للمقابلة الثالثة مع الرئيس بشّار الأسد أهمية خاصة عند النائب وليد جنبلاط: الأولى في 30 آذار كان بمفرده في مصالحة أنهت قطيعة كبرى سبّبت كمّاً من الإهانات، والثانية في 4 آب رافقه فيها الوزير غازي العريضي، والثالثة بمفرده أيضاً مع الأسد الأحد الفائتنقولا ناصيفعاد رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط من دمشق، الأحد، بانطباعات، أبرَزت له ضرورة استمرار دوره وجهوده لإيجاد تفاهم على ملفّي القرار الظني وشهود الزور وتجنيب البلاد فتنة مذهبية، وسمع من الرئيس السوري بشّار الأسد دعماً لهذا الدور. ينفّره القول إنه في منطقة رمادية. لم يكن مرّة، ولا من قبله والده كمال جنبلاط، في منطقة رمادية، ولا عرف بيته مكاناً كهذا. عندما خَاصَمَ سوريا بعنف بين عامي 2005 و2009، لم يكن كذلك. وعندما قرّر العودة إليها في 2 آب 2009 اختار الانعطاف الذي لم يسهل على حزبه وأنصاره تقبّله. وعندما يحادث جمهوره، ويجول في إقليم الخروب أيضاً دفاعاً عن معادلة توأمة العدالة والاستقرار، لا يشعر بأن أبناء هذه المنطقة يتقبّلون بسهولة منطقه.يقول جنبلاط: لست أبداً في منطقة رمادية، بل أتخذ كل خطوة في الوقت المناسب. لا أستطيع أن أفعل أكثر ممّا فعلت لو كنت في قوى 8 آذار. لا سوريا ولا هذا الفريق يستفيد من دوري إذا كنت إمّا هنا وإما هناك. حدّدت خياري والموقع الذي اتخذته مع سوريا، ولا أحتاج إلى تعليقات وتحليلات عمّا أفعل. يجب أن أكون حيث أنا، وليست هذه منطقة رمادية أبداً، كي أظلّ أتكلم مع الأميركيين والفرنسيين، وأحافظ على الثقة مع الرئيس السوري.في لقائه الثالث به، قال له الأسد إنه يتابع تصريحاته وتصريحات الوزير غازي العريضي الذي لاقى جنبلاط، بعد المقابلة، عند معاون نائب رئيس الجمهورية اللواء محمد ناصيف.بعد اجتماعاته الثلاثة، لاحظ جنبلاط الفرق بين الرئيس السوري ووالده الرئيس حافظ الأسد. كان الرئيس الأب في مستهل كل لقاء يدلي بمداخلة طويلة يستفيض فيها بالحديث عن وقائع تاريخية. كان حضوره مهيباً ويحمل الحاضر في مجلسه على التهيّب. الرئيس الابن يخوض للتوّ في الموضوع. هكذا كان لقاؤه الأول به عندما دعاه إلى طيّ صفحة الماضي ونسيانه، والتطلّع إلى المستقبل. يبادر بالحديث ويسأل ويستوضح ويعقّب ويستفسر عن الرأي المخالف. بين عامي 2000 و2005 لم يعرفه جنبلاط عن قرب. بعد لقاء أول عام 2000 كان موقف الزعيم الدرزي من إعادة تموضع الجيش السوري في لبنان لم تتقبّله دمشق بحماسة، فتعثّرت العلاقة في سنتها الأولى. ثم كان لقاء ثان، فقطيعة قاسية بين الرجلين. الآن يعرف أحدهما الآخر أكثر ويتفهّم وجهة نظره.في الخلاصة، يبدو جنبلاط مرتاحاً إلى حواره مع الرئيس السوري، وينمّي بينهما الثقة مذ اختار الموقع الذي هو عليه الآن. يقول جنبلاط أيضاً إنه يلاقي الأسد في رؤيته للمنطقة، ويشاركه في مخاوفه ممّا يحصل فيها: هناك عنوان عريض هو تفتيت المنطقة. قبل مئة إلا أربع سنوات كانت معاهدة سايكس بيكو التي رمت إلى تقسيم المنطقة. بعد قرن من ذلك التاريخ، تبدو إسرائيل في أوج قوتها والعرب في أوج ضعفهم، والمنطقة عرضة للتفتيت من العراق إلى السودان إلى اليمن.