضمن الموضوع الذي حمل عنوان «اطردوا سارقي الهيكل» انتقادات للحريري ولشركة «سوليدير» تتعلق بالسيطرة على بيروت القديمة. الموضوع الذي أزعج رئيس الحكومة الراحل تحوّل إلى مادة لإقلاق النصولي؛ إذ يؤكد أن «الحريري طلب من بعض مصارف الخليج والمصارف اللبنانية التي يمون عليها الامتناع عن إعطائي بطاقات ائتمان». أدى ذلك إلى خروج النصولي من العمل التجاري، وسلّم أولاده الشركات... هذه «الحرب التجارية» دفعته إلى المجيء إلى لبنان في عام 2005، وحين حاول الاقتراب من قصره، منع من الوصول إليه. «قالوا لي: هذا منزل الرئيس! أي رئيس؟ أنا المالك! أنا صاحب القصر!». ينفعل النصولي بيأس. حينها رفع دعوى قضائية على «سوليدير»، وعيّن عدداً من المحامين لمساعدته في استرجاع قصر أجداده، إلا أن أيّ حكم لم يصدر حتى الآن! «لا يملكون ورقة واحدة تعطيهم حق الاستحواذ على المنزل» يقول النصولي. يؤكد: «ولا ورقة! يستقبل ويودع في منزلي!».يظهر الإرهاق جلياً على وجه النصولي، الذي انتقل، منذ أن كسرت قدمه، إلى منزل ابنه الذي يطلّ على «قصر أياس» أو ما يعرف حالياً بـ«بيت الوسط». من الشرفة تستطيع أن ترى القصر القديم، الطبقتين العلويتين، القرميد، والمباني التي تحيطه من كل الجهات. ينظر النصولي إلى بيته القديم بحسرة، يراقبه يومياً، تعود إليه ذكريات كثيرة، الغرفة التي مكث فيها لسنوات، النوافذ التي كانت تطل على حرش كبير، إخوته، والدته. «أنزعج كثيراً حين أراه يستقبل الرؤساء وجميع الناس في منزلي ويودعهم. أنزعج وأشعر بالظلم الكبير. كيف يمكن أحداً أن يتحمل فكرة أنه لا يستطيع أن يرى منزله، حيث عاش مع أهله وحيث تركة الأجداد، سوى عبر التلفاز؟ لا بل إن أحداً آخر يسكن منزله ويستخدمه كأنه مالك له!».تذوب عينا النصولي في وجهه، كف يده ترجع من الأمام إلى الوراء، كمن يحاول الانتقال من الحاضر إلى الماضي. تتوقف يده في الهواء ويستسلم قائلاً: «مرّت فترة طويلة، تخونني ذاكرتي، هذا بيتي، بيت أمي وجدي ووالد جدي، نسيت الكثير من التفاصيل، فقد كبرت». يخرج صوراً عن «القصر المخطوف»، ويشرح: «يتألف من أربع طبقات، كل طبقة فيها 10 غرف نوم و4 صالونات، وتصل مساحة الطابق إلى نحو 1700 متر. أما تحت القصر فيمتد سرداب موصول إلى البحر، وكانت السلطة العثمانية تستخدم هذا السرداب بعد إفراغ البواخر لإدخال الذهب والبضائع الغالية الثمن إلى بيروت، وذلك خوفاً من عمليات السرقة».لا تستمر الرحلة إلى الماضي طويلاً. النصولي متعب. يرهقه «لبنانهم». يهرب من جور القضاء وقوى «الأمر الواقع» إلى صفحات الجرائد. يكتب بعضاً من قلقه، بعضاً من غضبه، غضب ليس فقط على من استحوذ على ماض وإرث يفخر به، بل «على حاضر ومستقبل ناس لا يزالون يؤمنون بأن الحريري يمثلهم». يأخذ النصولي من مقالة كتبها في 23/7/2009 عبارة يقول إنها تعبّر عن كل ما يجول في خاطره: «مما لا يحيّر نظراً لتدني مستوى الأخلاق أمام سطوة المال وسلطانه أن يقوم الإعلام الموبوء المأجور والمشترى، وهو المصرّ على التراث والمحافظة عليه، بالتطبيل والتزمير «لبيت الوسط» وهو يعلم أنه قصر أياس وأنه أخذ ظلماً وعدواناً»، ولكن «دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة». يسكت نصولي، يجرّ نفسه إلى مكان يطل مباشرة على «قصر أياس»، يطلب أن نأخذ له صورة مع قصر أجداده. يقول إن هذا حقه، ولن يضيع. واثق هو، مبتسم، وقصره يمتد خلفه. ساكن القصر الآن، ينتظر ضجيج الكون، وبين جدرانه تعجّ ذكريات أصحابه، سكانه الأصليين الذين شردوا بعدما اكتشف «البيض» مستعمرة جديدة، مستعمرة كان اسمها وسط بيروت فأصبح «منطقة سوليدير».