قبل عشرين عاماً، بدا يساريو العالم، ولا سيما العرب منهم، أشبه بركاب سفينة سوفياتية حطمتها عاصفة عاتية تكوّنت في بلاد العم سام. بعضهم ركب أمواج العولمة بقارب نجاة أميركي، فيما ظل آخرون يتخبطون في أمواج النظام العالمي الجديد، متمسكين بما تبقى من حطام سفينتهم، ليس رغبة في إعادة بنائها - وإن كان كثر ما زالوا واهمين بإمكان تحقيق ذلك - وإنما تجنباً للغرق في ذلك البحر الهائج، عبر التمسك بالركام «الخشبي» علّه يقودهم إلى شاطئ الأمان. أما اليوم، فيراهن اليساريون على هدوء تلك العاصفة، وهم يستشعرون بوادر هذه الظاهرة من خلال الهزات الاقتصادية الحادة التي ضربت «وول ستريت»، المركز الاقتصادي للرأسمالية المعولمة، وبروز حركات وأنظمة مناهضة للرأسمالية أسقطت منطق «نهاية التاريخ» بالضربة الحاسمة. بعض اليساريين يبدو مفرطاً في التفاؤل إزاء تلك التطورات التي عرفها العالم منذ نهاية الألفية الثانية، فيما يبدو آخرون أكثر حذراً كي لا يلدغوا من الجحر نفسه مرّتين. الجامع بينهم هو الرغبة في سفينة اشتراكية من طراز جديد، لكن الخلافات تبقى قائمة حول ِشكل هيكلها وآليات بنائها. لم يخرج اللقاء اليساري العربي، الذي انعقد بدعوة من الحزب الشيوعي اللبناني في إطار الاحتفالات بعيده السادس والثمانين، عن إطار هذا التوصيف العام. وهو أمر عكسته مداخلات المشاركين التي تمحورت حول سؤال واحد «أين اليسار؟» ـ على غرار العبارة العامية التقليدية «وين هيّ الدولة؟» - بما تستتبعه الإجابة من نقاشات بديهية حول مفهوم قوى اليسار في العالم العربي، بالإضافة إلى دورها ومشروعها وحضورها بين ناسها. حدادة «فهم العالم من أجل تغييره». بهذه الجملة التي تكاد تكون عصارة الفكر الماركسي، افتتح الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني د.خالد حدادة اللقاء اليساري، مشدداً على ضرورة أن «يستعيد اليسار أدواته الفكرية لتحليل وفهم الظواهر السياسية الاجتماعية المختلفة السائدة باتجاه تغييرها». لكنه أوضح أن «هذه الأدوات الفكرية إذا اقتصرت على المفاهيم والنظريات فهي في المدى التاريخي أكثر ثباتاً وبالتالي أكثر وقوعاً في الدوغما». وأشار حدادة إلى «انشطارين فكريين داخل اليسار» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الأول، يضم من «سارَع إلى التبرؤ من الهزيمة محولاً إياها إلى اتهام مرضي وبالتالي وقع في ظاهرة التخلي والمبالغة بإظهار الطلاق الفكري». والثاني، من تبنى «خيار التقوقع داخل الحجر والدفاع السلبي والتمسك بحرفية النص على حساب المنهج وحركته، فوقع في أصولية مشابهة للأصوليات المختلفة». وتطرّق حدادة إلى المشروع الرأسمالي في المنطقة، مشيراً إلى أنه بات يرتكز إلى محورين إضافيين، أولهما، التدخل العسكري المباشر، وثانيهما، استكمال حلقة التعاون والالتحاق من قبل الأنظمة الحليفة باتجاه تكوين «محور شرم الشيخ». واعتبر حدادة أنّ اليسار اليوم يتخبط في أزمته، وبات راضياً بدور محوري يتمزق بين اتجاهين: الأول، يصفّق لقوى المواجهة من دون أن تكون