كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية في وثائق تاريخية جديدة أن "إسرائيل كانت تعرف مسبقاً بأمر المجزرة في مخيمي صبرا وشاتيلا عام 1982 وهي ترجح تورط جهات أميركية أيضاً فيها".
وتمكنت الصحيفة من العثور على "مستندات تاريخية" إسرائيلية توثق حوارات جرت بين مسؤولين أميركيين خلال هذه الفترة، ونقلت وثيقة صادرة في 17 أيلول 1982 وقائع جلسة عقدت بين وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون ومبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط موريس درابر.وبحسب الوثيقة، فقد طمأن شارون درابر إلى أن إسرائيل لن تورّط الولايات المتحدة في الجريمة، قائلاً: "إذا كنت متخوفاً من أن تتورط معنا، فلا مشكلة، يمكن لأميركا بكل بساطة أن تنكر الأمر أو علمها به، ونحن بدورنا سننكر ذلك أيضاً"، وأشارت الصحيفة إلى أن هذا الحوار يؤكد أن "الإسرائيليين كانوا على علم بأن "حلفاءهم اللبنانيين" دخلوا المخيم، وأن عمليات تصفية عشوائية قد بدأت".وتتحدث وثيقة أخرى عن لقاء جرى بين الموفد الأميركي وشارون بحضور السفير الأميركي سام لويس، ورئيس الأركان الإسرائيلي رافائيل إيتان، ورئيس الاستخبارات العسكرية يهوشع ساغي، ذكّر خلاله درابر بموقف بلاده المطالب بانسحاب قوات الجيش الإسرائيلي من بيروت، وعلى ذلك رد شارون قائلاً: "إن الإرهابيين لا يزالون في العاصمة، ولدينا أسماؤهم، وعددهم يتراوح ما بين 2000 و3000"، متسائلاً: "من سيتولى أمن المخيمات؟"، فأجاب درابر أن "الجيش وقوى الأمن اللبناني ستقوم بذلك"، وبعد مفاوضات توصل الطرفان إلى اتفاق يقضي "بانسحاب إسرائيل من لبنان خلال 48 ساعة، بعد تطهير المخيمات".وأضافت الصحيفة: "لم يترك شارون طاولة الاجتماع إلا بعدما تأكد من أن الاتفاق لا يحمل أي التباس، إذ حدد المخيمات التي سيدخلها لتصفية "الإرهابيين"، وهي صبرا وشاتيلا، برج البراجنة، الفاكهاني"، وعندها قال درابر: "لكن البعض سيزعم أن الجيش الإسرائيلي باق في بيروت لكي يسمح للبنانيين بقتل الفلسطينيين"، فما كان من شارون إلا أن رد "سنقتلهم نحن إذاً، لن نبقي أحداً منهم، لن نسمح لكم ويقصد للولايات المتحدة بإنقاذ هؤلاء الإرهابيين"، وبسرعة رد درابر "لسنا مهتمين بإنقاذ أحد من هؤلاء"، وكرر شارون "إن كنتم لا تريدون أن يقتلهم اللبنانيون فسنقتلهم بأنفسنا"، وأعاد السفير درابر موقف الإدارة الأميركية بالقول:"نود منكم الرحيل، دعوا اللبنانيين يتصرفون".وتابعت الصحيفة: "بعد هذه المحادثة بثلاثة أيام بدأ الانسحاب الإسرائيلي في السابع عشر من أيلول، وقد شهد ذلك النهار أسوأ لحظات "المذبحة"، قوات منظمة التحرير الفلسطينية كانت بالفعل قد أخلت بيروت، وبعد ليلة ثانية من الذبح والرعب، انسحب مسلحو حزب "الكتائب اللبنانية" من المخيمات صباح السبت، وبعدما علم بفظاعة المذبحة في المخيمات، وجه درابر برقية إلى شارون كتب فيها "هذا رهيب، لدي ممثل في المخيمات، وهو يعد الجثث، يجب عليكم أن تخجلوا"، كذلك وبخ الرئيس الأميركي رونالد ريغان رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن بعبارات قاسية غير معتادة".
موسى ديب الخوري
قبل أن تُخترق الثوابت الفكرية التي تظل أحيانًا قرونًا طويلة سيدة الفكر بحيث لا يجرؤ أحد على مجرد التفكير بأنه يمكن تغييرها، تظهر أفكار وتساؤلات تحاول المساس بهذه الثوابت التي تصبح في بعض الأحيان أشبه بالعقائد التي نقدسها أكثر مما نفهمها! والأمثلة على ذلك كثيرة في العلم، من المسلمة الخامسة في الهندسة الإقليدية، إلى الفزياء النيوتونية، إلى نظرية الانفجار الكبير كبداية لكوننا الحالي! ونحن نعرف اليوم إن العلم ينتهي دائمًا إلى اختراق الثوابت، وإلى تعديل نظرياته باستمرار. فخلال النصف الثاني من القرن العشرين بدأت التساؤلات بالظهور حول بداية الكون. هل الكون بدأ حقًا من نقطة أولى؟ وتحولت هذه التساؤلات إلى دراسات مع ظهور أفكار جديدة وكذلك مع طرح نظريات جديدة لتفسير الكون. لكن الاختراق الحقيقي لمسلمة بداية الكون من انفجار كبير كانت بحاجة إلى محاولة ذات بعد إعلامي، وهذا ما حصل مع كتاب بوغدانوف "Igor &Grichka Bogdanov, Avant le Big Bang, Grasset, 2 juillet 2004"، الذي لم يثر الجدال فقط حول هذه المسألة بل أثار اهتمام الرأي العالمي، العلمي والمجتمعي، حول الأبحاث النظرية في الكوزمولوجيا الحديثة. ومع أن أبحاث بوغدانوف تعرضت لنقد منهجي كبير، لكنها كانت أحد الأعمال التي حرضت العلماء أكثر على الكتابة بشكل مبسط نسبيًا لتوضيح هذه المسألة بعد أن كانت حكرًا على عدد محدود من المختصين. ولا يخفى علينا، عندما تبدأ مسائل البدايات تطرح بين أيدي الناس، سرعان ما تطرح تساؤلات تتعلق بالإيمان والإله، وهل كان الكون موجودًا قبل أن يُخلق؟ لكن لنستبق الأمور ونقول بوضوح، العلم يطرح تساؤلاته ونظرياته ليس للإجابة على هذا النمط من الأسئلة!
من جهة ثانية أثار كتاب آخر الجدل حول ما إذا كان يوجد زمن قبل الانفجار الكبير لمارتان بوجوالد Martin Bojowald ويعتمد فيه على نموذج "الثقالة الكمومية ذات العقد gravitation quantique à boucles (LQG) ليبرهن أنه حتى لو وجد مثل هذا الكون "ما قبل الانفجار الكبير" فإنه سيكون من المستحيل علينا أن ندرك بعض جوانبه. يقول بوجوالد مؤكدًا:
لقد تحققت منذ نحو ست سنوات أن هذه النظرية تسمح بتجنب الفرادة، لكن المعادلات التي استخدمتها في ذلك الوقت كانت معقدة جدًا بحيث كان من الصعوبة بمكان تحديد الشكل الدقيق للحالة الكمومية.
مع ذلك، فإن هذا الاختفاء للفرادة البدئية يسمح بتصور أن الكون استطاع أن يوجد قبل الانفجار الكبير في حالة "معاكسة" للتوسع الحالي. وهذا يعني أن الانفجار الكبير لم يميز بداية الكون، بل إنه كان عبارة عن مرحلة انتقالية، أو نوعًا من "الارتداد" لهذا الأخير، مرَّ من مرحلة انهيار إلى حالة توسع.
يتأسس البحث عن ما قبل البداية المفترضة لكوننا، فيما عرف بالانفجار الكبير أو البيغ بانغ Big Bang، على تطبيق نظرية الأوتار الفائقة على علم الكونيات. فذلك يؤدي إلى أن الانفجار الكبير لا يشكل بداية الكون بل نهاية حالة كونية سابقة! لكن لنتابع قصة هذا الارتحال إلى ما قبل الانفجار الكبير... وسنحاول أن نعرض الجانب الأساسي من فكرة الارتحال إلى ما قبل البداية ضمن عدد كبير جدًا من التصورات المطروحة اليوم لبناء نماذج يمكن أن تحاكي صيرورة وجود أكوان سابقة لكوننا.
يمكن طرح السؤال بشكل آخر، هل كان الانفجار الكبير هو بداية الزمان كما يقول أصحاب هذه النظرية، أم كان الكون موجودًا قبل ذلك، وكان الزمان والمكان قبل البداية؟ منذ نحو عشر سنوات كان مثل هذا التساؤل يثير موجة من الاستياء كما لو كنا ندنس مقدسات شيدها العلم. فبالنسبة لعلماء الكونيات لا معنى لمثل هذا التساؤل على الإطلاق. وتصور فترة زمنية سابقة للانفجار الكبير أشبه بالنسبة لهم بالبحث عن نقطة تقع شمالي نقطة الشمال القطبي! لا معنى لذلك على الإطلاق! فوفق نظرية النسبية العامة لأينشتين كان كوننا الذي يتوسع قد بدأ من لحظة عرفت بالانفجار الكبير، الأمر الذي يفترض محدودية الزمان الذي ظهر آنيًا مع المكان والطاقة – المادة. وقد تعدلت هذه الطريقة في رؤية الأمور خلال السنوات القليلة الأخيرة. فالكون عند ولادته كان متمركزًا في حيز من الصغر بحيث أن قوانين الفيزياء الكمومية هي التي كانت تنطبق عليه. وعند هذا المستوى من الصغر لا تعود نظرية النسبية العامة، وهي ليست نظرية كمومية، صالحة لفهم الانفجار الكبير. إن نظرية الأوتار التي بدأت تتطور منذ نحو ثلاثين سنة قادرة على أخذ زمام المبادرة، وفق بعض الفيزيائيين الكونيين اليوم، لتفسير مجريات الأمور في اللحظة صفر وذلك بتقديمها وصفًا كموميًا للجاذبية. وقد سمحت هذه النظرية مؤخرًا بوضع تصورين أو نموذجين كونيين – نموذج الكون قبيل الانفجار الكبير، والنموذج الانقلابي ekpyrotiqe – يصفان كونًا سابقًا للانفجار الكبير. وفي هذين السيناريوهين لا يكون للزمن بداية ولا نهاية، ويمكن أن يكون الكون القديم قد ترك آثارًا ملحوظة في الخلفية الإشعاعية للكون، أي في الإشعاع الذي صدر بعيد الانفجار الكبير والذي نكتشفه اليوم على شكل شعاع يأتينا من كافة أنحاء الكون.
إن رغبتنا اليوم بمعرفة أو على الأقل بأخذ ما حدث قبل الانفجار الكبير بعين الاعتبار في دراستنا لبداية الكون ليست سوى الانعكاس الجديد والحالي للتساؤلات القديمة ذاتها وللانعكاسات الفكرية والتأملية القديمة التي تتالت طيلة آلاف السنين حول أصل الكون. ففي كافة الثقافات، واجه الفلاسفة واللاهوتيون سؤال بداية الزمن وأصل العالم. ونعرف اليوم أن "شجرة أصولنا" تمر عبر تفرعات أولى أشكال الحياة، وتشكل النجوم، وتآلف أولى العناصر التي تعود إلى الطاقة التي كانت تغمر الفضاء البدئي.
فهل الزمن مستمر منذ "الأزل" أم هو ينطلق من نقطة ما، من جذر ما، من بداية ما؟ كان الفلاسفة اليونان قد ناقشوا هذه المسألة مطولاً، وقد دافع أرسطو عن غياب البداية بتأكيده على مبدأ أن لا شيء ينبثق من لا شيء. فإذا لم يكن بالإمكان للكون أن يولد من العدم، فلا بد أنه وجد دائمًا. ولهذا فإن الزمن يمتد لا بد منذ الأزل. وسيمتد إلى الأبد. لكن اللاهوتيين المسيحيين دافعوا عن وجهة النظر المعاكسة. وأكد القديس أغسطينوس أن الله موجود خارج إطار المكان والزمان وأنه قادر على خلق الزمان والمكان كما شكَّل مظاهر العالم الأخرى. أما ماذا كان يفعل الله قبل أن يخلق العالم، فيجيب أغسطينوس إن الزمن نفسه كان جزءًا من الخلق الإلهي، فلم يكن ببساطة ثمة قبل الخلق! إنه لمن المدهش هذا التقارب الكبير بين فكر اللاهوتيين عمومًا، وما يقول به لاهوتيو فيزياء النسبية بشكل خاص اليوم، حيث لم يكن ثمة قبل الانفجار الكبير زمن، ولم يكن ثمة قبل، لأن الزمان ولد مع الكون!
