النساء في المجتمع الطبقي

نُتّهم بأنّنا ليبراليّات من رفاقنا اليساريّين عندما نتحدّث عن قضايا النّساء، نُطالَب بالصّمت داخل منظّماتنا اليساريّة عندما نطرح أمراً يتعلق بقضايانا بحجّة أنّنا معنيّون بكلّ فئات الطبقات العاملة - لا بالنّساء وحدهنّ - وكأنّ الطبقة العاملة كتلةٌ واحدة، لا تفاوت بين شرائحها بحجم الاستغلال والاضطهاد في ظلّ الأنظمة والرّجعيّات القائمة.

  إنّنا إذا أردنا تعريف اليساري بشكلٍ مبسّط، فاليساري هو كلّ رافضٍ لأنظمة الاستغلال والحرمان ولكلّ إفرازاتِها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافيّة، وذلك يشمل العنصرية، الطائفية، الطبقيّة، الذّكورية، السلطة الدينية والأبوية وسلطة العسكر، وغيرها من الأدوات الّتي تنتجها الأنظمة وتتغذّى عليها وتستمرّ عبرها، لهذا فإنّنا لا نرى انفصالاً بين يساريّتنا ونسويّتنا، بل نراهما متلازمان، لا يكتمل أحدهما دون الآخر.

  ومن هنا، تأتي مسؤوليّتنا كنسويّات في محاربة اختزال النسوية بفكرة "المساواة بين الجنسين" فقط لا سيّما في الأوساط اليساريّة، هنا تبرز أهميّة توضيح تقاطع صراعنا النسوي مع صراع باقي فئات المجتمع المهمّشة ضدّ رأس المال وأدواته، كما ضرورة توضيح منشأ السلطة الأبويّة المرتبط أساساً بالملكيّة الخاصّة والمجتمع الطبقي لنخلص بعدها إلى أنّ تحرير النساء يتطلّب القضاء على سبب استعبادهن، وأنّ لا خلاص حقيقي لنا إلّا عبر تهديم أنظمة الاستعباد القائمة وإرساء أنظمةٍ نقيضة تنتج عنها المساواة الطبقية بين الجميع.

  بعد أن كانت النّساء تجسّد كآلهةٍ في الأساطير القديمة، وبعد أن كنّ رموزاً للحياة والحبّ والجمال، بعد أن كنّ الطبيبات الشّافيات من الأمراض، حصل تحوّل في المجتمع البشري، فإنتقل الإنسان من كونه جامعاً للنّباتات وصيّاداً للحيوانات إلى حالة تربية الحيوان وتدجينه كما زراعة النّباتات فمارس الرجال تلك المهام الّتي تطلّبت قوّةً جسديةً عالية فامتلكوا الأراضي نظراً لقيمتها الاقتصاديّة ما تطلّب ضرورة توريثها إلى النّسل القادم، وتزامن ذلك مع فهم الرّجل لدوره في عمليّة الإنجاب ومنح الحياة عندما تعرّف أكثر إلى تلك العملية عند الحيوانات الّتي قام بتربيتها. وبحيث أنّ المرأة هي من تحمل وتنجب، كانت بالتّأكيد تميّز نسلها، وبالتّالي كان يُنسَب لها، في حين كان الرّجل عاجزاً عن تمييز نسله نظراً لتعدد العلاقات الّتي كانت تقوم بها النساء آنذاك.

  ولتوريث الأرض، صار الرجل يحتاج إلى تمييز نسله، فصار مهمّاً بالنّسبة له أن تمارس المرأة الجنس مع رجلٍ واحد لينسب نسله إليه، وصار على ذكور عائلة المرأة أن "تحافظ عليها" للرّجل القادم للزواج منها، ونشأت العائلة الّتي تُستعبد فيها المرأة وتقمَع وتمنَع من ممارسة حياتها بشكلٍ طبيعي "حفاظاً على عذريّتها" الّتي رُبطت لاحقاً بمفاهيم أخلاقيّة كالشّرف والعفّة.

