اليسار واليمين في ميزان الطبيعة والأخلاق

ينقسم الناس، خاصة في المسائل الاجتماعية والاقتصادية بين يمين ويسار، علماً أن هذا التصنيف يتجاوز هذين المجالين إلى المجالات السياسية والمواقف حول الأمة وماهيتها وحول الوطن وماهيته وحول الدولة وضرورتها، إلى غير ذلك من المواضيع. لكن الانطلاقة في كل ذلك تكون من المواقف في القضايا الاجتماعية والاقتصادية. يعتبر اليمين أنه هو الموقف الطبيعي لكل الناس. يرى معظم الناس على أنهم تلقائياً يمينيون لأن نظام الرأسمالية، والفردية (الأنانية) المرتبطة بها، هو النظام الطبيعي، هو ما يبنى عليه المجتمع، وهو ما يجب أن يكون. يرى اليمين اليسار نشازاً، خروجاً على طبيعة الامور، وخروجاً على المسار الطبيعي للمجتمع، وبالتالي فهو، أي الموقف اليساري يستحق الاستهجان والاستهزاء، إن لم يكن العقاب والملاحقة. ليس من موقف سواء كان يسارياً أو يمينياً، هو الأكثر انسجاماً مع الطبيعة ومع ما يجب أن يكون. الفرق بينهما ليس الفرق بين ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، بل الفرق هو في الطبقة الاجتماعية - الاقتصادية التي يعبر عنها. الموقف اليساري هو موقف أكثرية الناس من عمال وفلاحين وعاملين في الخدمات والوظائف البيروقراطية؛ هو موقف أكثرية الناس الساحقة المأجورين، الذين لا يملكون ويبيعون قوة عملهم لقاء أجر يومي أو شهري، سواء عملوا في العمل اليدوي المباشر أو العمل ذي المهارة التقنية أو العمل التقني. والموقف اليميني هو موقف القلة من الناس الذين يأتي كسبهم من عمل الآخرين سواء كان هؤلاء ملاكي أرض أو معامل أو مصارف، أو ذوي استثمارات يضعون أموالهم في مشاريع، في سبيل الربح وليس إلا الربح، الذين يكسبونه لقاء استثماراتهم لا لقاء عمل قاموا به. وهؤلاء هم الذين يعيشون على حساب الغير. وهم طفيليون بطبيعتهم. لذلك فإنّ موقفهم اليميني ليس معبراً عن طبيعة الأمور، ولا عن طبيعة المجتمع. لكنه يعبّر عن طبيعة النظام. يملك أرباب اليمين القوة الاقتصادية، وبالتالي يسيطرون على القوة العسكرية والقوة الثقافية. فهم يستطيعون إخضاع بقية المجتمع بالقوة، بالقسر والإكراه. يستخدمون النظام السياسي من أجل ذلك، يستخدمون القوة للقسر والإكراه، ويستخدمون الثقافة من أجل ذلك. يستخدمون القوة للقسر الخشن، ويستخدمون الثقافة (الطائفية والدين، مثلاً) للقسر الناعم. في الطائفية يتلاشى التمييز بين اليسار واليمين، ويدافع الفقراء عن أغنيائهم، ويدافع المستغلون عمن يستغلونهم، ويضطر الفقراء إلى التخلي عن مصالحهم الحقيقية لصالح مصالح وهمية، وينتهون إلى مواقف ضدّ أنفسهم، ويبررون ذلك باسم الدين. وهم يُكْرَهون على ذلك إما بالقوة الخشنة (العسكرية) أو بالقوة الناعمة (الثقافية). إن موقف اليمين من القوى العاملة، ومن الاستغلال والكسب غير الحلال؛ يجعله موقفاً غير أخلاقي بالضرورة. ليس طبيعياً أن يعبّر اليمين عن موقف أخلاقي في حين يكون كل ما يكسبه ناتجاً عن استغلال ولو كان «شرعياً». يشرعن النظام كسب أربابه وأرباحهم بالقانون، لكن ذلك لا يجعل من هذا الكسب أخلاقياً. لأن الأخلاق تتنافى مع العيش على حساب الغير، تتنافى مع طبيعة العيش الطفيلية حتى ولو لم يكن فيها هو مخالفا للقانون. النظام الرأسمالي يدفع إلى اللاأخلاقية بطبيعته. إن النظام الرأسمالي ينزع الأخلاق والعدل من العيش اليومي للطبقة العاملة عن طريق سن القوانين التي تبيح نزع فائض القيمة من العاملين الذين ينتجونها وتعطيها قانوناً للطبقة «المستثمرة» التي تعيش على حساب الغير، على حساب فائض عمل الغير. النظام الرأسمالي هو بطبيعته غير أخلاقي، لذلك فإن أرباب هذا النظام لا يضطرون لارتكاب المخالفات القانونية. ويعيشون حياة البذخ والترف التي تُحرم منها الطبقات العاملة؛ وتكون المخالفات القانونية، مكملة للأعمال القانونية. والرأسماليون يجدون عن طريق المحامين والمحاكم وقضاتها المنافذ التي يهربون منها بالأعمال غير القانونية، ويفلتون