تجانس غريب
قادت نظرية النسبية العامة علماء الكونيات المعاصرين إلى نتيجة مشابهة للقائلين بنظرية الخلق اللاهوتية، حيث يولد الكون والزمان معًا، وحيث ليس ثمة قبل ذلك شيء. وفي هذا الإطار لا يكون المكان والزمان مطلقين وثابتين بل ديناميكيين ومتغيرين ويتأثران ويتشوهان بالمادة. وعلى مستوى المسافات الكونية ينحني الفضاء، ويمتد أو ينضغط أو يتكور على مر الزمن، حاملاً المادة معه. وقد أكد علماء الفلك خلال عشرينيات القرن الماضي، بعد اكتشاف أدوين هبل للمجرات، أن كوننا في حالة توسع حيث تبتعد المجرات عن بعضها بعضًا. وكان من نتائج هذا التوسع أن الزمان لا يمكن أن يمتد بلا نهاية نحو الماضي. فإذا عكسنا تسلسل أحداث تاريخ الكون نحو الوراء، نرى أن المجرات ستتقارب في هذا المشهد من بعضها بعضًا حتى تلتقي في نقطة لامتناهية الصغر، تسمى فرادة. وهكذا فإن كافة المجرات – أو بالأحرى ما تشكلت منه – كانت قائمة في نقطة حجمها صفر. وتكون الكثافة والحرارة بل وانحناء الزمكان في هذه النقطة لانهائيًا. فالفرادة هي الحد الكارثي الذي لا نستطيع بعده متابعة تسلسل تاريخنا وأصولنا الكونية.
يطرح هذا السيناريو أسئلة كثيرة. وهو يبدو بشكل خاص غير متوافق كثيرًا مع أن الكون يبدو متجانسًا على المستوى الكبير في كافة الاتجاهات. فلكي يكون للكون الشكل نفسه تقريبًا في كافة اتجاهاته لا بد أن يكون شكل من التفاعل قد تأسس بين المناطق المتباعدة في المكان بحيث تكون خصائصها قد تناغمت وتجانست مع بعضها بعضًا. غير أن ذلك يتعارض مع المعطيات الرصدية لتوسع الكون. لقد تحرر الضوء منذ 13,7 مليار سنة (إنه الخلفية الإشعاعية الكونية المرصودة اليوم في مجال الأمواج الميكروية). ونجد اليوم كيفما توجهنا في الكون من حولنا مجرات تبعد عنا مسافات كبيرة جدًا تصل إلى 13 مليار سنة ضوئية. وهذا يعني أنه توجد مجرات في الاتجاهات المتعاكسة تبعد عن بعضها مسافة تصل إلى أكثر من 25 مليار سنة ضوئية. بالنتيجة، هذا يعني أن هذه المناطق لم تكن متصلة فيما بينها يومًا من الأيام، إذ لم تتوفر لها الفرصة ولا الوقت لتتبادل الضوء ولا المادة كذلك. وهذا يعني أن كثافتها وحرارتها وخصائص أخرى لها لم يمكن لها أن تتجانس فيما بينها، أي أن تتبادل المعلومات وتطور بالتالي منظومات متجانسة.
مع ذلك، فإن خصائص مجرة درب التبانة تتطابق تقريبًا مع خصائص المجرات البعيدة. وهذا التجانس يمكن أن يكون مجرد مصادفة. لكن من الصعب القبول أن عشرات آلاف الأجزاء من أقسام صورة الخلفية الإشعاعية الكونية، المتطابقة إحصائيًا، كانت منذ البداية الكونية ذات خصائص متطابقة. ثمة تفسيران أكثر طبيعية لذلك: فإما كان الكون في لحظاته الأولى أصغر بكثير مما تفترضه علوم الكونيات الكلاسيكية، أو أن هذا الكون أقدم مما تقول به علوم الكونيات. وفي الحالتين، كان يمكن لجزئين متباعدين في الفضاء الكوني قبل صدرو الإشعاع الكوني أن يتفاعلا ويتبادلا المعلومات.
يفضل علماء الفيزياء الفلكية الفرضية الأولى. فلا بد أن الكون شهد فترة توسع هائلة، تسمى التضخم inflation، في بداية الكون الأولى. أما قبل هذه الفترة، فقد كانت كافة مناطق الكون قريبة جدًا من بعضها بحيث أن خصائصها استطاعت أن تتجانس فيما بينها. ثم خلال مرحلة التضخم، انطلق التوسع الكوني وبدأ الكون يتمدد بسرعة أعلى من سرعة الضوء. وهكذا فقد تم عزل مختلف أجزاء الكون عن بعضها بعضًا. وبعد جزء ضئيل من الثانية انتهى التضخم ليستمر التوسع الكوني بشكل أكثر هدوءًا. وعاد الاستقرار بين المجرات وتبادل المعلومات فيما بينها تدريجيًا فيما كان الضوء يلتقط أنفاسه ويعوض تأخره الناجم عن التضخم. وقد أدخل الفيزيائيون في سبيل تفسير هذا التضخم الهائل حقل قوة جديدة هو حقل التضخم، وقد ولَّد هذا الحقل قوة جاذبية طاردة (عكس الجاذبة) فائقة الشدة في اللحظات الأولى التي تلت الانفجار الكبير. وعلى عكس الجاذبية، فإن التضخم يسرِّع التوسع الكوني. فبعد جزء من الثانية من الانفجار الكبير، اختفت القوة الطاردة واستنفذت واستعادة الجاذبية سيطرتها على الكون الوليد. اقترحت هذه النظرية في عام 1981 وكان بطلها الفيزيائي آلان غوث Alan Guth، مما سمح بتفسير عدد كبير من الأرصاد. مع ذلك، فإن بعض الصعوبات النظرية لا تزال تواجه هذه النظرية حتى الآن، وأولها طبيعة التضخم نفسه.
أما الطريقة الثانية في حل هذه المشكلة فأقل كلاسيكية واعتيادًا: ذلك أنها تقترح كونًا أقدم بكثير مما هو متنبأ به. فإذا لم يكن الزمن قد بدأ قبل الانفجار الكبير، وإذا كانت فترة طويلة قد سبقت بداية مرحلة التوسع الكوني الحالية، فإن ذلك يعني أن الكون كان قد نال وقته الكافي والطويل جدًا لكي يتجانس. يلغي مثل هذا السيناريو أيضًا الصعوبة التي تطرحها نقطة الفرادة التي تنبثق عندما نحاول تعميم النظرية النسبية أو مدها إلى أبعد من مجال تطبيقها. وفي الواقع، عند الاقتراب من الانفجار الكبير يكون المسيطر على المادة الآثار الكمومية وليس التفاعلات الجهارية التي تحكمها النسبية التي لا يعود لها أي تأثير بما في ذلك جاذبيتها. ولكي نكتشف ما الذي حصل فعلاً على الفيزيائيين أن يستعيضوا عن النظرية النسبية العامة بنظرية كمومية للجاذبية. وهذا ما عمل عليه الفيزيائيون منذ عهد أينشتين إنما دون أن يحققوا نجاحًا يذكر حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
الأوتار تقفز
ثمة اليوم مقاربتان واعدتان كما يبدو. الأولى هي الجاذبية الكمومية ذات العقد، وهي تحتفظ في بنائها بالجزء الأساسي من النظرية النسبية – أي الطبيعة الديناميكية للزمكان واللاتغير بالنسبة لمنظومة الإحداثيات أو المرجعية المستخدمة – وهي تطبق هذه المبادئ في إطار الفيزياء الكمومية. ويتألف الزمكان الناتج عنها من قطع ضئيلة لا تتجزأ. وقد شهدت الثقالة الكمومية ذات الأربطة كما يطلق عليها أو ذات التخاريم أو العقد، خلال السنوات الأخيرة تقدمًا في نواحٍ عديدة، لكنها ربما ليست جذرية بدرجة كافية لتحل المسائل التي تطرحها مسألة تكميم الثقالة.
أما المقاربة الثانية، والتي ترتكز عليها السيناريوهات المطروحة هنا، فهي نظرية الأوتار. وقد ظهرت بداياتها في عام 1968 عندما اقترحها غابرييل فنزيانو لوصف تفاعلات مكونات النواة الذرية. ولم تعد هذه الأفكار للظهور إلا في الثمانينيات لتصبح نظرية أساسية في توحيد النظريتين الكمومية والنسبية العامة.
ترتكز الفكرة الأساسية في نظرية الأوتار على أن المركبات الرئيسية للمادة ليست نقطية، بل وحيدة البعد، على شكل أوتار لا ثخانة لها. وتهتز هذه الأوتار مثل أوتار الكمان، ويعكس التنوع الكبير في عالم الجسيمات، حيث يكون لكل جسيم خصائصه وسماته، مختلف أنماط اهتزاز هذه الأوتار. وتسمح القوانين الكمومية لهذه الأوتار المهتزة والتي لا كتلة لها بوصف الجسيمات وتفاعلاتها، وهي تولِّد خصائص جديدة لها تأثير عميق على نظرياتنا الكونية.
بداية، فإن آثارًا كمومية تفرض على الأوتار حجمًا أدنى من رتبة 10-34 م. وهذا الكم (كوانتم) الذي لا يمكن اختزاله لأصغر منه، ونسميه ls، هو ثابتة جديدة في الطبيعة، إلى جانب سرعة الضوء وثابتة بلانك. ويلعب هذا الثابت في نظرية الأوتار دورًا حاسمًا إذ يفرض حدًا للكميات التي بدونه يمكن أن تسعى إلى الصفر أو إلى اللانهاية.
ثانيًا، هناك الطاقة الخاصة بأنماط معينة من اهتزازات الأوتار والموافقة لكتل الجسيمات. من جهة أخرى، فإن هذه الاهتزازات تمنح للأوتار عزمًا حركيًا جوهريًا، هو ما يسمى باللف الذاتي أو spin. ويمكن للأوتار أن تكتسب عدة واحدات للف الذاتي مع بقاء كتلتها معدومة: بل يمكن أن تمثل بوزونات، وهي جسيمات رسولة لقوى أساسية (مثل الفوتونات بالنسبة للكهرمغنطيسية). وتاريخيًا، كان اكتشاف أنماط اهتزاز للف الذاتي المساوي لاثنين، والمطابقة مع الجسيم المفترض أنه يحمل التفاعل الثقالي، الغرافيتون graviton، هو ما أقنع الفيزيائيين بأهمية نظرية الأوتار في تكميم قوة الثقالة.
ثالثًا، إن معادلات نظرية الأوتار لا تكون متجانسة إلا إذا كان الفضاء ذا تسعة أبعاد بدلاً من ثلاثة، وكانت الأبعاد الستة الإضافية ملتفة على مسافات غاية في الصغر.
رابعًا، إن الثوابت التي تصف كثافة القوى الأساسية، مثل ثابتة الجاذبية أو الشحنة الكهربائية، لا تعود محددة أو مثبتة بشكل عشوائي، بل تظهر في نظرية الأوتار على شكل حقول تتغير قيمتها خلال الزمن. وأحد هذه الحقول، ويسمى ديلاتون dilaton، يلعب دورًا خاصًا، فهو يحدُّ تطور الحقول الأخرى، ويحدد كثافة كافة التفاعلات. وخلال مراحل كونية مختلفة أمكن لثوابت الفيزياء أن تشهد تغيرات طفيفة. ويحاول علماء الفيزياء الفلكية اليوم اكتشاف وقياس هذه التغيرات الضئيلة من خلال رصدهم للكون البعيد.
عندما يضبط التناظر اللانهاية
وأخيرًا، فقد كشفت الأوتار عن وجود تناظرات جديدة في الطبيعة، هي الثنائيات، التي تحول بشكل جذري فهمنا الحدسي لسلوك الأجسام على مستويات فائقة الصغر. وأحد هذه التناظرات، وهو تناظر T-duality، يربط بين الأبعاد الإضافية الصغيرة والكبيرة. ويرتبط هذا التناظر بأكبر تنوع من الحركات الممكنة بالنسبة للأوتار، قياسًا إلى جسيمات نقطية. إذا أخذنا على سبيل المثال وترًا مغلقًا (أي حلقة) ينتقل في فضاء ذي بعدين حيث أحد هذين البعدين ينطوي بشكل دائرة صغيرة. يكافئ هذا الفراغ سطح أسطوانة. ويمكن لهذا الوتر إضافة إلى اهتزازه أن ينتقل على السطح، بل وأن يلتف مرة أو أكثر حول أسطوانة، تمامًا مثل مطاط يضم ورقة ملفوفة.
يسهم كل من الاهتزاز والانتقال والالتفاف في الطاقة الكلية للوتر. وتتعلق طاقة النمطين الأخيرين بحجم الأسطوانة التي يتم الانتقال والالتفاف حولها. وتتناسب طاقة الالتفاف مع قطر الأسطوانة: فكلما كان هذا القطر أكبر كان على الوتر أن يكون مشدودًا أكثر لكي يلتفَّ، بحيث أنه يختزن المزيد من الطاقة. بالمقابل، فإن طول البعد الملتف، أي انتقال الوتر يترجم بطاقة تتناسب عكسًا مع نصف قطر الأسطوانة: فكلما كانت هذه الأخيرة أثخن كلما كان الوتر أقدر على الانتقال عليها "بسلاسة أكبر" (نتذكر هنا أن علاقات الريبة في الميكانيك الكمومي تمنع جسيمًا متموضعًا بدقة من أن يكون في حالة راحة. وبالتالي فإن جسيمًا محددًا يكون في حالة حركة بسرعة عالية جدًا، في حين أن جسيمًا غير متموضع بدقة كبيرة ينتقل "بسلاسة وبهدوء" أكثر). وعلى أسطوانة أضيق يتطلب التفاف الوتر طاقة أقل، في حين أن انتقاله يكون أكثر حركية ويعطي طاقة أكبر للمنظومة. فإذا استبدلنا أسطوانة قطرها R بأسطوانة قطرها 1/R (حيث يعتبر الواحد هو الطول الأقصر للأوتار)، فإن سلسلة حالات الطاقة الناتجة بواسطة النمطين يتم تبادلها، لكن مجموع الحالات يظل متطابقًا. وبالنسبة لمراقب خارجي، فإن الأبعاد الكبيرة الملتفة تكون فيزيائيًا مكافئة للأبعاد الصغيرة ذات القطر المقلوب.