يضيف جنبلاط: لم يستطع باراك أوباما بناء سياسة أميركية مستقلة عمّا ورثه من جورج بوش والمحافظين الجدد الذين أوجدوا سياسة الفوضى البنّاءة لإدارة مصالحهم، وخصوصاً النفط. طبعاً الفوضى البنّاءة ليست لمصلحتنا، وتتوخى تفتيت منطقتنا.الرؤية المشتركة التي تجمعه بالرئيس السوري في مقاربة الوضع الإقليمي، أبرَزَت لجنبلاط خلال مقابلة استمرت من الحادية عشرة والربع حتى الثانية عشرة ظهراً، ملاحظات منها:1 ـــــ يقول الأسد إن دبلوماسية الرئيس الأميركي الحالي منيت بالفشل، ويتحمّل دنيس روس مسؤولية رئيسية في ذلك، لكونه ينادي بتفتيت المسارات. مع ذلك، يقول الأسد، لن يكون هناك رئيس أميركي أسوأ من جورج بوش.2 ـــــ عبّر له الأسد عن مودّة له ولرئيس الحكومة سعد الحريري. قال جنبلاط للرئيس السوري بضرورة احتضان الحريري وإطلاعه على الصورة الكبرى لما يجري في المنطقة، بغية تجاوز النصائح التي تُسدى إليه من بعض حلفائه ممّن لا يريدون علاقات مميّزة مع سوريا، ويحولون دون اتباع الحريري خيارات تأخذ في الاعتبار ما يسمّيه الزعيم الدرزي الصورة الكبرى للمنطقة بكل تحوّلاتها المهمة.يضيف جنبلاط أيضاً: إذا قارب الحريري الصورة الكبرى، يصبح في إمكانه ـــــ وإن لم يكن ذلك سهلاً ـــــ اتخاذ خيارات أخرى.3 ـــــ اعتبر الرئيس السوري أن علاقته الشخصية بالحريري جيّدة وهو يريد التعاون معه، إلا أنها لم تبلغ سياسياً المستوى المطلوب، وهي تتطلّب مزيداً من الترجمة. تبيّن لجنبلاط أن للأسد ملاحظات على رئيس الحكومة.4 ـــــ تحدّثا باقتضاب عن القرار الظني، واتفقا على ربط القرار الظني ومحاولات إحداث فتنة في لبنان بما يجري في العراق واليمن. وافق الرئيس السوري على معادلة تلازم العدالة والاستقرار، وميّز دائماً ولا يزال ـــــ يقول جنبلاط ـــــ بين المحكمة الدولية والقرار الظني.يقول الزعيم الدرزي: أفلتت المحكمة من اللبنانيين وأصبحت أمراً واقعاً بين يدي مجلس الأمن، إلا أن القرار الظني والاستقرار في أيدينا نحن، والموقف منهما شأن لبناني ويُقرّر في لبنان. العدالة من أجل الرئيس رفيق الحريري في كشف القتلة والمجرمين، وليست في إهدار الدماء. من أجل رفيق الحريري وإنصافه يقتضي تجنّب الدم.رحّب الأسد بالدور الذي يضطلع به جنبلاط لتحقيق تفاهم حول أفضل الوسائل لتفادي الانزلاق إلى فتنة داخلية، لكن جنبلاط أكد أن ما يقوم به لا يسعه التكفل به وحده، وهو يحتاج إلى مؤازرة الأفرقاء الآخرين.5 ـــــ قال جنبلاط للرئيس السوري إنه لا يسع الحريري اتخاذ خطوات وخيارات مؤلمة تحت الضغط، ولا التخلي عن المحكمة الدولية. لاحظ أيضاً أن بعض أفرقاء 8 آذار، كالرئيس ميشال عون، لا يساعدون الحريري على اتخاذ خيارات جديدة.6 ـــــ لم يلمس جنبلاط احتمال زيارة قريبة للحريري لدمشق، ولا رغب في طرح سؤال عن ذلك. لكنه سمع من الأسد أن سوريا مرّت في ظروف أصعب من تلك التي تواجهها اليوم. مرّت بمرحلة قاسية رافقت اتفاق 17 أيار 1983 وانتصرت فيها. الظروف اليوم ـــــ أضاف الأسد ـــــ صعبة، لكن العلاقات الوطيدة التي تجمع سوريا بتركيا وإيران، والعلاقة الشخصية بالعاهل السعودي الملك عبد الله، تجعله مطمئناً إلى تجاوز الأيام الصعبة الحالية. إلا أن الرئيس السوري أسرّ لضيفه بأنه يأسف لأن لا وجود للعالم العربي.