  ساد استعباد النساء وقمعهنّ واستملاك أجسادهن، فمنعن من الخروج والعلم والعمل والدخول في علاقات عاطفيّة أو جنسيّة، وُضِعت قيودٌ على لباسهن وحقوقهنّ في ممارسة حياتهنّ السياسيّة لاحقًا، وظلّ هذا القمع القائم على مصادرة أجساد النساء يتطوّر ويأخذ أشكالاً متعدّدة مع التطور التاريخي للمجتمعات الطبقية وعلاقات الإنتاج السائدة، واستمرّ ذلك حتّى في النّظام الرأسمالي الّذي يدّعي الحرّيّات، حتّى استغلّ النهج الليبرالي قضايا النّساء وسلّعها لخدمته في بعض الأماكن للتّرويج لبروبغندا "الحريات في رأس المال"، هذا الأمر الّذي جعل تقاطعيّة الصّراع النسوي مع الصراع ضدّ رأس المال مبهماً يجب توضيحه.

  في المجتمع العبودي والاقطاعي حيث تغيب المنافسة بقيت المرأة في البيت، تهتمّ بالطبخ والغسل والتنظيف وتربية الأطفال، أمّا في الرّأسماليّة الّتي تقوم على المنافسة في السوق والمليئة بالتّناقضات، كان على العامل أن يعمل لقاء أجورٍ ضئيلة، لكن كان يفترض أن يعيش؛ يأكل ويشرب ويحصل على السكن والملبس ليتمكّن من العمل ثانيةً. ومن هنا احتاجت الرأسماليّة إلى المرأة في البيت، تستكمل مهامها في الطبخ والغسيل والتنظيف والإنجاب والتربية من دون أجر، فلا تضطر الرأسمالية إلى تأمين هذه الخدمات بالمجّان ما يكلّفها أثماناً باهظة، كما لا تضطرّ إلى رفع أجور العمّال من أجل تحصيل تلك الخدمات.

  مع ذلك، فإنّ حاجة الرأسماليّة للعمّال كما حاجتها لإدخال المرأة إلى سوق العمل لادّعاء المساواة داخلها، دفعها إلى تمكين المرأة من العمل لكن بأجورٍ أقل، بحيث تحافظ على وجودها داخل البيت وتقوم ب"دورها" فيه، وهكذا صارت المرأة تعمل أكثر بأجرٍ أقل، وهكذا صارت الرأسمالية تستغلّ العاملات ضعف ما تستغلّ العمّال.

  هذه السلطة الاقتصاديّة على النّساء انعكست اجتماعياً، سياسياً وقانونياً، إذ لم تنتزع النّساء حقوقهنّ في التصويت والانتخاب والمشاركة في القرار إلّا منذ عقود قليلة، وحتّى الآن تستغلّ السلطات الرأسمالية الذكوريّة وجود نساء من داخل الأنظمة الرجعيّة لتثبت "تقدّمها"، حتّى الآن لا تستطيع النساء في الكثير من البلاد منح جنسياتهنّ لأطفالهنّ، حتى الآن تناضل النساء في العديد من البلدان من أجل حقّهن في الإجهاض والرعاية الصحية الآمنة، حتّى الآن تتعرّض النساء للختان والتعنيف الأسري والتحرش والإغتصاب والقتل من دون آليّات محاسبة جدّيّة وواضحة، حتّى الآن يتمّ التحكّم بأجسادنا وتُفرض علينا معايير جسديّة روّجت لها الشّركات الكبرى لتبيع منتجاتها "التجميلية" ويتمّ إخضاعنا لأدوار جندريّة يعرّضنا رفضها للقتل أو النّبذ في أفضل الأحوال، ومع ذلك فإنّنا حتّى الآن نُطالَب بتأجيل قضايانا!

"إنّ حصول المرأة على بعض حقوقها لا يعني تحرّرها الكامل، ولكنّه يؤدّي إلى إضعاف الاستثمار الرأسمالي الّذي تعاني منه"، هكذا تقول النسويّة الماركسية ألكسندرا كولونتاي في إشارةٍ إلى أهميّة انتزاع النساء لحقوقهن في إضعاف الذّكورية بصفتها أداةً لرأس المال، وهذا تماماً ما يجعل النسوية لا تناقض يساريّتنا في شيء، بل يجعلها جزءاً لا يتجزّأ من اليسار، وهذا ما يضع المنظمات اليساريّة أمام مسؤوليّاتها في تعزيز الثقافة النسوية داخلها، كي لا نعيد نحن ضمن منظّماتِنا إعادة إنتاج أدوات وثقافة الأنظمة الرّجعية التي نحاربها.

 

ريم دياب

الأكثر قراءة