يمكن أن نفهم بسهولة أكبر الثنائية T-duality في إطار فضاءات مزودة ببعد دائري ذي حجم منته، بل وهي تطبق أيضًا على ثلاثة أبعاد لانهائية من الفضاء العادي. فليس حجم الفضاء مأخوذًا بمجمله ما يهمنا، بل ما يسمى معامل درجته، أي العلاقة بين تباعد الأجسام التي كان يحتويها في تاريخ محدد وتباعدها الحالي. ووفق T-duality فإن كونًا يكون فيه معامل الدرجة صغيرًا جدًا يعني أنه مكافئ لكون معامل الدرجة فيه كبير جدًا. ومثل هذا التناظر لا يوجد في النسبية العامة. إنه تناظر يتأتى عن الإطار الموحد لنظرية الأوتار.
اعتقد نظريو الأوتار طيلة سنوات أن الـT-duality لا تنطبق إلا على الأوتار المغلقة. وفي عام 1995، بين جوزيف بولشينسكي J. Polchinsky من جامعة سانتا بربارا أنها تظل صحيحة بالنسبة للأوتار المفتوحة، بتطبيق شروط تسمى شروط ديريشليه Dirichlet على أطراف هذه الأوتار: فإضافة إلى عكس أقطار الأبعاد الملتفة، علينا أن نثبت أو نحدد أطراف الأوتار ضمن عدد معين من الأبعاد. وهكذا، فإن نهايات وتر يمكن أن تطفو حرة في ثلاثة من الأبعاد الفضائية العشرة في حين أن حركتها في الأبعاد السبعة الأخرى تكون محجوزة أو ثابتة. تشكل هذه الأبعاد الثلاثة الحرة فضاءً تحتيًا يسمى الغشاء membrane أو D-brane. وفي عام 1996، تصور كل من بيتر هورافا P. Horava من جامعة روتجرز، وإدوارد ويتن E. Witten من معهد الدراسات المتقدمة في برنستون، أن كوننا قابع على أحد هذه الأغشية D-brane ثلاثية الأبعاد. ويمكن أن تفسر لنا الحركية الجزئية للإلكترونات وللجسيمات الأخرى لماذا لا نستطيع أن نلحظ الأبعاد العشرة للفضاء.
إن خصائص الأوتار تلتقي كلها على نقطة واحدة، فهي لا تحب اللانهاية. وبما أنها لا تستطيع أن تُقلَّص إلى نقطة، فإنها تحذف التناقضات التي يسببها مثل هذا الانهيار. إن حجمها غير المعدوم، كما والتناظرات الجديدة المرتبطة بها، تفرض حدودًا عليا على الكميات الفيزيائية التي تتقاطع إلى أجل غير مسمى في النظريات الكلاسيكية، وحدودًا دنيا على الكميات التي تتناقص بحيث لا يمكنها النزول تحت حد معين. وعندما نسقط فيلم التاريخ الكوني بشكل معاكس، فإن الزمكان ينضغط ونصف قطر التفاف كافة الأبعاد يضيق. ووفق نظريي الأوتار فإن T-duality تمنع نصف الانحناء من التناقص حتى الصفر ومن توليد نقطة فرادة الانفجار الكبير. وعندما يصل هذا الانضغاط إلى الطول الأدنى الممكن، فإنه يصبح فيزيائيًا مكافئًا لتوسع في المكان، ومن هنا يعود نصف قطر الانحناء إلى التزايد. إن الـT-duality تجعل الانهيار يعود فينتفض في حالة توسع جديد.
الكون مقلوبًا
باختفاء الفرادة singularité، فليس ثمة ما يمنع من تصور أن الكون كان موجودًا قبل الانفجار الكبير. وبجمع التناظرات التي تدخلها نظرية الأوتار مع تناظر انعكاس الزمن، ووفقه فإن معادلات الفيزياء تعمل في الاتجاهين نحو الماضي أو نحو المستقبل لا فرق، توصل العلماء إلى تصور علوم كونية جديدة، لا يكون الانفجار الكبير فيها هو البداية، بل مجرد حالة انتقالية عنيفة بين حاليتن للكون: قبله كان التوسع يتسارع، وبعده بدأ التوسع يتباطأ. وأهمية هذا التصور أنه يأخذ بعين الاعتبار بشكل آلي أفكار النموذج التضخمي، أي وجود فترة تضخم متسارعة قادرة على تبرير تجانس الكون. إن ما يسبب التسارع بعد الانفجار الكبير هو التضخم في النظرية المعيارية للكون. أما في النظرية الكونية المرتكزة على الأوتار فإن التسارع ينتج قبل الانفجار الكبير وينتج عن تناظرات النظرية نفسها.
إن الشروط التي سادت في جوار الانفجار الكبير كانت فائقة الحدية بحيث أن أحدًا لا يعرف كيف يحل المعادلات التي تصفها. مع ذلك، فقد جازف نظريو الأوتار بوصف بعض مظاهر الكون السابق للانفجار الكبير. وهناك نموذجان على الأقل تتم دراستهما اليوم. الأول معروف باسم سيناريو "ما قبل الانفجار الكبير"، وهو يشير إلى أن الكون السابق للانفجار الكبير عبارة عن صورة في المرآة للكون سابق لهذا الحدث. فالكون يمتد أبديًا في المستقبل كما في الماضي. فمنذ زمن لانهائي كان الكون شبه خاو ولا يشتمل سوى على غاز نادر من الإشعاعات والمادة. أما قوى الطبيعة، التي يضبطها حقل الديلاتون dilaton، فكانت ضعيفة جدًا بحيث أن جسيمات هذا الغاز كانت لا تتفاعل أو تكاد فيما بينها. ومع الوقت، نجحت القوى في الغلبة والتكثف وبدأت المادة في التشكل. وبدأت بعض المناطق بتجميع هذه المادة على حساب مناطق أخرى. وأصبحت الكثافة فيها عالية إلى درجة أن ثقوبًا سوداء تشكلت فيها. وقد انعزلت المادة التي انفصلت في هذه الثقوب عن باقي الكون مما أدى إلى انشطار الكون إلى عدة أقسام منفصلة غير متصلة. وفي قلب كل ثقب أسود من هذه الثقوب كانت الكثافة المادية ترتفع أكثر فأكثر. وعندما بلغت الكثافة والحرارة والانحناء القيم القصوى التي تسمح بها نظرية الأوتار، قامت هذه الكميات بعملية "ارتداد"، وبدأت تتناقص. وليس الانفجار الكبير سوى اللحظة التي حدث فيها هذا الانقلاب. وأصبح داخل أحد هذه الثقوب السوداء هو كوننا الحالي!
أغشية تتصادم فيما بينها
اقترح فنزيانو سيناريو ما قبل الانفجار الكبير هذا مع زملائه في عام 1991، وكان أول محاولة لتطبيق نظرية الأوتار على الكوزمولوجيا. وقد أثار العديد من الانتقادات، ولا تزال الدراسات جارية عليه لمعرفة ما إذا كانت هذه الانتقادات قد وضعت يدها فعلاً على بعض الصدوع الخطيرة في بنائه النظري.
أما النموذج الرئيسي الآخر الذي يصف الكون قبل الانفجار الكبير فهو يوصف بسيناريو الانقلاب ekpyrotique (من اللفظة اليونانية التي تعني الانقلاب الكبير conflagration). وقد طُوّر منذ عام 2001 على يد نيل توروك N. Turok من جامعة كامبريدج وبول ستاينهارد P. Steinhardt من جامعة برينستون، وهو يرتكز على فكرة أن كوننا هو عبارة عن غشاء D-brane يعوم في جوار غشاء آخر مثله في فضاء من بعد أعلى. إن الفضاء الذي يفصل الغشاءين يتصرف مثل نابض يقودهما إلى الدخول في حالة تصادم في الوقت الذي يكونان فيه في حالة انضغاط. وتتحول طاقة التصادم إلى مادة وإشعاع. وهذا هو الانفجار الكبير. وفي إحدى تنويعات هذا السيناريو، تتم التصادمات بطريقة دورية. فيلتقي غشاءان، ويرتدان ويتباعدان قبل أن يعودا فيسقطان أحدهما على الآخر وهكذا دواليك. وبين هذه التصادمات، تتوسع الأغشية بشكل مستمر باستثناء مرحلة انضغاط تأتي مباشرةً قبل الصدمة. ويتباطأ التوسع عندما تنفصل الأغشية ويتسارع عندما تعود لتتقارب من جديد. إن المرحلة الحالية من تسارع التوسع الكوني (المكتشفة منذ بضعة سنوات فقط أثناء رصد سوبرنوفا بعيدة) تشير ربما إلى تصادم قادم لكوننا مع كون آخر.
ويشترك هذا السيناريو مع السيناريو السابق في نقاط عدة. فكلاهما يبدأ مع كون واسع وبارد وشبه خاو وفارغ، وكلاهما يجدان صعوبة في تفسير الانتقال بين المرحلتين ما قبل وما بعد الانفجار الكبير. أما رياضيًا، فإن الاختلاف الرئيسي بينهما يكمن في سلوك حقل الديلاتون. ففي سيناريو ما قبل الانفجار الكبير يكون للديلاتون قيمة ابتدائية منخفضة جدًا، بحيث تكون القوى الأساسية ضعيفة، وتزداد قيمته تدريجيًا مع الكثافة. أما في السيناريو الانقلابي، فالعكس هو الصحيح، حيث ينتج التصادم عندما تكون كثافة القوى في حدها الأدنى.
لقد أثار هذا الضعف للقوى الطبيعية الأمل في التوصل إلى تحليل الارتداد من خلال التقنيات الكلاسيكية المتوفرة والمعروفة. لكن للأسف، في التنويعات الحالية عندما يقترب غشاءان إلى درجة التصادم ينهار البعد الذي يفصلهما بحيث أن الفرادة تصبح أمرًا لا مفر منه. وهناك عقبة ثانية حيث يجب تحقيق الشروط البدئية بشكل دقيق لكي نستطيع أن نحل مشكلة المسائل الكونية الكلاسيكية. على سبيل المثال قبل الصدم يجب أن يكون الغشاءان شبه متوازيين، وإلا فإنهما لا ينتجان الانفجار الكبير المتجانس جدًا كما هو حالة كوننا.
وإذا تركنا جانبًا صعوبة تشذيب هذين السيناريوهين من وجهة نظر رياضية، فإن الفيزيائيين يبحثون منذ الآن عن نتائج قابلة للرصد تدعم أحدهما على الأقل. وللوهلة الأولى، فإن النموذجين يستدعيان تخمينات ميتافيزيائية أكثر منها نظريات فيزيائية. مع ذلك، من الممكن لتفاصيل من عصر ما قبل الانفجار الكبير أن يكون لها نتائج قابلة للرصد، تمامًا كتلك التي تتعلق بفترة التضخم الذي حصل مباشرة بعد الانفجار الكبير. إن التخلخلات الطفيفة التي لوحظت في الحرارة واستقطاب الإشعاع الخلفي للكون يقدمان اختبارات تجريبية على ذلك.
تُفسَّر تخلخلات الحرارة على أنها علامة على الأمواج الصوتية التي انتشرت في البلازما البدئية خلال 380000 سنة سابقة لإصدار إشعاع الخلفية الكونية. ويثبت انتظام هذه التخلخلات أن الأمواج الصوتية كانت قد تولدت في اللحظة نفسها. وتتفق النماذج الثلاث، "التضخمي" و"ما قبل الانفجار الكبير" و"الانقلابي"، مع هذا الشرط الرصدي وبالتالي فإنها تتجاوز هذا الامتحان الأول بنجاح. وقد ولدت الأمواج الصوتية في اللحظة نفسها بواسطة تخلخلات كمومية مضخمة خلال مرحلة التوسع المتسارع.
بالمقابل، فإن كل نموذج من النماذج السابقة يتنبأ بتوزع نوعي للتخلخلات. وتبين الأرصاد أن سعة التخلخلات كبيرة الحجم الزاوي تكون ثابتة، في حين نلاحظ وجود ذرى على مستويات التخلخلات الصغيرة. إن النموذج التضخمي يُنتج بشكل مطابق هذا التوزع. فخلال التضخم تغيَّر انحناء الزمكان بشكل بطيء. وهكذا فإن تخلخلات مختلفة الحجوم تولدت ضمن ظروف مماثلة، وبالتالي فإن طيف التخلخل البدئي يكون ثابتًا أو لامتغيرًا بالنسبة لمستوى معين. وتنتج الذرى على المستويات الصغيرة من تناوب التخلخلات البدئية، في تتمة تاريخ الكون. وفي علم كونيات الأوتار، يتطور انحناء الزمكان بسرعة كبيرة جدًا، الأمر الذي يزيد من سعة التخلخلات على المستوى الصغير. مع ذلك، فإن صيرورات أخرى تعدّل هذه الظاهرة: ففي سيناريو الانقلاب الكوني، يُنتج انضغاط الأغشية طيف تخلخل غير متبدل المستوى؛ وفي نموذج ما قبل الانفجار الكبير، يتدخل حقل كمومي يسمى كرفاتون curvaton. وهذا يعني أن النماذج الثلاثة تتفق حتى الآن مع الأرصاد.
