غسان ديبة - الاخبار
«لو كان ظاهر الأشياء مطابقاً لجوهرها، لما كان هناك حاجة للعلم» كارل ماركس
في كتابه الجديد حول مجتمع الكلفة المتلاشية وإنترنت الاشياء، يقول العالم المستقبلي، جيريمي ريفكين، إن المجتمعات الرأسمالية المتقدمة أصبحت في مرحلة من التطور التكنولوجي يمكنها أن تنتج الكثير من السلع من دون كلفة تذكر، وبالتالي هذا سيؤدي الى اهتزاز الرأسمالية وأفولها، لأن منطق الربح والعمل اللذين يشكلان أساس الرأسمالية سيصبحان هامشيين في المستقبل القريب.
إن الوصول الى واقعية الاحتمال الكبير لهذا المجتمع الجديد لم يأت هكذا من السماء، بل تطلب أكثر من مئتي عام من العمل المنتج وتراكم رأس المال والتوسع الرأسمالي في الدول الرأسمالية المتقدمة، ما أتاح تطور الانتاجية واختراع أنواع جديدة من التكنولوجيا، كتكنولوجيات المعلومات. وهذه عندما تربط الآن بالذكاء الصناعي والروبوتات وتكون مع "الأشياء" نوعاً من البيئة الجديدة أو "إنترنت الأشياء"، تتيح للبشرية أخيراً إمكان البدء بالاستمتاع بمجتمع الوفرة ونهاية الرأسمالية. في المقابل، يستمر الاقتصاد اللبناني في محاولاته الدائمة للقفز فوق المراحل، وأهمها مرحلة تراكم رأس المال والعمل المنتج تلك، وذلك عبر الاتجاه دائماً الى البحث عن مصادر جديدة للريع، وفي بثّ الاوهام "الانتاجية" من "اقتصاد المعرفة" و"مستشفى وجامعة الشرق الاوسط"، الى آخر المعزوفات التي ينتجها العقل الريعي ــ نصف المتعلم، الذي تكوّن جماعياً على مدى عشرات السنين. هذا العقل الذي تكوّن من الاعتماد الادماني على الريع الداخلي والخارجي على أنواعه، من مساعدات خارجية وتحويلات مغتربين وعقار وفوائد، أدى الى فقدان الوعي عند الكثيرين بالعلاقة بين العمل المنتج وتراكم رأس المال الحقيقي وبين المداخيل والاستهلاك. وآخر الملاذات الريعية الذي يبثّ الوهم حولها هو النفط والغاز؛ هذا المورد الذي أتى تاريخياً مجبولاً بالدم والعرق والغبار والمآسي، ولكنه في الوقت نفسه يحمل في طياته أحلام اليقظة في الإثراء السريع والسهل والبراق من دون أي عمل يذكر. لكن يبقى الوهم الأكبر الذي لا يزال يسيطر على العقول هو الاعتقاد، على الرغم من الاستدانة والحاجة الدائمة الى العملة الاجنبية لتمويل عجوزات الخزينة والتجارة، بأننا نستطيع بطريقة ما أن نخترع عبر "هندسة مالية" آلة أزلية (perpetual machine) تستطيع أن "تنتج" لنا "دولارات" يمكن استعمالها في ميزانياتنا وعملياتنا النقدية. آخر هذه الاختراعات كان منذ أكثر من شهر، كما جاء في جريدة الأخبار، إذ "نفذت وزارة المال استبدال سندات دين بالليرة بسندات دين بالدولار (Eurobond) بقيمة ملياري دولار لحساب مصرف لبنان.
تأتي هذه العملية في إطار التنسيق المتبادل بين وزارة المال ومصرف لبنان، وهي تسهم في رفع الاحتياطات المالية بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، ما يعزّز الثقة بقدرته على مواجهة أي ضغوط مالية ونقدية".هذه الهندسة المالية ما هي إلا وهم أيضاً، وتدخل في سياق "خلق" الدولارات. فالمصرف المركزي يستطيع فقط أن يتدخل دفاعاً عن الليرة بواسطة احتياطه النقدي بالدولار (cash reserves) وليس بواسطة سندات الخزينة اللبنانية وحتى لو كانت بالدولار، إلا إذا كان لديه سندات خزينة صادرة عن دول غير لبنان (مثل أميركا). بالطبع يمكن للمصرف المركزي أن يبيع هذه السندات في سوق ثانوية ويحصل على الـcash بالدولار، ولكن هذا لن يكون متاحاً له في ظل بوادر أزمة نقدية تستدعي تدخله أولاً باللجوء إلى الاحتياطي النقدي وصولاً الى هذه السندات. ففي ذلك الوقت الذي سيحاول فيه بيع هذه السندات، نكون قد أصبحنا في وضع لا أحد يريد شراءها أصلاً، ويكون قد فات الاوان وانهارت الليرة اللبنانية! إذن هذه العملية ما هي إلا عملية تجميلية لرفع الاحتياطي الاسمي لمصرف لبنان وليس الفعلي! إضافة الى ذلك، فإن لهذه العملية آثاراً سلبية من حيث انها تزيد من دين الدولة بالدولار وهذا سيّئ؛ ومن سخرية القدر أن المصرف المركزي، وهو هيئة عامة تدفع الدولة اللبنانية إلى أن تقوم بذلك! في عام 1983 كتب الاقتصادي الفرنسي الان ليبيتز أن الاقتصاديات الرأسمالية في السبعينيات كانت تعيش على الاستدانة وانفصال عالم النقد عن القيم الحقيقية، فشبّه الاقتصاد الرأسمالي آنذاك بالشخصية الكرتونية التي نعرفها كلنا، والتي تسير في الجو لمدة ثم فجأة تكتشف ذلك فتسقط. وقال عن التضخم الذي أصاب الدول الرأسمالية المتقدمة في تلك الفترة "إن التضخم المتسارع هو ليس مرضاً بحد ذاته، بل هو عوارض مرض نفاذ نمط التراكم." فهذا الاستنفاذ هو الذي جعل الرأسمالية تحاول حل هذه المعضلة عبر النقد والاستدانة وصعود عالم المال. أما في لبنان اليوم، وبعد أكثر من عشرين سنة من تغليب المال والريع والعقار على الإنتاج والعمل، يمعن اقتصادنا أكثر فأكثر في ديناميكية انفصال العالم النقدي عن الاقتصاد الحقيقي، ما يجعل الأزمة أعمق في الواقع ولكن غير ظاهرة للعيان. ومن أجل الإبقاء على ذلك، يغرق المصرف المركزي أكثر فأكثر دفاعاً عن هذا الوهم. والمفارقة أنه لا يستطيع لذلك سبيلاً إلا بخلقه أوهاماً أخرى، متجاهلاً أن النمط الاقتصادي اللبناني في أزمة كبرى، وأن الجميع ينتظر الآن متى ستسقط شخصيتة الكرتونية العائمة على غيوم من الريع، ويسقط معها آخر أوهام الرأسمالية اللبنانية.