بيروت تُلملم أشلاءها و تنتفض ...
ليت عقارب الساعة تدور عكس القاعدة ، فتعيدنا بالزمن قليلاً، تعيدنا لبيروت ما قبل ٤ آب ٢٠٢٠ ، اليوم المشؤوم .
الساعة السادسة و سبع دقائق بتوقيت بيروت ، حريقٌ كبيرٌ يندلع في مرفأ المدينة ، في العنير رقم ١٢ ، رجالُ الإطفاء يحاولون السيطرة على الحريق ، لكنّ النيران ابتلعتهم و انفجر عنبر الموت .
في لحظاتٍ قليلةٍ تحوّل كلّ شيء لحطام. تسارعت نبضات قلوبنا ، و إلتزمت قلوب آخرين الصمت الأبديّ . أشلاءٌ تطايرت هنا و هناك ، بعضها قُذف إلى البحر و بعضها الآخر ضاع تحت الركام .لم يبقى شيء من مدينة السلام . فالمنازل التي أوَت سكّانها لسنين طويلة خذلتهم في تلك اللحظات و سقطت على رؤوسهم . ملأ الدمار المدينة ، سالت دماء الشهداء و الجرحى على الأرصفة و في الشوارع ، و اكتست السماء رماداً معلنةً بيروت مدينةً منكوبةً .
الساعة السادسة و النصف بتوقيت بيروت ، مئات الرسائل لا تصل لأصحابها ، و مئات الإتصالات تنفصل ، ما من إشارة ، ما من خبر يشفي غليل المنتظرين. لحظات ذعر عاشتها الأمّهات بانتظار ابنائها ، قلوبٌ خائفة و منكسرة ترتجف و ما من خبر عن الأحباب . آباءٌ يركضون أمام المستشفيات بحثاً عن أولادهم ، و عيونهم تحترق بالدموع . صرخات أطفال تبحث عن مستغيث ، عن أمٍ و أبٍ رحلوا متأثرين بجراحهم .
هكذا مضت أوّل ليلة من انفجار مرفأ بيروت ، وجوهٌ كساها الحزن ، عيون تنتظر بأمل عودة حبيبٍ و قريبٍ ، بيوتٌ تحوّلت لركامٍ و حطام ٍ.
كلّ دول العالم تستورد عبر مرافئها مقوّمات الحياة ، إلاّ دولتنا ، استوردت لنا الموت ، و زرعت بين بيوتنا و شوارعنا قنبلة موقوتة ، ٢٧٥٠ طنّاً من نيترات الأمونيوم . هذه هي دولة الفساد و المحسوبيّات ، هكذا تُذهق الأرواح في بلادي ، هكذا ينتهي مشوار شعب ليس له سوى عرق جيبنٌ يعتاشُ منه .
و مرّت ساعات الليلة الأولى من انفجار المرفأ ، كقطار يدهس جسماً مرهقاً مرميّاً على سكتّه الحديديّة . بذغت شمس بيروت من جديد ، لكنّها أضحت إشراقةً منكسرة الخاطر ، تتألم بصمتٍ مع مشهد الدمّار ، مع صرخات الفراق ، مع دموع الناجين . أشرقت الشمس و رغم الألم الكبير انتصرت إرادة الحياة ككل مرّة ، فبيروت قاومت الإجتياح الإسرائلي و انتصرت فانسحب الأخير مردداً "يا أهالي بيروت لا تطلقوا الرصاص نحن منسحبون" ، بيروتُ الإنطلاقة و بيروتُ المقاومة لا تنكسر . فالأرضُ التي ارتوت بدماء شهدائها الأبطال قامت من تحت الردم و ثارت لأجل أهلها و شهدائها و جرحاها و مفقوديها ، ثارت لأجل الوجوه التي لم ترى النوم و لا الراحة و الهناء .
لبّى الشعب العظيم نداء الإنسانية ، نداء الوطن المجروح ، حملوا مكانسهم و جمعوا بها أشلاء بيروت و جراحها ، لملموا القلوب المكسورة محاولين ترميمها .قدموا من جميع المناطق و من مختلف الأعمار لأجل بيروت و لأجل الإنسان . في الأمس اجتمعوا في شوارع بيروت و انتفضوا سويّاً في شارع الحمرا و شارع المصارف و في مار الياس و رياض الصلح ، انتفضوا ضدّ عصابة المصارف و سلطة رأس المال مطالبين بدولة مدنيّة تتحق فيها العدالة الإجتماعيّة .و اليوم ها هم يعودون للشوارع نفسها ، يزيلون عنها الغبار ، لتكون غداً انطلاقة لمسيرة شعبيّة تتطالب برغيف الخبز .
نظّفوا الشوارع ، و علّقوا مشانق الأسى في ساحات الإنتفاضة . كانت المشانق فارغة لكن غداً سيعلّق عليها كل من كان سبباً في هذا الألم.
١٧٧ قتيلًا، اكثر من ٦٠٠٠ جريح و ٢٠ مفقود حتى الساعة.
رحل كلّ شيء . رحلت ملامحهم البريئة تلك ، لمعة عيونهم ، وجوههم الضاحكة .
لم يبقى سوى صورٌ قليلة و ذكريات تسكب الملح على الجرح .
اذكروا اسمائهم و تذكروا ملامحهم .
لأجلهم و لأجل مدينتا سننتقم من سلطة المال و الفساد و المحسوبيات فالوطن لا تبنيه السلطة كهذه بل تلك السواعد التي اندثرت غبارًا تحت الركام الاصم. لاجلها ولاجل الدموع التي لم تجف، لاجلها ولاجل الاحزان الدامغة في القلوب، سننتقم.