إن استقطاب الخلفية الإشعاعية الكونية يقدم لنا اختبارًا آخر. فعلى عكس النماذج الأخرى يتنبأ نموذج التضخم بأن الأمواج الثقالية ساهمت في تخلخلات الحرارة. ولا بد أن بعض هذه الأمواج الثقالية قد ترك بصمته في استقطاب إشعاع الخلفية الكونية. ويمكن لأرصاد القمر الصناعي بلانك التابع لوكالة الفضاء الأوروبية أن يرصد مثل هذا الأثر إذا كان موجودًا. واكتشافه سيقدم حجة هامة لصالح التضخم.
وتحليل الخلفية الإشعاعية الكونية ليس الطريقة الوحيدة لاختبار هذه النظريات. فسيناريو ما قبل الانفجار الكبير يتنبأ بإصدار أمواج ثقالية، يمكن لبعضها أن يكون قابلاً للرصد بواسطة كواشف الأمواج الثقالية مثل فيرغو Virgo. ومن جهة أخرى، بما أن السيناريو الانقلابي وسيناريو ما قبل الانفجار الكبير يتضمنان تغيرات في حقل الديلاتون، المتزاوج مع الحقل الكهرمغنطيسي، فإنهما يتنبآن بوجود تخلخلات في الحقل المغنطيسي على المستوى الكبير. ويمكن اكتشاف آثار هذه التخلخلات في الحقول المغنطيسية المجرية.
متى بدأ الزمن إذن؟ لا يقدم العلم حتى اللحظة إجابة على هذا السؤال، لكنه يطرح نظريتين على الأقل قابلتين للاختبار والتجربة وتؤكدان بشكل متماسك حتى الآن أن الكون – وبالتالي الزمن – كان موجودًا قبل الانفجار الكبير. فإذا كان أحد هذين السيناريوهين صحيحًا، فهذا يعني أن الكون كان موجودًا دائمًا.
الكون بين الفيزياء والميتافيزياء
علينا عند الحديث عن وجود دائم للكون، ألا ننخدع بالاعتبارات الميتافيزيائية أو اللاهوتية التي غالبًا ما تطرح في مثل هذه المناسبة. فليس ثمة سبب حقيقي لمناقشتها باسم الكونيات المعاصرة لأن هذه الأخيرة لا تتضمن مثل هذه الاعتبارات. ويعرف الفيزيائيون أن الانفجار الكبير نفسه لا يوافق أبدًا مفهوم الخلق بل هو مجرد مرحلة مرَّ بها الكون. بعبارة أخرى، حتى لو كان ثمة قائل إن الكون مر بلحظة بداية هي الانفجار الكبير فإن ذلك ليس سوى بناء نظري وليس لحظة حقيقية أطلقت الزمن الفيزيائي.
هناك دراسات كثيرة تحاول بناء شكلانية قادرة على وصف الكون البدئي بشكل أكمل. ولا يتورع الفيزيائيون الذين يحاولون وصف هذه المرحلة الفائقة الحرارة والكثافة بتجريب كافة الفرضيات والتصورات: وأهمها لا شك أن الزمكان يملك أكثر من أربعة أبعاد، وهو على المستوى الأقل من سوية بلانك يكون متقطعًا غير متصل. كما أنه يكون نظريًا قابلاً للاشتقاق من شيء ليس بزمكان أصلاً. إنها طرق مختلفة ليست بعد سوى طروحات لكنها تتجرأ بإرجاع الزمن إلى ما قبل اللحظة صفر، فليس ثمة بالنسبة لها نقطة فرادة.
في كافة الأحوال، فإن الحسابات تظهر لنا عالمًا كان قد سبق وجودنا وكوننا: قد يكون فراغًا كموميًا، أو قد يكون هذا الغشاء العائم في زمكان من عشرة أبعاد، وربما أكثر، أو أيضًا كونًا في حالة انضغاط يعود فيرتد على نفسه عندما تصل كثافته إلى قيمة لا يمكن تجاوزها، هذا إضافة إلى كل التصورات الأخرى بين هذه المقترحات التي قد تكون أكثر خيالية وجنونًا أحيانًا. يقود ذلك إلى نتيجتين. الأولى أن ما وجد قبل كوننا لم يكن عدمًا. ووفق هذه النماذج كان ثمة كائن دائمًا ولم يكن ثمة عدم أبدًا. وبالتالي فإن فكرة الخلق من العدم لم تحدث مطلقًا. والنتيجة الثانية هي أن هذه الأشياء السابقة لوجود كوننا لا تنفصل عن كوننا بقدر ما هي متضمنة فيه، بمعنى أنها لم تكن أسبابًا أولية لوجوده، خارجة عنه، وأدت إلى ظهوره بمجرد إشارة أو حركة. إن السمة الوحيدة التي تميزها عن العناصر الأخرى المشكلة للكون هي أنها ولَّدت كل ما يوجد إضافة إليها، إنما دون أن نستطيع معرفة أصل وجودها هي نفسها. فمن أين يأتي الفراغ الكمومي؟ لا أحد يعرف، والأغشية؟ لا أحد يستطيع الإجابة. ومن أين جاء الكون قبل الانفجار الكبير؟ إنه لغز قد لا نستطيع حله أبدًا...
لا تزال إذن مسألة معرفة إذا كان للكون أصل وبداية أم لا مسألة مفتوحة. فلا أحد يستطيع حتى اللحظة البرهان علميًا أنه كان ثمة أصل للكون، ولا أحد أيضًا قادر على البرهان علميًا أنه لم يكن ثمة أصل للكون.
إذا كانت قد وجدت بداية للكون والعلم لم يستطع حتى الآن تحديدها، فهذا يعني أن الكون كان مسبوقًا بغياب كامل للكائن. وهذا يشير إلى أنه نتج عن انفصال خارج العدم، انفصال لا يمكن وصفه بحال من الأحوال، وإلا لكي نفسر كيف لم يعد العدم عدمًا يكون علينا إعطاءه خصائص ستميزه بمجرد وجودها فلا يعود العدم عدمًا. أما إذا لم يكن للكون بداية، فهذا يعني أن الكائن كان موجودًا دائمًا ولم يكن ثمة عدم أبدًا. وهذا يعني أن مسألة أصل الكون لا معنى لها، أو أنها كانت مسألة مطروحة بطريقة خاطئة، لكننا في هذه الحال نستبدلها بسؤال آخر، سؤال أكثر انغلاقًا بما لا يقاس، وهو سؤال الكائن نفسه: لماذا كان الكائن بدلاً من العدم؟
عن موقع معابر (www.maaber.org)
*** *** ***
المراجع
- Greene, Brian, The Elegant Universe: Superstrings, Hidden Dimensions, and the Quest for the Ultimate Theory, Vintage (2000).
- M. Gasperiniet G. Veneziano, The pre-Big Bang scenario in String Cosmology, in physics Reports, vol. 373, no 1et 2, p. 1-212, 2003.
- G. Veneziano, l'Univers avant le Big Bang, pour la science, no 230 juin 2004
- Khoury, Justin,"A Briefing on the Ekpyrotic/Cyclic Universe". Columbia Univ. 2004
- Khoury Justin, Burt A. Ovrut, Paul J. Steinhardt, et Neil Turok, "Density Perturbations in the Ekpyrotic Scenario",. Mar 2002, Phys.Rev. (2002).
- Etienne Kleine, La science a-t-elle besoin de Dieu ?, La Recherche, n°447 - 11/2010.
- Paul J. Steinhardt et Neil Turok, Endless Universe: Beyond the Big Bang (2007).
- Igor &Grichka Bogdanov, Avant le Big Bang, Grasset, 2 juillet 2004.
- Martin Bojowald, Once Before Time, A Whole Story of the Universe,Alfred A. Knopf, New York, 2010.
- Igor &Grichka Bogdanov, Avant le Big Bang, Grasset, 2 juillet 2004 (ISBN 2246501113).
- B. Green, L'Univers elegant, Robert Laffont, 1999.
(كتبت المقالة قبل وفاة غسان تويني)
لن يُكتب تاريخ الشرق الأوسط المُعاصر من دون التطرّق إلى دور جريدة «النهار». يُكابر من ينفي دورها في لعب السياسة في لبنان، وفي صناعة الثقافة، وفي تلقين الفكر الرجعي. دور الجريدة كان محدوداً عربيّاً، لكنّه كان في الصفّ ذاته لجريدة «الحياة» التي شكّلت بوق الرجعيّة العربيّة والاستعمار البريطاني في حقبة الحرب العربيّة الباردة. «النهار» كانت خجولة مقارنة بـ«الحياة». لكن «النهار» حتى 1975، كانت _ الحق يُقال _ جريدة ذكيّة عرف صاحبها كيف يديرها، وكيف ينمّي نجاحها، وكيف يجتذب القرّاء لها، بأساليب ملتوية وغير ملتوية.
الجريدة قد تكون مجهولة لجيل جديد: هي اليوم جريدة مُحتضرة كانت قد ماتت سريريّاً بصورة رسميّة لو أنّ دعماً ماليّاً «خارجيّاً» لا يمدّها بالعون، ولو لم تتعاون معها شركة إعلانات احتكاريّة (قوّاتيّة) بأفضليّة سياسيّة ــ تجاريّة، ولو أنّ جيل الكهولة لم يعتد قراءتها من سن الحداثة.«النهار» جزء من تاريخ لبنان (بحلوه ومرّه) المعاصر ــ لكنّه تاريخ السلطة، لا تاريخ المعارضة الشعبيّة. قد تكون الجريدة لعبت دوراً معارضاً في مفصل هناك أو هناك، لكنّها فعلت ذلك بالتناسق مع طموحات صاحبها السياسيّة والماليّة. كان غسّان تويني صريحاً جداً في كتاب «سرّ المهنة» في الحديث عن المؤثّرات السياسيّة للجريدة من خلال تبجيله لشخصيّات كميل شمعون وشارل مالك وأنطون سعادة (لكن الجريدة لم تعبّر عن شجاعة في قضيّة القمع والتنكيل اللذين لحقا بالقوميّين بعد إعدام سعادة، وبعد الانقلاب القومي في العهد الشهابي البوليسي ــ لماذا يُحاط فؤاد شهاب بهذه الهالة؟ لنا عودة ــ كما أنّ تجانس تويني مع الحزب القومي كان في نسقه اليميني في 1958 عندما كان الحزب في صفّ الرجعيّة العربيّة الهاشميّة). «النهار» كانت جريدة السلطة، بمعنى أنّها كانت تعارض وتناصر بالنيابة عن فريق في السلطة أو في المعارضة من داخل تشكيلة السلطة. عارضت المكتب الثاني في عهد شارل حلو بالنيابة عن الحلف الثلاثي الطائفي الذي سيطر في «كلّ مكان» ــ كما قال عنوان الجريدة في انتخابات 1968. جورج حاوي، في كتابه مع غسّان شربل، أصاب الحقيقة عندما قال إنّ تويني يناصر الحريّة عندما يكون خارج السلطة، وينساها عندما يكون في السلطة.لم تصنع الجريدة خطّاً سياسيّاً. كانت تعبيراً عن وجهة نظر اليمين الطائفي في لبنان، كما أنّها كانت صوتاً للرجعيّة العربيّة في الحرب العربيّة الباردة من دون أن تذهب ضد عبد الناصر إلى الحدّ الذي ذهبت إليه «الحياة» آنذاك. قل (وقولي) إنّ «النهار» هي تعبير عن صوت البورجوازيّة التي كانت تخشى على الدولة (الطائفيّة) من الانهيار. لكن يُسجّل لغسان تويني نجاحه، في التقليد ــ لا في الابتكار.عاش تويني سنوات دراسته في أميركا ونقل إلى العالم العربي (كما فعل الأخوان مصطفى وعلي أمين في مصر بعد سنوات دراستهما في واشنطن) نموذجاً عن الصحافة الأميركيّة الرصينة، فيما فضّل الأخوان أمين صحافة الفضائح والإثارة على طريقة صحافة «هرست». «النهار» أرادها تويني أن تكون تقليداً للصحافة البوجوازيّة في أميركا، بسيئاتها أكثر من حسناتها. في الصحافة الأميركيّة، المسافة بين الناشر والتحرير موجودة بحدود معيّنة، فيما يتدخّل (أو كان يتدخّل) غسان تويني حتى في رسم الكاريكاتور. وأدخل تويني صحافة الصورة والألوان والملاحق وعناوين الإثارة، كما أنّ للويس الحاج لمسة خاصّة في العناوين الساخرة التي لم يبزّه فيها أحد.