له القدرة على أن يكون جزءاً منها، والثاني، يقفز فوق الطبيعة الطبقية للمشروع الامبريالي وخطورته على شعوب المنطقة. وأوصى حدادة المشاركين في اللقاء بالموافقة على إقامة مخيم حواري سنوي للشباب اليساري. كما أبلغهم بقرار المكتب السياسي للحزب إعادة إصدار مجلة «الطريق» بإشراف المثقف الشيوعي واليساري محمد دكروب. جلسات النقاش بالرغم من سعي المنظمين إلى تحديد محاور محددة لجلسات (تنظيم المواجهة ضد الوطنية للعدوان والاحتلال والسيطرة الامبريالية والصهيونية، وتفعيل العمل في صفوف الطبقة العاملة والفلاحين والفئات الشعبية والمثقفين، والدفاع عن الديموقراطية والحريات العامة والمساواة) إلا أنّ غالبية المداخلات كانت أكثر ميلاً إلى الدمج بين تلك العناوين الثلاثة، وذلك تحت مبرر «الترابط الجدلي» بينها. النقاشات بدت موحّدة حول الشعارات، لكن آليات التطبيق بدت شبه غائبة، وهو ما كان موضع شكوى عند الكثيرين، بالرغم من أن هؤلاء يقدّموا ما يجعل شكواهم مبررة. وعلى هذا الأساس، اقتصرت المداخلات حول موضوع المقاومة على إبراز ضرورتها واستعراض مسارها التاريخي، بالإضافة إلى التشديد المستمرّ على ضرورة انخراط اليسار في هذه المواجهة بشكل فاعل. أما أشكال المقاومة وسبل تفعيلها يسارياً، فقد اتسمت مقاربتها برؤى ضبابية. وباستثناء تمسك الكثيرين بالمقاومة المسلحة كخيار استراتيجي، فإن معظم المشاركين لم يقدموا موقفاً واضحاً حول أشكال المقاومة التي يمكن لقوى اليسار اعتمادها، ومدى قدرة اليساريين على استنفار الجماهير لخوض هذه المواجهة المجهولة المعالم. أما تفعيل دور اليسار في صفوف الطبقات الكادحة، فاصطدم بمعوقات نظرية، من بينها الجدل حول مفهوم اليسار، الذي أصبح بنظر الكثيرين مختلفاً عن ذاك الذي كان موضع إجماع في الخمسينيات من القرن الماضي، وهي إشكالية سعى البعض إلى استخدامها شعاراً للمزايدة يسارياً وماركسياً، بالرغم من تأكيد انفتاحه على كل المناهضين للرأسمالية. وبالرغم من أن تجارب يسارية عالمية كانت موضع إشادة من قبل المشاركين في اللقاء (كالحركات المناهضة للعولمة والحكومات اليسارية في أميركا اللاتينية)، فإنّ أي محاولة جدية لدراسة هذه التجارب واستخلاص العبر من مسارها لم تحظَ بالاهتمام الكافي. أما موضوع «وحدة اليسار» فلم يخرج عن وصفه شعاراً فضفاضاً. ولعل المرء ليس في حاجة إلى جهد كبير لاكتشاف ذلك، فـ»اللقاء اليساري العربي» جاء بمشاركة ستة تنظيمات من لبنان، وأربعة من فلسطين، وأربعة من تونس، واثنين من العراق، وآخرين من مصر، بالإضافة إلى حزب واحد عن كل من السودان والمغرب والأردن. فإن كانت الأحزاب اليسارية في أي قطر عربي عاجزة عن توحيد صفوفها في جبهة وطنية واحدة، فهل نتفاءل بقيام جبهة عربية يسارية على امتداد الرقعة الجغرافية من المحيط والخليج؟ قال الشاعر الفلسطيني والعربي الراحل محمود درويش في قصيدة «حالة حصار»: «مختلفون على كل شيء... لنا هدف واحد: أَن نكون». لعل ذلك ينطبق على اليسار العربي، وهذا ما تأكد مجدداً بالأمس. وسام متى