قال الأسد أيضاً: في غياب العرب انتهت التسوية، لأن لا موازين قوى في المنطقة. لكننا، كما صمدنا في الماضي، سنصمد الآن.7 ـــــ تطرّق الرئيس السوري إلى القمّة التي جمعته بالملك عبد الله قبل أسبوعين في الرياض، وأبلغ إلى جنبلاط أنها كانت، خلافاً لما أشيع، إيجابية. سمع الزعيم الدرزي تكراراً تركيز الأسد على الجانب الشخصي في علاقته بعبد الله.8 ـــــ أبدى الرئيس السوري ارتياحه إلى الجهود التي يبذلها رئيس الجمهورية ميشال سليمان وإلى علاقته به، وقال لجنبلاط إنه على اتصال دائم به، ويعتقد بأن سليمان يقوم بدوره كاملاً. ورحّب في النطاق نفسه بجهود الرئيس وجنبلاط الآيلة إلى التوصّل إلى مخرج معقول يتفادى التصويت في مجلس الوزراء على إحالة ملف شهود الزور على المجلس العدلي، ويجنّب حكومة الوحدة الوطنية الانقسام.وقال جنبلاط للأسد إن البحث جار عن مخرج مناسب لا يتجاهل الحريري، وهو قيد الدرس لدى رئيس الجمهورية. يحمل ذلك جنبلاط على الاعتقاد بأن الجلسة المقبلة لمجلس الوزراء ستناقش ملف شهود الزور، ولكنها لن تبتّه ولن يُطرح على التصويت. لم يلمس أيضاً أن سوريا تضع مهلة لإتمام ملف شهود الزور.يلاحظ الزعيم الدرزي أن الدور التوافقي لرئيس الجمهورية يجعله يتفادى الانحياز إلى طرف دون آخر، وأن المسيحيين لا يلتفون حوله، لا مسيحيّو ميشال عون ولا مسيحيّو سمير جعجع، وكلاهما لا يريد رئيس الجمهورية. المسيحيون عبثيون، يقول جنبلاط.9 ـــــ يقول جنبلاط إن دمشق تريد من الحريري اتخاذ موقف مبكر من القرار الظني قبل صدوره يرفض اتهام حزب الله باغتيال الرئيس الراحل، ويقول إن الموقف الثابت لرئيس الحكومة من هذا الطلب حتى الآن هو رفضه، إلا إذا كان لدى دمشق والرياض ما يمكن أن يقدّم حلاً مختلفاً. كذلك يعتبر أن الحريري لن يكون في وارد رفض القرار الظني تحت وطأة الضغط عليه لإرغامه على ذلك، على نحو ما يفعل بعض الأفرقاء الآخرين في قوى 8 آذار الذين لا يساعدونه على تحديد خيارات مختلفة.يذكر جنبلاط أنه حادث الحريري في الموضوع، وأخطره أن ملفّي القرار الظني وشهود الزور يعالجان بالسياسة أولاً. إلا أنه لا يجاري رئيس الحكومة في المخاوف التي يدخلها إليه بعض حلفائه المتصلّبين الذين يذكّرونه بأن المجلس العدلي ربما استعاد ما حدث سابقاً، عندما لوحق الرئيس فؤاد السنيورة حينما كان وزيراً للمال، وعندما سُجن رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع. لا يرى جنبلاط مبرّراً لمخاوف الحريري من المجلس العدلي، كأن يجرّ ملفاً تلو آخر.يقول: ما دام الحريري بدأ بالاقتناع بالجهد السعودي ـــــ السوري لتحقيق الاستقرار في لبنان، وتكلم عن شهود الزور، يكون بذلك قد مشى خطوة أساسية إلى الأمام. لكنه يقدم خطوة إلى الأمام واثنتين إلى الوراء. تكلم عن شهود الزور وتراجع، أو توقف عن إكمال ما قاله. يحاول حلفاؤه الانعزاليون، مسيحيين ومسلمين، الحؤول دون تقدّم العلاقات المميّزة بين لبنان وسوريا. عن أي علاقات ندّية يتحدثون؟ لا علاقة ندّية عندما يكون أمن أحد البلدين واستقراره مهدّداً. في اتفاق الطائف نظّمنا العلاقات المميّزة بين البلدين. على كل، طلب مني الرئيس الأسد أن أنقل كلاماً إلى الرئيس الحريري. سأنقله. بعضه وصله عبر الصحف غداة عودتي من دمشق، والبعض الآخر أوصله إليه الوزير العريضي.يعبّر جنبلاط أيضاً عن عدم ارتياحه إلى ما أدلى به رئيس الحكومة السورية محمد ناجي العطري قبل أيام، عندما هاجم قوى 14 آذار: كنا في غنى عن هذا الكلام، لأنه أعطى هؤلاء الانعزاليين مادة كي يتكلموا فيها.جنبلاط ـ فيلتمان: الحجّة والحجّة المضادةعندما زار مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى السفير جيفري فيلتمان بيروت فجأة في 17 تشرين الأول، اكتفى بلقاء رئيس الجمهورية ميشال سليمان ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط. الأول رئيس الدولة التوافقي الدور، والثاني صديقه الذي ذكّره عندما التقاه بأنهما صنعا معاً المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. إبّان وجوده سفيراً لإدارته في بيروت بين عامي 2004 و2007، كانا يلتقيان يومياً تقريباً، وأحياناً مرتين في اليوم. وعندما سافر فيلتمان، صار يرسل إلى جنبلاط رسائل قصيرة بالهاتف. التقيا في باريس في 13 آب، والتقيا مجدّداً الأسبوع الماضي في بيروت. لكن لكلٍّ من الرجلين منطق مناقض للآخر، لا يلتقيان حيال المحكمة الدولية والقرار الظني.لم يقتنع فيلتمان بمعادلة جنبلاط التي توأمت العدالة والاستقرار لتفادي الفتنة، بل أصرّ على المحكمة الدولية في ذاتها. لاحظ أيضاً أن الضغط على الرئيس سعد الحريري يرمي إلى إلغاء المحكمة. قال له جنبلاط إن الأمر أفلت من يديْ اللبنانيّين وصار في عهدة مجلس الأمن.لم يوافق السفير على تأجيل القرار الظني، وقال إن إدارته لا تتدخّل في المحكمة، وأظهر في الوقت ذاته اهتماماً بالمحافظة على الاستقرار في لبنان. الكلام نفسه قاله لجنبلاط في باريس. ناقش جنبلاط كثيراً في تمسّكه بالمحكمة، فيما أبلغه الزعيم الدرزي أن المحكمة التي صنعاها معاً في لبنان كانت من أجل العدالة وكشف قتلة الرئيس رفيق الحريري، فأضحت الآن قنبلة موقوتة.تكلّما طويلاً في فلسفة المحكمة والاستقرار، ثم في تطورات المنطقة. بيد أنّ فيلتمان لم يكن مستعداً لتقبّل منطق جنبلاط الذي أبلغه أنه يؤيد المحكمة ويؤيد العدالة والاستقرار في الوقت نفسه، وسأل صديقه الأميركي الأخذ بفرضيات أخرى في التحقيق الدولي، في إشارة إلى احتمال دور إسرائيلي في جريمة الاغتيال. كان جواب فيلتمان، في معرض رفض الفرضية الجديدة، أن إدارته لا تتدخّل في التحقيق.استنتج جنبلاط أن فيلتمان، شأن العقل الغربي، لا يريد استيعاب ما يجري في لبنان ومغزى الربط بين المحكمة والاستقرار.ما قاله جنبلاط للسفير الأميركي السابق، قاله قبل أيام للسفير المصري. المطلوب إيصال الرسالة إلى الجميع.عدد الثلاثاء ٢٦ تشرين الأول ٢٠١٠ |