وكان تويني ناجحاً أكثر من أبيه القومي العربي (وغير الطائفي) في إدارة مجموعة متنافرة من العقائد والأهواء داخل غرفة التحرير: كان سرّ «النهار» في عصرها الذهبي أنّ غسّان تويني كان يعرف كيف يجتذب المواهب (مستعيناً بموارد ماليّة لا يملكها منافسوه ــ بعضها من الإعلانات وبعضها الآخر من مصادر خارجيّة)، وكيف يجمعهم في غرفة واحدة لإنتاج جريدة تألّقت لأكثر من عقدين من الزمن. ماتت الجريدة قبل أن يرثها جبران تويني الذي جعلها جريدة حزبيّة ركيكة اللغة والخطاب (كلّف غسّان تويني أديباً معروفاً كتابة مقالات جبران تويني في «النهار العربي والدولي»، لكنّه عاتبه لخلوّ مقالاته من الأخطاء النحويّة لأنّ ذلك قد يكشف اللعبة، كما أخبرني الأديب نفسه). ماتت الجريدة في يوم اندلاع الحرب الأهليّة، بعدما تشتّتت الأقلام في الصحافة النفطيّة المهاجرة، وبعدما تقلّصت مساحة التعبير بفعل الرقابة الخارجيّة (المُتعدّدة) وبفعل الرقابة الذاتيّة الجبانة (والطائفيّة غالباً). استولت أنظمة النفط والغاز على الصحافة العربيّة بعد 1975. ماتت الصحافة العربيّة مذّاك.لكن تألّق «النهار» التجاري كان مسموماً. الغرض السياسي لم يكن مضمراً، وإن لم يكن مُعلناً بصورة مبتذلة وسوقيّة على طريقة جبران تويني (الحفيد، صاحب قَسَم «الطائفيّة إلى الأبد») ومروان حمادة. لكن السمات السياسيّة للجريدة لا لبس فيها ولقد وردت في الكتاب الشائق والصريح للويس الحاج، «من مخزون الذاكرة».أولاً، لم تحمل الجريدة قضيّة الحريّة ولم تدافع عنها. كل ما يُقال عكس ذلك هو هراء ومن باب الدعاية الذاتيّة المجّانيّة. على العكس، فقد اعترى الجبن مسيرة الجريدة. ناصرت الحريّة عندما كانت لمصلحتها، وصمتت عندما كان القمع في مصلحتها. نظام أمين الجميّل القمعي والذي أراد فرض ثقاقة الاستسلام أمام العدوّ الإسرائيلي، وفرَض قمعاً ورقابة صارمة (قبل الانقلاب عليه من ميليشياتين فقط في 1984)، تمتّع بدعم قوي من جريدة «النهار» وخصوصاً أنّ غسان تويني لعب دوراً مهماً في الإشراف على المفاوضات مع العدوّ (ثم يقولون لك إنّ «الكل كان مع المقاومة في لبنان» قبل 2000). «النهار» كانت الناطقة الرسميّة باسم اتفاق 17 أيّار المشؤوم. وقد دبّجت الجريدة مقالات طويلة في عهد غسّان تويني، وفي عهد ابنه من بعده، في ذمّ المقاومة (الفلسطينيّة واللبنانيّة على حدّ سواء). «النهار» والت حكم سليمان فرنجيّة الفاسد، وانقلبت عليه فقط عندما حارب الأخير مصالح الجريدة الإعلانيّة، لكنها عادت ووالته عندما دخل تويني الحكومة في 1975 مرّة أخرى في ذاك العهد. والجريدة لم تكن مرّة شجاعة في معارضة (حتى لا نقول مقاومة) الاحتلال الخارجي أو سيطرة النظام السوري (كتب ميشال أبو جودة في 11 آذار 1971: «لو كان للبنان أن يشترك غداً في استفتاء الرئاسة السوريّة لانتخب الفريق حافظ الأسد»). على العكس، هي توالي القوة الخارجيّة النافذة في لبنان دائماً (باستثناء نفوذ عبد الناصر، لأنّها كانت في المعسكر الداخلي والإقليمي والعالمي المُضاد). (أخبرني الراحل جوزف سماحة أنّ تويني كان يقرّع سمير قصير لانتقاداته المبطّنة للنظام السوري). ثم، هل نشرت «النهار» مقالاً واحداً مُتضامناً مع جريدة «المُحرّر» عندما فجّرت قوّات النظام السوري مكاتبها؟ هل تضامنت «النهار» مع «السفير» عندما حاول نظام أمين الجميّل اغتيال طلال سلمان؟ هل تضامنت «النهار» مع «نيو تي في» عندما تعرّضت للقمع على أيدي الثلاثي: الحريري _ السعودي _ السوري؟ هل نشرت الجريدة تقريراً واحداً في تاريخها عن قطع الرؤوس في مملكة القمع الوهّابي؟ثانياً، روّجت الجريدة وعلّبت وصنّعت نموذجاً عنصريّاً طائفيّاً مريضاً للقوميّة اللبنانيّة. لم تكتفِ جريدة «النهار» باعتناق العقيدة الشوفينيّة الفينيقيّة المبنيّة على خزعبلات _ لا على علم _ كما شاب اعتناقها عقدة دونيّة نحو الرجل الأبيض. كل كلمة عابرة قالها رجل أبيض عابر عن لبنان _ من باب المجاملة العاديّة أو التملّق _ تصبح عنواناً ودليلاً على: 1) تفوّق لبنان على جيرانه العرب، و2) اقتراب لبنان من الرجل الأبيض الأوروبي «المُتحضّر». والمرض العنصري في الجريدة ربّى أجيالاً على أساطير وخرافات عن لبنان. ما معنى أن تدرج الجريدة على مرّ السنوات أخباراً عن «اختراعات» و«اكتشافات» لهذا اللبناني أو ذاك لـ«الشفاء» من مرض السرطان أو «السيدا» أو الاثنين معاً؟ تحتاج الجريدة إلى الاطّلاع على كتابات أبو بكر الرازي للتمييز بين الطب والشعوذة. هناك في الشعب اللبناني من بات على اقتناع بأنّ الجين اللبناني متفوّق على الجين العربي أو السريلانكي. هذا المرض ساهمت في نشره «النهار».ثالثاً، لم تعنِ قضيّة فلسطين شيئاً للجريدة. على العكس، فقد بثّت أفكاراً عنصريّة ضد الشعب الفلسطيني ودعمت كل حملات الجيش اللبناني على المخيّمات الفلسطينيّة. تصرّح الجريدة عن نيّاتها في 11 آذار 1971 عندما تعنون: «مجرمون يتخذون من المخيمات مخبأً» (كأنّ وطن الأرز والهوان يخلو من المجرمين). السلام والاستسلام مع العدوّ كانا السياسة الحقيقيّة الجريدة.رابعاً، بثّت الجريدة على مرّ السنوات دعاية (مجانيّة؟) للولايات المتحدة. كانت إنجازات أميركا في حقل اكتشاف الفضاء تبرز على الصفحة الأولى وبالألوان، فيما كانت إنجازات روسيا (السبّاقة في بعض الجوانب) مُهملة. ولو أنفقت وكالة التنمية الدوليّة الأميركيّة دولاراً واحداً في لبنان، لحاز الخبر مساحة (مجانيّة؟) في الجريدة. ولم تتوقّف الجريدة عن خدمة السياسة الأميركيّة وحروبها: في حرب العراق، نشرت «النهار» صورة لجثث عراقيّة مُحترقة وكتبت تحتها: «جثث لبعثيّين في العراق». كيف حدّد المُحرّر السياسي للجريدة الهويّة السياسيّة للجثث المُتفحّمة؟خامساً، تضمّنت الجريدة أدنى أنواع السخرية في ثقافتها وفكاهتها، وهي السخرية الفاقعة المباشرة على طريقة رسوم بيار صادق (تقارن رسومه برسوم المُبدع علي فرزات ذات المنحى الفلسفي، فترى أنّ صادق لا يمتّ بصلة إلى الفنّ ذاك). كانت رسوم صادق تسخر من سمنة شارل حلو، لا من قمع «المكتب الثاني».سادساً، نجحت الجريدة في إنتاج ذوق «ثقافي» وتعليبه وفرضه على العامّة. فكل شعر وكتاب ومقالة من إنتاج أقارب صاحب الجريدة وجيرانه وأصدقائه (بالمعنى السياسي _ الاجتماعي) يكون فذّاً ومُبدعاً، فيما أهملت الجريدة (باستثناء قسم الملحق الثقافي) الإبداعات الفنيّة الملتزمة (بالمعنى السياسي التقدّمي المختلف). قرّرت الجريدة أنّ شعر أسعد جوان أو موريس عوّاد أهمّ من شعر أحمد شوقي. وكان الذي تُروّج له الجريدة ينجح تجاريّاً، والذي لا يحظى بتغطية ينزوي وتجهله العامّة. قرّرت الجريدة أنّ كل مسرحيّة للأخوين رحباني فذّة، وأنّ كل منحوتة للإخوة بصبوص فذّة، وأنّ كل رسم لبول غيراغوسيان فذّ. هذا هو النقد الفنّي في «النهار». (لحسن الحظّ، ما عاد للجريدة أي نفوذ في هذا الصدد، وما عاد للقسم الثقافي للجريدة تأثير على أذواق العامّة إلا لمَن كان في سنّ الكهولة، أو ما بعد الكهولة، أو ما بعد بعد الكهولة).سابعاً، خاضت الجريدة (مجّاناً؟) بشراسة، الحرب الأميركيّة على الشيوعيّة ونشرت عبر دارها كتابات لرجعيّين ضد الشيوعيّة. وتكفي مراجعة أعداد الجريدة في الستينات لتتبيّن (وتتبيّني) مدى سخرية الجريدة ومعارضتها لكل فكر وتيّار وشخصيّة يساريّة. لم يكن تصريح واحد لكمال جنبلاط (الذي كان يُعدّ، خطأً أو صواباً، في صفّ اليسار) يمرّ دون السخرية من مضمونه في العنوان وفي متن المقالة، فيما كانت تصريحات بيار الجميّل تخضع من قبل لويس الحاج نفسه لتحسين وتجميل وتصحيح وتشذيب، باعتراف الأخير الذي صرّح عن ميوله اليمينيّة والطائفيّة في الكتاب المذكور أعلاه.ثامناً، تضمّنت عقيدة الجريدة عبادة للثروة والجاه (وما تبجيل «الزمن الجميل» إلا تبجيل لزمن القهر الطبقي والطائفي المُعلن _ ولم يتوقّف القهر بعد الحرب وإن تغيّرت أوجهه)، كما أنّ النخبويّة سائدة في تغطية الصحيفة. جامعة هارفرد أقرب الى «النهار» من الجامعة العربيّة والجامعة اللبنانيّة لأنّ أبناء النخبة لا ينتمون إليهما.تاسعاً، طبّعت «النهار» مع العدّو الإسرائيلي قبل أن تصبح الجريدة الرسمية لاتفاق 17 ايّار. الصراع العربي _ الإسرائيلي كان عابراً في تاريخ الجريدة. «النهار» وفؤاد شهاب والطبقة السياسيّة الحاكمة في لبنان ما قبل الحرب اخترعوا سياسة النأي بالنفس عن قضيّة فلسطين. أهملت الجريدة صعود اليسار والمقاومة الفلسطينيّة (باستثناء تغطية من الملحق الثقافي).قد لا نحتاج إلى العناية بدراسة دور «النهار». قد يدخل هذا التعليق في باب التأريخ، لا أكثر. لكنّها فصل من فصول صناعة الثقافة (السياسيّة والشعبيّة) في لبنان. لم تعد الجريدة مُقرّرة ولا تصنع رأياً عاماً كما كانت، ويا للأسف، تفعل في الماضي. باتت جريدة من جرائد أحياء 14 آذار. «تنذكر وما تنعاد».
بيان بمناسبة الذكرى 64 لنكبة فلسطين ودعوة للإضراب عن الطعام
تأتي الذكرى 64 لنكبة فلسطين التي لم يستطع غبار الزمن إخفاءها، ولم يستطع التاريخ طمس حقيقة أن فلسطين وطن عربي، في الوقت الذي يقدّم أبناءها أروع معاني الصمود والكفاح في معركة الأمعاء الخاوية، رغم كل السلاسل وقضبان الحديد.
إن هذه المعركة التي يخوضها الأسرى الأبطال بالوكالة عن كل عربي في وجه سياسة الاحتلال والتعسف، وسلطة القضاء العسكري التي يجري فيها استخدام " الأدلة السرية "، ونظام "الابارتيد"، التي لا يتاح فيها للأسير الفلسطيني الدفاع عن نفسه، والتي يجري تمديد الاعتقال التعسفي تحت مسمّى "الاعتقال الإداري" التي يشرعن الكيان الإسرائيلي لمحاكمة تجديد الاعتقال لفترات طويلة .
أمام هذه المعاناة وفي ظل غياب مؤسسات المجتمع الدولي وحقوق الإنسان، ورفضاً للاحتلال الإسرائيلي الذي يرسّخ الظلم ويكشف مرّة بعد مرّة سياسته العنصرية والهمجية.
نوجه ندائنا إلى الشعب العربي والشعب اللبناني لوقفة عز نتشارك فيها معاناة الأسرى الأبطال والتعبير بكافة أشكال التضامن الإنساني، أقل الإيمان فيه الإضراب عن الطعام في أل 15 من أيار الجاري تعبيراً وتجسيداً للمواقف البطولية التي يسجّل فيها شعبنا الفلسطيني الشكل الحقيقي في الصراع مع العدو الإسرائيلي .