طبعاً، لا تتوقف عمليات الاستيلاء على بيت الوسط؛ فإذا أراد المتابع العودة إلى الحقوق، وجد أن أهالي بيروت هجروا تهجيراً من وسط بيروت، أو ما أصبح يطلق عليه اسم «منطقة سوليدير». لكن ثمة بعض الممتلكات أو الرموز البيروتية التي دخلت ضمن «جمهورية سوليدير» أو استولى عليها المنتفعون (وهم كثر)، ومن هذه المعالم أو الرموز ما يعرف بمقبرة السنطية. فهذه المقبرة هي للعائلات البيروتية، كانت قائمة منذ عام 1453، وكانت فيها آلاف المقابر العائدة لعشرات العائلات البيروتية من آل الداعوق وقرنفل ونصولي والشيخ وفتح الله وأياس. ويقول محمد النصولي إنه في عام 1982 «حين دخل الحريري الأب إلى بيروت لتنظيفها بعد الاجتياح، جرف مقبرة «السنطية»، علماً بأنها لم تكن ضمن مخطط «سوليدير»، ووضع الردم، أي جثث أهالي بيروت في البيال». ويشير النصولي إلى أن «مؤسسة المقاصد الإسلامية باعت المقبرة، وهي العقار 128 ميناء الحصن لشركة سوليدير عام 1994 بما يوازي 869 ألف سهم، رغم أنها مال موقوف. في حين أن بعض موظفي المقاصد باعوا رخام القبور، وكل ذلك بعلم المفتي محمد رشيد قباني، الذي أصبح مفتياً بعد أن قبل بهذا الموضوع. وبعد أن بدأت شركة «ميد غلف» بتشييد مبنى لها على جزء من المقبرة، ذهب وفد من العائلات البيروتية الى المفتي واستنكروا ما يحدث، وتحت الضغط، أوقفت عمليات التشييد على ما بقي من المقبرة، وأصبحت المقبرة تحت سلطة بلدية بيروت (رغم المطالب التي رفضت هذه الوصاية، مشيرة إلى أن المقبرة هي ملك لأهل بيروت، وليس للبلدية أي مصلحة فيها). والآن من يمر من قرب المقبرة، سيجد سوراً كبيراً يلفها، ولافتة كتب عليها: «هنا كانت مقبرة السنطية!».بالطبع، قضية بيت الوسط أو قصر أياس لا تزال قائمة، وكذلك قضايا أكثر من 1600 عقار استولت عليها شركة سوليدير في منطقة وسط بيروت. يضحك أحد المتابعين للقضية بخبث ويسأل: «لكي يحل ملوك الميليشيات قضية المهجرين، أنشأوا صندوقاً وأداروه بأنفسهم، فأهدروا آلاف مليارات الليرات ولم يعد المهجرون. فما بالكم بمن هجروا من وسط بيروت؟ لا صندوق سيعيد إليهم حقوقهم، ولا مسؤول سيرفع قضيتهم... ففي السرقات الكبرى يسكت الجميع، لأن الجميع مشتركون بالجريمة».
قصص تخبو بين جدران «البيت»
أُنشئت شركة «سوليدير» وفق القانون رقم117/91 الصادر في عام 1991. وعقدت الجمعية التأسيسية للشركة في أيار من عام 1994، ومنذ ذلك الحين عملت «سوليدير» على «تملك» أملاك المواطنين في وسط بيروت، من خلال إجبارهم على بيع أملاكهم وفق لجان للتخمين، والتخمينات قدرت سعر المتر المربع من الأرض بنحو 1500 دولار، فيما سعره في ذلك الحين كان يصل إلى 3500 دولار ويزيد، بحسب المنطقة العقارية، فيما حددت اللجان سعر المتر المبني بنحو 100 دولار، على الرغم من أن السعر كان يتعدى 400 دولار، وعلى هذه الأسس عُوِّض على أصحاب العقارات، فيما التجار وأصحاب المحال حصلوا على نصيبهم من هذه العملية. فإذا بهم يبيعون محالهم لـ«سوليدير»، ومن ثم يدفعون نسبة من السعر الجديد للمحال الذي فرضته «سوليدير»، وبدلاً من أن يعودوا إلى ما أصبح ملكهم، أجرت «سوليدير» هذه المحال من دون الأخذ بالاعتبار أنها أعطت وعوداً بالبيع لأشخاص ينتظرون الانتهاء من ترميم محالهم لإعادة افتتاحها.
استيلاء وإفقار
كتب محمد أنيس النصولي نهاية العام الماضي مقالاً جاء فيه: «قصرهم الذي يقيمون فيه أخذ عنوة، كما الأسواق والتجارة، من العائلات البيروتية الأصيلة التي بنت بيروت بالعمل الجاد والحرص ومخافة الله. كل هذا عن طريق قضاة وسلطة تشريعية طغت عليها الرشاوى وقوانين جائرة. فاستولوا على قلب بيروت التجاري وأفقروا أصحابه الأصليين وهم يبيعونه بأغلى الأثمان. فكان ذلك أكبر ضرب استيلاء على الأملاك الخاصة عرفه تاريخ الشرق الأوسط. لم يكتفوا بـ«سوليدير»، بل زادوا عليها عقود سوكلين لتكبّل بلديات لبنان بأغلى الأسعار لمساعدتهم على التخلص من نفاياتهم على أن يعود كلّ ما يتعلق بسوكلين وتوابعها إلى جيوبهم الخاصة، وإذا رفض أن تجدد العقود هددونا بالنفايات، التي ستطمرنا».