غادر بيته مسرعاً... اقتربت عقاب الساعة من الثانية والنصف فجراً... بدأ يتمتم بكلمات... مرة يذكر الله ويسبحه... ومرة يتخيل ماذا عليه أن يتصرف لو انطلقت السيارة وتركته في القرية... يحث الخطى مسرعاً... عله يصل في الوقت المحدد... فلا مجال أمامه للوصول لعمله إلا بهذه السيارة التي حان موعد انطلاقها... ولا يمكنه البقاء في البيت فليس لديه ما يسكت به جوع أولاده... وصل مركز القرية ودار بعينه يميناً ويساراً لكنه لم يرى شيء، دارت به الدنيا وبدت كما لو أنها تدور على محور يتحرك بسرعة كبيرة جداً... كاد أن ينهار فإذا به يلمح ضوء قادم من مكان قريب... السيارة التي يحاول اللحاق بها تصل في هذه اللحظات.
بدأ يهدأ تدريجياً بعد أن كاد ينهار لو لا قدر الله لم يتمكن من اللحاق بالسيارة. توقف السائق قربه، وركب وحيا من سبقه للسيارة، ودخل وأغلق بابها، وحشر نفسه جانب عدد لا بأس به من الركاب. انطلقت السيارة من قريته إلى حاجز الجلمة شمال مدينة جنين. وفي مثل هذا الوقت الكل يحاول أن يسرق غفوة قبل أن تتصل السيارة للحاجز، الذي يحتاج لحوالي نصف ساعة من الوقت. محمد لم يجد بد من النوم كبقية الزملاء في السيارة.
لم يعد محمد يكترث بالوقت، فهو في الاتجاه الصحيح، يسافر مع مجموعة من العمال، والسيارة تنطلق بهم للحاجز اللعين، الذي لا بد لهم من العبور من خلاله للوصول لأعمالهم في داخل إسرائيل. وبدأ يفكر بما ينتظره من عمل في هذا اليوم، وكم من المال سيأخذ من مشغله اليهودي. وفي خضم هذا التفكير صاح السائق "اصحوا يا شباب، الأجرة يا نشاما"، أفاق محمد من تفكيره ومد يده وأخرج الأجرة وكان أول من نزل من السيارة، وذلك كونه آخر من ركب.
نزل محمد ورغم أن الموسم خريفي إلا أن الليل يحمل معه الكثير من البرد، فحاول أن يلجأ لما يقيه البرد قليلاً، وفي ذات الوقت يبقيه قريباً من بوابات العبور من الحاجز. عمال آخرون قد وصلوا مسبقاً، وتوالت السيارات تفرغ حمولتها من البشر وتغادر، والكل ينتظر "ساعة الفرج"، كما يقولون، حيث أن الجنود وعمال شركة الأمن الإسرائيلية يغلقون البوابات حتى الخامسة صباحاً، ولا يكترثون بوقت العمال، حيث تجري إجراءات التفتيش ببطء شديد.
مر الوقت ومحمد يختلق الحكايات وزملاؤه عل الوقت يمضي بسرعة، ولاحظ أن نقاشهم لا يختلف عما سبق في الأيام السابقة، فحكاية البوابة، وما يقوم به أفراد الأمن تستحوذ على نصيب الأسد من النقاشات، خاصة عندما يأتي الحديث عن بعض عمال الشركة الأمنية الذين لا يكترثون بالعمال ومعاناتهم، فهناك من يتلذذ بالعذاب الذي يواجهه العمال. ومن خلال النقاش يتأكد لمحمد وغيره من العمال أن عليهم أن يتحملوا هذا العذاب حتى لا يخسروا التصاريح التي بحوزتهم، فقد قام أفراد الأمن بسحب عشرات التصاريح من العمال، لمجرد احتجاجهم على الأسلوب غير الإنساني للمعاملة.
جاء دور محمد، فك حزامه مسبقاً، وحمل بيده ما لديه من قطع معدنية، وعبر البوابة الأولى في مسرب المشاة، وهنا بدأت الصرخات تتوالى عليه" وقف... وقف... امشي... تعال... حط كل شي معك على الكرسي... ارفع ايدك...لف... امشي... وقف... خذ أغراضك... وين الهوية... وين التصريح... ارفع ايدك كويس... شو هذا التصريح... وقف على جنب..." توقف محمد قليلاً ولم يعد يدري ما ينتظره، خاصة وأنه يسمع عن حكايات كثيرة تتم في غرف التفتيش الخاصة.