معاً من أجل الدفاع عن قضايا الشعوب
معاً نصرةً للمواقف البطولية للأسرى الأبطال
عاشت فلسطين حرًة عربية
حنا غريب:
هناك جيل من القياديين أعطى للحزب لكن يجب الآن أن يفسح بالمجال ويسهل ويساعد بالحد الأقصى، لكي تصعد قيادة شابة، وتبرز وتستلم مهامها مع مواكبة الجيل القديم ورعايتها
الثورات كانت في مراحلها الأولى إيجابية في الصعود والتقدم إلى الأمام، أما في ما بعد ازدادت التدخلات
يجب أن نقدم نحن كحزب شيوعي نموذجاً بديلاً عن الإتحاد العمالي العام المجوف، وهذه مشكلة الحركة النقابية والعمال لأن الحزب الشيوعي لم يتمكن حتى الآن من إعادة بناء الحركة النقابية بشكل يطرح نفسه كبدي لحرفها عن مسارها الحقيقي.
نحن بحاجة لفريق كفوء، فعال، نشيط، مناضل. بحاجة لآليات تنظيمية حتى تكون حافز لعمل الشباب داخل الحزب. نحن بأمس الحاجة لفريق قيادي ينقل الناس من حالة الإحباط الى حالة النهوض بالحزب.
نقلاً عن موقع جمول
بمناسبة عيد العمال، أجرت مجلة جمول حواراً مع رمز من رموز العمل النقابي المعاصر رئيس رابطة التعليم الثانوي وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني الرفيق حنّا غريب ذلك النقابي الصلب الغير مهادن والذي نجح في توحيد المعلمين تحت راية مصالحهم الطبقية وبعيداً عن الإنقسام المذهبي والطائفي أو حتى السياسي. وقال غريب لمجلتنا أن "روابط الأساتذة والمعلمين ما زالت تقاوم حتى الآن ولا تخضع للسلطة رغم التنوع السياسي" وإعتبر أنه "يجب أن نقدم نحن كحزب شيوعي نموذجاً بديلاً عن الإتحاد العمالي العام المجوف" وعن موضوع الحزب قال "وضع الحزب لا يجب أن يستمر على ما هو عليه، نحن بحاجة إلى إعادة بناء الحزب، تفعيله، تطويره وتحسين أدائه وإعادة الحياة الديمقراطية الحقيقية إليه". وتطرق الحديث بالتفصيل إلى وضع الحركة العمالية في لبنان، وإلى وضع الحزب الشيوعي اللبناني، ودور الإعلام وإلى الثورات العربية وهذا نص الحوار كاملاً:
ما قصة التحركات التي يقوم بها الأساتذة من جديد لنيل مطالبهم؟ ألم يف المسؤولين بوعودهم التي قطعوها العام الماضي بعد التحركات الناجحة لهيئة التنسيق النقابية؟
تحركات القطاع العام تأتي في سياق المعركة التي بدأها القطاع الخاص لتصحيح الرواتب والأجور وما ألت إليه من نتائج رفضناها كهيئة تنسيق نقابية ونحن نخوض اليوم الجولة الثانية من هذه المعركة. وأنا أؤكد أن الزيادة التي فُرضت على القطاع الخاص، نتيجة تخاذل قيادة الإتحاد العمالي العام، لن تُطبّق هي هي على القطاع العام لأنه يوجد هيئات نقابية فعالة هي روابط الأساتذة والمعلمين وهيئة التنسيق النقابية وهي هيئات رقابية قوية قادرة على المواجهة وقيادتها ما زالت تقاوم حتى الآن ولا تخضع للسلطة رغم التنوع السياسي الذي فيها لأن حجم الرقابة في الجمعيات العمومية كبير جداً وبالتالي من يفرط بحقوق المعلمين سيحاسب.
هل ستلجأون للإضراب؟
طبعاً، في كل تاريخ العمل النقابي في لبنان لم يتحقق أي مطلب إلا من خلال الإضراب والسلطة لا تعطي العمال أي مطلب من تلقاء نفسها بل من خلال نضال الموظفين والعمال والأجراء والحركة النسائية وجميع هيئات المجتمع المدني الذين كانوا في صراع دائم مع السلطة. لذلك نحن نستعمل دائماً أسلوب الضغط الديمقراطي كالإضراب والإعتصام والتظاهر وإشراك الناس. فأهم ما في العمل النقابي هو آليات العمل وهو وعي الناس لحقوقهم وبغير ذلك لن يستطيعوا الدفاع عن حقوقهم لذلك على القيادة النقابية أن تفسر للناس كيفية سرقة حقوقها. عندها سيدرك المواطن مصلحته وسيكون في مقدمة الصفوف. وكلما إزداد التعتيم على حقوقه إنخفض وعي المواطن لها وهذا لا يعني أنه متقاعس، بل يعني أن هناك تقصير من القيادة النقابية بإيصال المعطيات كما هي لأصحاب العلاقة .
نحن مؤتمنون على حقوق الناس وثقتهم أغلى ما في الدنيا، لذلك على النقابي أن يكون على قدر هذه الثقة والمسؤولية التي تلقيها على عاتقه والناس يعرفون من اللهجة ومن طريقة الكلام أحياناً ويحسّون إن كنت صادقاً في الدفاع عنهم أم لا.
هل تقوم الوسائل الإعلامية بدورٍ مساعد؟
الوسائل الإعلامية ليست متشابهة ولكل منها نهجاً سياسياً وهناك بعض الوسائل التي تروّج لتحركاتنا ولكن ما ينقصنا في الموضوع الإعلامي هو تكافؤ الفرص، بمعنى أن من حق القضايا التي نناضل من أجلها أن تأخذ حيزاً في الإعلام. أين الإعلام من الملف الإقتصادي - الإجتماعي أو من الوضع المعيشي أو من الهجرة والبطالة وقضايا الشباب والطلاب، من المسألة الزراعية والصناعية، من التنمية في الريف أو موضوع الفقر أو الموضوع التربوي،....؟ هناك تعتيم على هذه القضايا التي لها علاقة بجوهر الأزمة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في البلد.
بدل إثارة هذه القضايا يدخلون المواطن في مهاترات على اسابيع، ماذا قال فلان ومن شتم علتان؟ والناس أخر همها ماذا قال قيس لزيد، الناس تريد من يتكلم عن وجعها ونحن نريد إعلاماً يعطي قيمة لهذا الوجع. نحن بحاجة أيضاً لإنتشال الإعلام من الإصطفاف الطائفي والمذهبي والحزبي وأن يكون أكثر موضوعية ومهنية. نريد أن نرى وجوهاً جديدة وشباباً يُستضافون في برامج وليس نفس الصور والأسماء كما يحدث اليوم.
نحتفل في هذه الأيام بعيد العمال، أين ممثلي أصحاب هذا العيد من نقابات وأحزاب من همومهم؟
لا شك أن هذا السؤال مطروح وجوهري ويضع الأصبع على جرح أزمة الحركة النقابية التي هي جزء من أزمة البلد.
القوى العاملة في لبنان حوالي المليون، ثلثهم يقبضون راتباً في نهاية الشهر ونصف هؤلاء في القطاع العام ونصفهم الأخر في القطاع الخاص. بقي الثلثين، هؤلاء الثلثان هم قوى عاملة غير نظامية أي الذين يعملون أعمال حرة أو المهمشين أو البطالة المقنعة أو الذين يعملون قليلاً في الزراعة أو من يعملون بشكل غير منتظم. أما معظم المؤسسات الصناعية والتجارية فهي صغيرة يضم كل منها 6 أو 7 عمال على الأكثر، لم يعد هناك هذه "البلوكات" الكبيرة.
ليس هذا فقط، المشكلة الأساسية أيضاً هي تدني الرواتب والأجور وانخفاضها، والنتيجة أن الشاب يتعلم ويحصل على شهادة والحد الأدنى للأجور هو 675 ألف ليرة. أتى شربل نحاس ليقول لغسان غصن بأن يقبل برفع الحد الأدنى للأجور إلى 850 ألف ليرة بما فيهم بدل النقل لكي يستفيد الجميع، وأنا كنت حاضراً شخصياً في الإجتماع، لأن بدل النقل لا يدفع لكل الناس، وبدل النقل هو بدعة لتخفيف الأجر وتضييع قوته، لكي لا يصل إلى الأغلبية ولكي يغش أرباب العمل، يرد غسان غصن بالرفض وبأنه يريد ال 675 ألف ليرة، وهذا رد ممثل العمال وانا شاهد على الأحداث فماذا تفعل وماذا تنتظر. إن حجم التآمر الذي يحصل على العمال، عندما تنخفض مستويات الحد الأدنى للأجور ومستويات الرواتب، عندها تكبر الهوة الشاسعة بين تكلفة المعيشة من جهة ومستويات الأجر المتدني نتيجة التوزيع الظالم للناتج المحلي وللثروة الوطنية، تكثر الهجرة وهذه سياسة متعمدة وهذه في صلب نظامنا السياسي الإقتصادي والإجتماعي، علينا أن نصدر كفاءتنا والقيمة المضافة من شبابنا ومن طلابنا ومن اساتذتنا ومن الكفاءات المهنية التي نملكها، والتي ندفع عليها كل مالنا حتى نعلمها لكي تنتج في الخارج ولكي تكون قيمة مضافة هناك لكي نجلب مكانها قوة عاملة مهمشة من طبيعة متدنية لا تساهم في عملية النمو الإقتصادي الإجتماعي بقدر ما هي تسد الطلب على العمال بأجر منخفض جداً حيث تتعرض لظلم إجتماعي كبير، يأتون بهم ويجبرونهم على العمل ساعات طويلة، ولا يضمونهم للضمان الإجتماعي، لأن أرباب العمل لا يريدون ذلك، لا يريدون أن يبنوا دولة، يريدون أن يبقوا الوضع على ما هو عليه حيث القوى العاملة الأجنبية تتعرض لشتى أشكال الإستغلال الإنساني والإقتصادي والإجتماعي . تريد أن تسألني أين الطبقة العاملة في لبنان، السياسيون لا يريدون صناعة قوية،إقتصاد منتج ولا زراعة، وعندما يصبح مجتمعنا قائم فقط على الإستهلاك وعندما ننتج طاقات نصدرها للخارج. أين القوى العاملة ؟ بالكاد تجدها في الزراعة أو في البناء أو على محطات البنزين أو في المنازل . لقد غيروا وقلبوا الشعب. العمال في المؤسسات الصغيرة لا يمكنهم أن يشكلوا أي قوة ضغط، خاصة في ظل قوانين الصرف الكيفي، فيصبح العامل خائف من المطالبة بحقه لأنه سيطرد ولأن الدولة لا تحمي الناس، الدولة تحمي مصالح البرجوازية الممسكة بالسلطة والتي تمثل مصالحها. فيعيش العامل في الفقر والرعب . فبعد أن سرقوا البلد يتهمونك بأنك تريد أن تدمر البلد. نحن بالنهاية بحاجة أن نركز على مسألة القطاع الإقتصادي المنتج في الصناعة وفي الزراعة وخاصة في القطاعات المستحدثة والتي لديها طابع العصر في الإلكترونيات وغيرها.
في عيد العمال نعيد الإعتبار للقوى العاملة التي حملت الشعلة من القرن التاسع عشر الذين اضربوا لكي يقسموا اليوم أجمل تقسيم، 8 ساعات عمل . 8 ساعات راحة وعلاقات إجتماعية و 8 ساعات نوم . اليوم العامل يعمل أكثر من مهنة واكثر من دوام لكي يستطيع أن يستمر . ونعيد الإعتبار للنقابات لكي تعود القوة الضاربة الخارقة الحارقة لهذا الإصطفاف العامودي بين الطوائف الذي تحول إلى أحزاب طائفية ومذهبية، نحن عندما نطرح الموضوع الإقتصادي الإجتماعي، نطرحه كقضية سياسية وطنية وإجتماعية، فنحن عندما نتحرك لكي نطالب بحق المواطن لا نتحرك فقط لكي نحسن وضعه المعيشي، والذي هو أساس، وإنما أيصاً لنرفع من مستوى وعيه، فبقدر ما تحقق الإثنين معاً تكون تصنع التغيير عند القوى التي لديها مصلحة التغيير، ولكي تغير في الإتجاه الصحيح وتعرف من معها ومن متآمر عليها.
ما هي الخطط او الخطوات الواجب قيامها كحزب شيوعي بالدرجة الاولى و كنقابات لنا فيها تمثيل كي نعيد الزخم للعمل النقابي الفعال؟ كيف تنظر للوضع العام للحزب الشيوعي اللبناني ؟؟ لما التقاعس في التحركات على الأرض مع أن القضايا موجودة من أزمة الكهرباء وصولا للأجور و الرواتب الى أزمة البنزين؟؟
المشكلة أن نقابات القطاع الخاص مجوفة، مثالاً على ذلك، باستثناء نقابات السائقين والمصارف، باقي النقابات لا تمثل أكثر من 2% أو عدد المنتسبين إليها لا يتجاوز ال-2% من العمال الذين هم يتكلمون باسمهم، والنسبة الباقية ال-98% من العمال لا علاقة لها بالنقابة، لأن النقابات في لبنان أصبحت لا تمثلهم ولا تدافع عنهم ولا تنطق باسمهم بل تنطق باسم من ركبها وفبركها . وبعدها يفرخون نقابات لكي ينتجوا الإتحاد العمالي العام . هنا يأتي السؤال ماذا يجب أن نفعل نحن كحزب شيوعي، إذا كان هذا نهج خصمنا الطبقي فكيف لنا أن نتصدى له وماذا فعلنا بهذا الخصوص؟ هنا نقول أنه يوجد تقصير كبير من قبلنا . يجب أن يكون لدينا خطة للمواجهة، يجب على نقاباتنا ألا تكون كباقي النقابات، لكن للأسف نقاباتنا أصبحت كباقي النقابات مجوفة.