من العقاب. كل ذلك لأنهم يمتلكون القوة المادية والثقافية. كل ذلك لأنّ طبيعة النظام الذي يسيطرون عليه ويتحكمون به يسمح لهم بعيش قانوني مترف قائم على اقتطاع فائض القيمة. الأعمال غير القانونية لهذه الطبقة، من سرقات ونهب أموال الغير الخاصة والعامة، تأتي مكملة لأعمالهم القانونية ومدعمة لدخلهم. الجريمة ذاتها التي يرتكبها فقير يلاقي عقابه، والتي يرتكبها غني يستطيع الإفلات من العقاب؛ إلا فيما ندر؛ وهذه الأحداث النادرة، حيث يعاقب بعض الأغنياء لأعمال نافرة منفرة هي ما يستخدمه النظام لتبرير عدالته وشرعيته. تشكّل الطبقات العاملة في جميع المجالات أكثرية المجتمع. يتساوى عندها القانون والأخلاق. هي ليست بحاجة لمن يطبّق القانون، من قوى أمنية وعسكرية وقضاء وغيرها. هي في الأساس مدجنة لصالح الطبقات الغنية عن طريق الطائفية، وعن طريق الإثنية والقومية أحياناً. الانضمام إلى القطيع الطائفي يجعل المقترفين أبطالاً معرضين لتعديات من الطوائف الأخرى. النظام الطائفي يكمّل عمل النظام السياسي في نزع الأخلاق. الطبقات العاملة منزوعة الفردية، ينزع منها الأخلاق قسراً لصالح الطبقة الغنية. يعاقب من هذه الطبقات الفقيرة من تجبره البطالة والفقر والافلاس على ارتكاب بعض المخالفات، وهذه المخالفات تجر إلى عقوبات. العقوبات حتمية اذ لا يوجد من يدافع عن هؤلاء أو من يتلقى الرواتب العالية لايجاد مخارج قانونية لهم. يستطيع النظام الرأسمالي أن يقلب الأمور رأساً على عقب. تُجرَّد الطبقات الفقيرة من نقاباتهم ومن تنظيماتهم التي تطالب بحقوقهم أو ترفع حقوقهم كي تتناسب مع مستوى العيش. ولنتذكر أن الطبقات الفقيرة تتلقى لقاء عملها ما يقرب من الحد الأدنى من الأجور، الذي لا يكاد يكفي لسد رمق العيش، وسد الحاجات إلى المأوى والغذاء والملبس والتعليم وغير ذلك. السبب ليس سقوط الاتحاد السوفياتي. السبب هو أعمق من ذلك، السبب أيضاً هو أن سقوط الليبرالية جاء في وقت واحد مع سقوط الاتحاد السوفياتي. وجدت الطبقة الرفيعة المالكة حول العالم أن يدها صارت مطلقة في إعادة تشكيل المجتمع، والخصخصة وتهديم نظام الرعاية الاجتماعية، والتنكيل بالطبقات العاملة، والعودة بهؤلاء إلى ما قبل صعود الحركات العمالية المنظمة، الى عصر ما قبل الثورات الاجتماعية، الى عصر ما قبل الليبرالية التي رأت أن بقاء النظام الرأسمالي مرهون بالتنازلات التي يعطيها عندما تواجهه الحركات المطلبية. سقطت الليبرالية كأداة يستخدمها النظام الرأسمالي لحمايته. مع هذا السقوط تمادت الرأسمالية في استخدام وسائل القوة العسكرية والثقافية ضد مجتمعها. ليس صدفة أن نرى الجيوش أكثر عدداً في هذا الزمن، والطائفية أكثر استعداداً للعمل لصالح الأغنياء في هذا الزمن أيضاً. النظام الرأسمالي يستخدم الفرص المتاحة، فيزداد عدد العاطلين عن العمل؛ ولا ضير في ذلك، اذ الهجرة هي صمام الأمان. يهاجر المسلمون والمسيحيون، لكن الأرقام المسيحية هي نسبياً أكبر، لذلك تبدو مشكلة الهجرة عند المسيحيين أكثر حدة مما هي عند المسلمين. الحقيقة أنّ مشكلة هؤلاء وهؤلاء، في البطالة والهجرة هي في النظام الرأسمالي الذي يستخدم المسلمين والمسيحيين كأدوات لاصطناع الثروات. إن التصنيف اليساري اليميني ضروري، هو طبيعي بنظر الكثرة من الناس، العاملين في شتى المجالات. اليسار أكثر من اليمين عدداً، واليمين ليس الموقف الطبيعي، بل هو الأكثر تنافياً مع «طبيعة» الأمور. النظام يجعله كذلك عن طريق الطائفية وأخواتها. على اليسار أن يكون أكثر اعتداداً بنفسه. فهو يمكن أن يعبر عن الأكثرية الساحقة من الناس، والموقف اليميني هو موقف الأقلية من الناس، ولا يجعل نفسه أكثر طبيعية إلا بوسائل القوة والأيديولوجيا. صار ضرورياً عودة اليسار، والعودة مرهونة بقوى يسارية أكثر قدرة على التفكير بوسائل تتناسب مع مسارات الأمور الجديدة.

الفضل شلق - "السفير"

آخر تعديل على Monday, 08 November 2010 06:58

الأكثر قراءة