وقف محمد عند باب مكتوب عليه رقم، وذلك بناء على طلب موظف شركة الأمن، وانتظر بعض الوقت قبل أن يفتح الباب، ويطلب منه الدخول للغرفة. دخل وكان في نفس الغرفة، وهي بالمناسبة بمساحة لا تزيد عن ستة أمتار مربعة، أربعة عمال. الكل ينتظر، لا مجال للحديث، الغرفة مراقبة، الخوف سيد الموقف، لا أحد ينبس بكلمة، والكل يشعر بحرج مما ينتظره. جاء دور محمد لينتقل من غرفة لأخرى، وهناك وجد نفسه وحيداً، وقف في غرفة صغيرة جداً صماء لا تتسع إلا لشخص واحد واقفاً. الشيء الوحيد في هذه الغرفة فتحة زجاجية صغيرة.
هنا شعر محمد بدونيته، وقبل بوحشية وعدم إنسانية الاحتلال. بدأت الأصوات ترد إليه من حيث لا يدري... كلمة طالما سمع عنها من زملاء سبقوه لهذا الموقف. اشلح... اشلح... هنا ليس أمامه إلا الامتثال للأوامر، ولن يسمح له بالخروج من هذه الغرفة إلا بعد أن يخلع ملابسه، فهو مضطر لتنفيذ كل ما يطلب منه دون تردد، وإلا سيجبر على ذلك ويسحب منه التصريح، الذي انتظره سنوات. محمد يقول بأنه شعر بذل وحرقة شديدين، وكاد ينفجر بالبكاء لعجزه عن قول كلمة لا، فاليوم تنكشف عورته أمام هؤلاء. محمد يقول بأنه شعر أن الدقائق التي قضاها في تلك الغرفة اللعينة كما لو أنها يوم كامل، وقال بأنه تصبب عرقاً كما لو أنه في فرن.
انتهى الأمر دون مشاكل، فهو لم يكن يحمل معه شيء، وكذلك بقية العمال، ولكن يبدو أن هذه السياسة فقط لإشعار العمال بأن عليهم الامتثال والانصياع لكل ما يطلب منهم. وهذا ما يكون فليس أمام العامل أي خيار يمكن الاستناد إليه، وكل من رفض الامتثال لأوامر الجنود بخلع ملابسه، أجبر على ذلك وسحب تصريحه، وخسر عمله.
انتقل محمد للطرف الآخر من الحاجز، وكان صاحب العمل ينتظره، وبادره بصراخ على خلفية طول انتظاره، ولم ينتظر صاحب العمل الجواب، فهو من نفس الطينة، لا يرى الفلسطيني إلا عامل، وينظر لعماله بأنهم أقل منه درجات، فكونه يهودي، وإسرائيلي وصاحب عمل، وهم فلسطينيون عرب، عمال، فهم أقل منه درجات.
طوال الطريق للعمل كان محمد يتخيل منظره أمام هذه المجموعة، ويتخيل أبناءه ينظرون إليه في هذا الموقف، ويحاول أن ينسى ويتمنى أن لا تعلم عائلته بحقيقة ما جرى. شريط أسود لا يفارق مخيلته، وبدا شارد الذهن طوال ذلك اليوم. محمد لم يعد يكترث باستمراره بالعمل، بقدر ما يهتم أن لا تعلم أسرته بما جرى له من مهانة. وكان يوم طولاً، انتهى باستلام محمد أجرته عن أسبوع كامل، ولم يفرح لما تقاضاه من أجر، رغم أنه عمل ساعات اضافية، وحصل على مبلغ إضافي، إلا أنه في هذه المرة لم يعد المبلغ كعادته، ودسه في جيبه دون حتى النظر إليه.
عاد محمد في المساء ووصل البيت متأخراً، وكان منهكاً، وحزيناً. وبعد أن استراح قليلاً سألته زوجته إن كان قد حصل على أجرته أم لا، خاصة وأنها تراه عابساً، لم يجبها، وناولها المبلغ دون أن ينبس بكلمة، هي بدورها فرحت، وعدت المبلغ وقالت الله يعطيك العافية، ونظرت إليه وهو على حاله، فأخفت فرحها، وحاولت أن تعرف سر حزنه، لكنه أصر على الاحتفاظ بما جرى له سراً. مضى ويوم وأيام، وهو شارد الذهن، ولسان حاله يقول لو أن لي فرصة عمل بديلة لهذه المهانة التي نواجهها، ومرت الأيام ومحمد يبحث عن فرصة للعمل في قريته، حتى ولو كان بأجر أقل مما يحصل عليه في داخل الأراضي المحتلة، ولم يعد يكترث بقدر ما يحصل عليه، بل بقدر البحث عن عمل يستر نفسه، ويحافظ على كرامته. بقي أن أقول أن محمد واحد من آلاف الفلسطينيين الذين يعيشون هذه الدوامة يومياً، فلو وجد محمد فرصته، يبقى آلاف ينظرون نفس الفرصة، والسؤال إلى متى نتعرى أمام هؤلاء؟ من يستر عوراتنا ويعفينا من هذه المواقف؟
بقلم: عاطف أبو الرب