كم نقابة للحزب الشيوعي تأثير عليها ؟
بغض النظر عن العدد، ما يهمني هو كم منتسب للنقابة التي نرأسها، وكم منتسب للنقابة التي ننشط فيها . نحن أو غيرنا . نسعى لنقابات فاعلة منظمة ديمقراطية وتكون مستقلة وليست على "ريموت كنترول "، نقابات تجرى فيها الإنتخابات حيث يفتح باب الإنتساب للجميع دون حواجز، لأن معظم النقابات، عندما يصبح عدد المنتسبين إليها بأكثريتهم لصالح الرئيس يقفل باب الإنتساب بحجة أن من سيسيطر وينظم العمال داخل النقابة، وهذا خطأ، لا يمكن إمساك القرار النقابي وتمثيل العمال عن طريق إبعادهم عن نقابتهم، بالعكس يجب أن نقدم نحن كحزب شيوعي نموذجاً بديلاً عن الإتحاد العمالي العام المجوف، وهذه مشكلة الحركة النقابية والعمال لأن الحزب الشيوعي لم يتمكن حتى الآن من إعادة بناء الحركة النقابية بشكل يطرح نفسه كبديل، إنه يعمل بهذا الجو لكن حتى الآن لم يتمكن إذ هناك صعوبات جمة ومشاكل كثيرة موضوعية وذاتية بذات الوقت التي لها علاقة بالقدرة والإمكانيات والظروف، لا أقول ذلك للتبرير،لكن نحن بحاجة أن نضع هذه المهام نصب أعيننا ونعمل بطريقة فعالة، كم نقابي يزور المعامل ويتكلم مع العمال ؟ يمكنهم إن يأخذوا كل النقابات، لكن ما من أحد يستطيع أن يأخذ مننا علاقتنا مع العمال وقضيتنا، إذا اتحدنا لا أحد يستطيع أن يقف في وجهنا، يجب أن نبني من القاعدة، بالعودة إلى العمال، الطلاب والشباب بالعودة إلى الثانويات والمدارس، بالعودة إلى المؤسسات حيث نحن أصلاً مجمعون، نحن كحزب شيوعي أمام تحدي كبير، ماذا نعرف عن الجامعة اللبنانية وعن مشكلتها، وكم من نشاط نقوم به في الكليات كافة، هل من أحد في الحزب يعلم عن برامج ومشاكل وهموم الطلاب ؟ كلا لا أحد يعلم . يجب أن نلتصق في المسائل ونعيش مع الناس حتى ننتج برامج، البرامج الجيدة تأتي من الحوار مع القاعدة التي هي على أرض الواقع، إذا حاورت الناس سوف تشكي لك همومك وأنت استجب لها. بعد الوصول إلى برنامج، يجب إن تضعه قيد الإختبار، عندما أجرب هذا البرنامج أو ذاك المطلب وألاحظ أن الناس لا تستجيب، يجب أن أستنتج أن ما أقوم به خطأ، وأعيد الإعتبار للناس، لأن الحملات ككرة الثلج، تبدأ صغيرة وتكبر شيئاً فشيئاً، لكن بحالتنا وللأسف تظل صغيرة.
من يعيق في الحزب الشيوعي تحقيق هذه البرامج وهذه الأفكار ؟ وما هي الأسباب ؟
الأسباب كثيرة، ولكن من دون شك هناك مسؤولية على القيادة، وضع الحزب غير مرضي، وأنا فرد من القيادة وأنا اتحمل المسؤولية، أبدأ بنفسي، وضع الحزب لا يجب أن يستمر على ما هو عليه، نحن بحاجة إلى إعادة بناء الحزب، تفعيله، تطويره وتحسين أدائه وإعادة الحياة الديمقراطية الحقيقية إليه، الخط السياسي وحده لا يكفي، واذا لزم الأمر يجب إعادة التفكير في هذا الخط، لقد جرب مراراً وبدون نتيجة، ونحن كقيادة مطالبين بمعالجة الأزمة تصحيح الخلل والبنية، الأمور لا يجب أن تستمر على هذا المنوال، يجب تحمل المسؤوليات، في النهاية علينا أن نتفق على خطة إنقاذ.
ما صحة الاستقالة من المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني ؟؟
هذه إشاعات وأنا قد كذبتها سابقاً .
الرفيق حنا غريب شخصية قيادية وشعبية مرموقة وتنال الكثير من الإعجاب والثقة من قبل جمهور اليسار وكذلك من مختلف الأحزاب السياسية في لبنان .ما المانع أن تترشح لمنصب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني ؟؟
أولاً ليس هناك "سوبرمان " في الحقيقة، وأنا لست بوارد الترشح لمنصب الأمين العام على الإطلاق، أنا مسكون بهاجس كيفية إعادة بناء الحزب، تقويته وتفعيله، وآخر ما يهمني هو المنصب، أنا كألاف الشيوعين، نطرح مشاكل حزبنا نسعى ونطرح الحلول لكيفية إعطاء القوة وتفعيل دوره، وطرح نفسه كقوة سياسية فاعلة على الأرض في الحركة النقابية وفي العمل الإجتماعي وفي كل الملفات، يجب أن نضع جهداً كبيراً في الأمور التنظمية . يجب إعطاء الشباب دور أكبر ليكون لهم فعالية أكثر، هناك جيل من القياديين أعطى للحزب لكن يجب الآن أن يفسح بالمجال ويسهل ويساعد بالحد الأقصى، لكي تصعد قيادة شابة، وتبرز وتستلم مهامها مع مواكبة الجيل القديم ورعايتها. يجب أن لا نضع حواجز امام الشباب، لدينا هذه الفرصة والقيادة مسؤولة عن توفير كل الشروط لإعادة توفير قيادة شابة واعدة للحزب.
من يرشح الرفيق حنا غريب لمنصب الأمين العام للحزب، لما يمثله من موقع هام وبإعتباره رأس الهرم الحزبي؟
مشكلتنا ليست بالشخص، مشكلتنا أكبر بكثير من ذلك، وليس الحل بإبعاد فلان أو تعيين فلان . نحن بحاجة لفريق كفوء، فعال، نشيط، مناضل. بحاجة لآليات تنظيمية حتى تكون حافز لعمل الشباب داخل الحزب. نحن بأمس الحاجة لفريق قيادي ينقل الناس من حالة الإحباط الى حالة النهوض بالحزب.
لا يجب أن نحمل المسؤولية لشخص أو اثنان .. هذا تفكير خاطئ، عندما نتخطاه نكون قد بدأنا بالتفكير الصحيح. لا يجب علينا أيضاً أن ننسى الظروف المحيطة، لا أبرر الفشل، لكن نحن دائماً في مواجهة قوى طبقية طائفية كثيرة، لذلك يجب علينا أن نجمع بعضنا، يساريين و علمانيين و كل من مع النسبية و الديمقراطية و الحرية، كل من يفكر في بناء حركة نقابية. المطلوب منّا الآن وقف حالة التدهور، آن الأوان لذلك، و لا يجب تضييع المزيد من الوقت، حتى ننطلق و نصعد من جديد. نحن الان بهذه الوضعية و الخروج منها يتطلب وعي كبير جداً.
أين نحن من الوزير السابق شربل نحّاس؟ و هل يتحمل الحزب فكرة انشائه لتنظيم سياسي جديد وما المانع أن تبدأ هذه الخطوة من داخل الحزب بالتزامن مع تغيير حقيقي في الأطر التنظيمية والقيادية؟؟
بالنسبة لنا، نعتبر أن هذا تحدي لمجرد طرح الفكرة .يجب أن يكون الحزب بالنسبة للدكتور شربل نحاس هو القاعدة الأساسية لأي تغيير : وبرأيي أن الحزب هو الحزب الوحيد اللذي وقف إلى جانب شربل نحاس في معركته .
أنا لا أوافقه على إنشاء تنظيم جديد . طبعاً المطلوب تجارب من هنا وهناك، لكن يجب أن تكون كلها في إطار الحزب خاصة أنه دفع أثماناً باهظة بسبب مواقفه في الفترة السابقة. حتى في المعركة التي خاضها الدكتور شربل نحاس وهذا واجبنا طبعاً، كنا في الحركة النقابية نقاتل على الأرض. نحن نريد أن يكون حزبنا هو البديل.
نحن كشباب ثائر، كيف لنا أن نغير الواقع، حيث أن حزبنا لا يتحرك ومربك معظم الوقت، لا قيادة سياسية تمثلنا ولا قانون يحمينا ؟
لا شك أن الخلل الأساسي يكمن في الحزب وليس في أي مكان آخر. الشباب شركاء في هذا الحزب ويجب أن يكونوا جزء من حل أزمته. في المؤتمر اعطيت للشباب كوتا لكي يشاركوا في القيادة ووصلوا، لكنهم للأسف فشلوا . فهناك مسؤولية علينا ومسؤولية عليهم . نحن بحاجة في الحزب لأن يعبر الشباب عن رأيهم كشباب وليس كـ "بلوكات" . مشكلتنا مع الشباب هي مشكلة الشيوعيين الشباب مع الشباب والطلاب. يوجد في لبنان حوالي المليون طالب فهل شاهدنا مثلاً نشاطاً له علاقة بالعمل التربوي؟ نعم مهم أن يهتم الشباب بالقضايا السياسية والوطنية، لكن أين هم من قضايا الشباب ؟ لذلك المسألة هي جزء من كل والجميع يتحمل المسؤولية.
هل أنت متخوف على الحريات في لبنان خاصة بعد إعتقال الرفيقين خضر سلامة و علي فخري بتهمة رسم "جرافيتي" عن العمالة و غيرها من القضايا ؟
طبعاً. أولاً، ندين إعتقال الرفاق بشدة .. ثانياً، إن موضوع الحريات مطروح في لبنان. التعتيم الإعلامي هو نوع من كبت الحريات، عدم تكافؤ الفرص هو تعدي على الحريات أيضاً . والعمالة هي عمالة لأي جهة انتمت . كل حزب أو تنظيم معرض للإختراق . المهم كيف نتعامل مع هذه الظاهرة حتى يكونوا العملاء عبرة لغيرهم وليس لتشجيع الناس على العمالة خاصة بعد بعض الأحكام الهزيلة.
ما هي وجهة نظرك بموضوع الثورات العربية ؟ هل تعتقد أنها حققت اهدافها لا سيما في تونس ومصر وليبيا وحتى في سورية ؟
إن إنتفاضة الشعوب العربية ضد أنظمة القمع هي فعلاً ثورة، ثورة ضد القمع والإرهاب، ضد الدكتاتورية والقتل وكل أشكال الظلم على مدى قرون. هذه أنظمة مستبدة وآن الأوان لكي تنتهي، لأن ليس لها علاقة بالحياة. الشعوب استطاعت كسر حاجز الخوف وهذا بحد ذاته شيء مهم جداً في بلداننا.
عندما نقوم بالثورة لا يمكننا رسمها على لوحة فنية، لذلك هناك قوى كثيرة تتدخل لرعاية مصالحها أولاً . القوى الفاعلة والمنظمة تحاول أن تستثمر وتستغل الثورة أكثر من غيرها. هي ثورة إجتماعية، ديمقراطية. هي ائتلاف قوى متنوعة ومتعددة، لكن لا يمكن تسميتها بالإنتفاضة الطبقية مثلاً، بالرغم من أن العنوان الإقتصادي هو أساس فيها. ففي تونس كانت الشعارات منذ البداية إقتصادية وتهتم بلقمة العيش . كل القوى الاسلامية كانت خارج الموضوع في بدايته. لكن التدخل الخارجي الأميركي الخليجي الغربي التركي الإسرائيلي وحفاظاً على مصالحهم قاموا بدعم المسلمين ووضعوهم في الواجهة . أساساً كل هذه الأنظمة ما كانت لتستمر حتى الان لولا دعم هذه القوى الخارجية لها . و في النهاية يأتينا الدب الكبير حتى يعطينا دروساً في الحرية والديمقراطية وهو الذي يذبح شعبه ويعتقله إذا ما نزل إلى الشارع في أي مكان في الخليج. إن هؤلاء يحتاجون لربيع عربي أكثر من غيرهم بكثير وهم أنفسهم تنفيذاً لأوامر أسيادهم يريدون أخذ الثورات إلى غير مكانها وتحويلها عن تحقيق اهدافها وطموحاتها .
الثورات كانت في مراحلها الأولى إيجابية في الصعود والتقدم إلى الأمام، أما في ما بعد ازدادت التدخلات لحرفها عن مسارها الحقيقي. الاخوان والسلفيين وهم الواجهة الأن بالإضافة إلى بقايا الأنظمة الساقطة والعسكر كلهم أدوات من أجل تنفيذ هذا المخطط وهذا ما يحدث لمعظم الثورات.
ماذا عن الثورة السورية، كأن الثورات الأخرى من جهة والثورة السورية من جهة أخرى، لماذا هذا الإختلاف في الرأي حول الوضع السوري خاصة؟
أولاً النظام السوري هو كباقي الأنظمة العربية في موضوع التسلط وفي موضوع الإعتقالات، الجانب الوحيد المختلف هو الجانب المرتبط بالصراع الإسرائيلي، انما هذا ليس بحجة، يقولون للشعب لا تعترض نحن نحرر الأرض الآن، 50 سنة مرت ولم يتحرر شيئاً، انما أصبح الناس فقراء وفي السجون والمعتقلات، إذاً حجة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة لا تنطبق بعد الآن، لأن النظام لم يقم بأي معركة، يجب في النهاية أن يكون هناك تكامل بين الجانب الوطني والجانب الإقتصادي. أو يصبح الشعب يقاتل من يفقره ومن يضيع لقمة عيشه ومن يضعه في السجون بدل مقاتلة إسرائيل . إذن نحن مع الإصلاح ومع التغيير الديمقراطي، وليس إستبدال نظام إستبدادي قمعي بنظام آخر مثله لكن بصورة أفضل . إن ما يجري الآن هو إستبدال الأنظمة بأنظمة مماثلة لكن بألبسة أخرى .
نحن لا نشبع من الحديث معك رفيق حنا، نريد كلمة أخيرة منك لموقع جمول وللمجلة.
أوجه تحية لكم ولكل الشباب ولكل القراء، على أمل أن نعيد السنة المقبلة عيد العمال بوضع أفضل، ونكن قد احرزنا تقدم وأعطينا لشعبنا ما يستحقه . شكراً لكم .
ربى الحسيني
شهدت العلاقات السورية الفنزويلية تطوراً ملحوظاً على المستويين السياسي والاقتصادي منذ وصول الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز إلى الحكم في العام 1999، أي قبل عام من تولي الرئيس السوري بشار الأسد رئاسة سوريا.
واتخذت العلاقات السورية الفنزويلية تطوراً على مستويين، الأول سياسي، تمثل في الزيارات التي قام بها تشافيز إلى دمشق في الأعوام 2006، و2009، و2010. أما الثاني فاقتصادي، وقد تبدّى في مجموعة من الاتفاقيات التي تراوحت بين المجالات التجارية والمصرفية والنفطية والبيئية والديبلوماسية، وقد انعكست زيادة في حجم التبادل التجاري الذي ارتفع من 1,1 مليون دولار في العام 2002 إلى 10,3 ملايين دولار في العام 2010. كما انعكست في انضمام سوريا كعضو مراقب إلى «التحالف البوليفاري لشعوب أميركا اللاتينية» («ألبا»).
ومع بدء الحراك الشعبي في سوريا، وجنوح الوضع نحو سيناريوهات كارثية نتيجة لأخطاء ارتكبها النظام والبعض في المعارضة على حد سواء، وفتحت المجال أمام التدخلات الخارجية، اتخذت فنزويلا موقفاً مؤيداً للأسد، باعتبار أنه «جزء من الحلف المواجه للهيمنة الإمبريالية».
يقارب رئيس لجنة العلاقات السورية - الفنزويلية في البرلمان الفنزويلي جول جبور الأزمة الحالية في سوريا انطلاقاً من «نظرية المؤامرة الخارجية»، معبراً بذلك عن الموقف الرسمي لحكومة بلاده، التي ترى أن «القوى الامبريالية تستغل المشاكل الداخلية السورية عبر تمويل وتسليح المجموعات المقاتلة لتنفيذ مشاريعها في المنطقة».
ويرى جبور، الذي التقت به «السفير» إثر عودته من زيارة إلى سوريا في إطار وفد دولي بهدف الإطلاع على حقيقة الموقف هناك، أنه «ليس سراً على أحد أن الدول الامبريالية تسيطر على غالبية الدول في المنطقة باستثناء سوريا وإيران والعراق حالياً، وبعض الأطراف اللبنانية»، ولذلك فإنه يرى أنه يجب النظر إلى الأزمة في سوريا حالياً انطلاقاً من هذه الحقيقة.
ويوضح جبور، وهو قيادي في الحزب الشيوعي الفنزويلي، أن «السياسة الخارجية السورية اتخذت دائماً موقف النقيض في وجه المشروع الأميركي في الشرق الأوسط، وذلك منذ أن دخلت سوريا في تحالف مع الاتحاد السوفياتي، ومن ثم مع إيران وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين»، معتبراً أنه «في حال أبدى الأسد اليوم استعداده للتخلي عن علاقته مع إيران، وعن دعمه لحزب الله، فإن هذه الحملة ضده ستتوقف فوراً».
وباختصار، يحدد جبور الموقف الرسمي الفنزويلي بأنه داعم للأسد، وأنه بإمكان الشعب السوري أن يقرر مستقبله عبر المشاركة في الانتخابات التشريعية المقبلة.
ويحذر جبور من أن «سقوط النظام السوري سيؤثر سلباً على الدول التي تواجه مشاريع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، لأن ما هو مطروح كبديل هو حكومة سلفية» مهادِنة لتلك المشاريع.
وفيما يقر جبور، وهو ينحدر من بلدة ساعين في محافظة طرطوس، أن السنوات الماضية في سوريا تخللها فساد وقمع، إلا انه يشدد على أن «الوضع الحالي لا يسمح بعدم دعم النظام في مواجهة السياسة الأميركية الامبريالية في المنطقة... ومنها إلى العالم».
ويستطرد جبور في شرحه لموقف بلاده تجاه النظام في سوريا، ضارباً مثالاً حول العلاقات بين فنزويلا ودول أخرى. ويوضح: «فنزويلا لا تتفق مع إيران حول سياستها الداخلية، ولكن بالرغم من ذلك، فإن الوقت الحالي لا يسمح لنا بأن نأخذ موقفاً ضدها، خاصة أن إيران تقف في وجه سياسات الإمبريالية العالمية، وبالتالي فإن علاقتنا مع إيران مرحلية لأن عدونا واحد وأساسي». ويضيف أن «فنزويلا لم تكن على علاقة وثيقة مع نظام القذافي، ولا مع نظام صدام حسين، لكنها في الوقت ذاته لا تقبل بأي تدخل خارجي للتحكم في سياسيات الدول واستغلال ثرواتها».
ويشير جبور إلى أن فنزويلا لن تعترف بالمعارضة السورية في الخارج «لأن ما تطلبه هو التدخل العسكري الخارجي»، وقد «رأينا ما حدث في أفغانستان والعراق وليبيا»، جراء تدخلات كهذه.
يذكر ان الحكومة الفنزويلية أسهمت خلال الشهرين الماضيين في كسر العقوبات المفروضة من قبل المجتمع الدولي على سوريا، حيث قامت بإرسال ناقلتي نفط إلى سوريا، في ما يذكر بمحاولات ناجحة قامت بها في السابق لكسر الحصار الأميركي المفروض على كوبا. وفي هذا الإطار يقول جبور إن «فنزويلا هي من تقرر علاقاتها السياسية والتجارية، ولذلك سنستمر بإرسال النفط إلى سوريا».
ومن المعروف أن سوريا وفنزويلا ترتبطان بالعديد من اتفاقيات التعاون وبروتوكولات ومذكرات التفاهم في مجالات التعاون التجاري والاقتصادي والاستثماري، ومن بينها اتفاقية أبرمت في العام 2009، وتعهدت فيها فنزويلا بتزويد سوريا بالمازوت سنوياً.
«المؤامرة» التي تواجهها سوريا اليوم، تبدو مشابهة لمؤامرات أخرى تحاك في غرف الاستخبارات الغربية، وقد تكون فنزويلا من بين الدول المستهدفة بها، خصوصاً أن الدولة اللاتينية ستشهد استحقاقاً انتخابياً مهماً حين يتوجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع في تشرين الأول المقبل للاختيار بين تشافيز ومرشح المعارضة انريكي كابريليس.
وفي هذا الإطار، يرى جبور أن المعارضة الفنزويلية، وعلى رأسها كابريليس، تتلقى دعماً مباشراً من «الصهيونية العالمية والدول الامبريالية»، وخصوصاً الولايات المتحدة، ولذلك فقد كتبت الصحف الإسرائيلية والموالية لإسرائيل في أوروبا بعد فوز كابريليس في انتخابات المعارضة أن «فنزويلا على طريق الديموقراطية»... ويتساءل جبور: «الديموقراطية على طريقة من؟ ولمصلحة من؟».
قامت القوى الأمنية ليل أمس باعتقال الناشطين علي فخري وخضر سلامة خلال قيامهما برسم "غرافيتي" في منطقة بشارة الخوري ضد إطلاق سراح العميد المتهم بالتعامل مع العدو فايز كرم. إن هذا التصرف غير المسؤول من الدولة اللبنانية ممثلة بأجهزتها الأمنية يشكل انتهاكاً صارخاً للحريات العامة والفردية في التعبير السلمي عن الرأي وهو يشكل اعتداءاً ليس على المعتقلين فحسب بل على كل النشطاء السياسيين وكل القوى والمنظمات الديمقراطية المدنية، وهو يؤشر إلى العقلية القمعية السائدة في صفوف هذه الأجهزة. وكان بالحري على الدولة اللبنانية أن تقوم بمحاكمة العملاء محاكمات جدية وتطبق عليهم العقوبات التي يستحقونها بدل الأحكام المخففة التي تكاد تكون مشجعة للعمالة والتي صدرت بحق عشرات العملاء الموصوفين وكان آخرهم فايز كرم يدين الاتحاد هذه التصرفات الأمنية القمعية ويدعو إلى أوسع تحرك ممكن دفاعاً عن الحريات العامة والفردية لكل اللبنانيين بالتعبير عن الرأي وثدعو إلى الإفراج الفوري عن علي فخري وخضر سلامة، وإلى استمرار حملة الاحتجاج على الأحكام المخففة للعملاء. كما يدعو الاتحاد إلى المشاركة في كل التحركات التضامنية مع الرفيقين وندعو إلى الاعتصام الفوري اليوم الساعة 3 أمام مقر الشرطة العسكرية - المتحف
الأساس الذي أحدث الانقلاب السياسي في مصر عقب يناير (كانون الثاني) 2011 نتائج انتخابات البرلمان التي جعلت من جماعة الإخوان أكثرية وجعلت تيار الإسلام السياسي أغلبية واضحة.
وفي يقيني إن كثيرا من الباحثين في مصر وخارجها لم يبذلوا، حتى الآن، الجهد اللازم لتحليل ومعرفة مكونات واتجاهات هذا البرلمان بشكل كمي وكيفي بأسلوب علمي.
من هنا تأتي أهمية التعرف على بعض المعلومات والأرقام الدقيقة عن هذا البرلمان:
يحظى حزب الحرية والعدالة (الإخوان) بنسبة 47.18 في المائة من المقاعد، وحزب النور السلفي بـ 24.29 في المائة، وتبلغ الكتلة الليبرالية في البرلمان قرابة 15 في المائة، ثم يتقاسم المستقلون وبعض الأحزاب الصغيرة بقية المقاعد.
عدد أعضاء البرلمان 508 أعضاء، 140 منهم يحفظون القرآن الكريم كاملا، و180 آخرون يحفظون نصفه، وهناك مائة نائب يحفظون أكثر من عشرة آلاف حديث نبوي، وهناك 170 نائبا يحملون درجة الدكتوراه في مجالات مختلفة.
أما الإحصائية التي يجب التوقف أمامها بالرصد والتحليل فهي أن نحو 70 في المائة من أعضاء هذا البرلمان تعرضوا للحبس والاعتقال السياسي خلال العهود السابقة!
وتقول الإحصاءات أن نحو 10 في المائة من هؤلاء النواب لا يمتلكون سيارة، مما يوضح المستوى الطبقي أو الاجتماعي لبعضهم.
ويمثل الأقباط في البرلمان نسبة 2 في المائة وهي نسبة هزيلة مقارنة بتمثيلهم العددي في تعداد السكان الذي لا يقل عن 10 في المائة من إجمالي سكان البلاد.
أما المرأة التي تعتبر عدديا قرابة نصف التركيبة السكانية المصرية، فهي ممثلة بنسبة 2 في المائة، أما من لهم علاقة بثورة يناير فإنهم لا يزيدون على 3 في المائة من النواب ومعظمهم فاز على قوائم غير ثورية!
المرأة، الأقباط، الثوار، بدو سيناء، أهل النوبة، لا يحصلون على تمثيل عادل ومناسب لكتلتهم العددية أو لطبيعة القضايا والملفات الهامة التي يعبرون عنها.
والمؤلم أيضا أن هناك أكثر من عشرة ملايين مصري من ذوي الاحتياجات الخاصة، أي نحو 12 في المائة من تعداد السكان لا يوجد من يمثلهم ومن يحمل مشاكلهم وأحلامهم إلى البرلمان.
هذا الوضع الذي تطرحه الأرقام والإحصاءات يعكس أزمة هذا البرلمان، الذي يتصدى لقضايا شعب له سقف أحلام، وحزمة مشاكل، لا حدود لها.
هذا كله يوضح لنا صعوبة الوضع الحالي وخطورته