بيار أبي صعب - الاخبار
«يجب ألّا تفقد الثقة في الإنسانية، فالانسانية كالمحيط، إذا كانت بعض قطراته وسخة، فإن المحيط لا يصبح وسخاً»: هذا القول المنسوب إلى غاندي، هو من آخر ما «شيّره» غريغوار في الخريف الماضي، أي تشاركه مع «أصدقائه» على فايسبوك، نقلاً عن صفحة «تيار المجتمع المدني».
هذه الحركة السياسيّة المجتمعيّة العلمانيّة «الهادفة إلى بناء مجتمع الإنسان كل إنسان وكل الإنسان»، أسسها المطران عام ألفين، واحتضنت شابات وشباناً استلموا المشعل من أجيال سابقة رافقت رجل الدين المسيحي الملتزم سياسيّاً واجتماعيّاً ووطنيّاً وقوميّاً، منذ إطلاقه «الحركة الاجتماعيّة» أواخر الخمسينيات في بيروت. ولعلّ تلك الحكمة الغانديّة التي تليها تعليقات للأبونا - المناضل، داعمة لـ «الحراك»، وداعية الجيل الجديد إلى «تنظيف البلد من الزبالة»، تختصر مسار غريغوار حداد (1924 ــ 2015) الفكري واللاهوتي والسياسي والميداني لأكثر من نصف قرن، وحتى أيّامه الأخيرة على فراش المرض في «بيت السيّدة»، حيث أغمض عينيه بسلام، على أحلام العدالة والعلمانيّة والاصلاح والتجديد، أوّل من أمس، عشيّة الميلاد. لم يستسلم يوماً لليأس غريغوار حدّاد، ولم يفقد ثقته بالانسان حتّى في أحلك الظروف. حافظ على إيمانه وثقته بخياراته عام 1974، يوم أقصي من أبرشية بيروت للروم الكاثوليك، حيث قام بإصلاحات مهمّة، وطبّق عدداً من المبادئ القائمة على فكرة العدالة والمساواة، متناغماً مع روحيّة «المجمع المسكوني الثاني». دفع يومذاك ثمناً باهظاً لاجتهاداته العقلانيّة والتنويريّة المنشورة في مجلّة «آفاق» الشهيرة التي أصدرها مع الأب بولس الخوري، والأب ميشال سبع، والدكتور جيروم شاهين. وعندما أعيد إليه الاعتبار في الفاتيكان، ليُقصى إلى أبرشية أضنة الافتراضيّة في تركيا، كانت الحرب الأهليّة قد نشبت في لبنان، فاختار الطريق الأصعب لمقاومتها. لم يقبل بسرطان الطائفيّة والحقد الأهلي، بل اختار العمل الاجتماعي الميداني الطويل النفس. لم يعترف بسلطة الميليشيات التي ادعت تمثيل المسيحيين و«الدفاع عنهم». هو الذي لم يتردد ذات يوم في اعلان الشهادة: «أشهد ألا إله إلا الله»، والذي وقف إلى جانب القضيّة الفلسطينيّة، وانتمى إلى المشروع القومي العربي… لم يكن أمامه في جحيم الحرب إلا أن يرسم طريقاً أخرى، قوامها الوحدة الوطنيّة التي كان نسج خيوطها منذ أواسط الستينيات، ورسّخها مع الإمام موسى الصدر، مع العلامة الشيخ عبد الله العلايلي، ورموز روحيّة وفكريّة وسياسيّة عدّة. في سنوات الحرب، كنّا كثيرين نؤمّه، ونستمع إليه، ونناقشه، ونناضل إلى جانبه، ونحتمي بهالته داخل أسوار ما سمّي «الغيتو الانعزالي»… في كل الامتحانات اللاحقة التي واجهها «غريغوار» كما يناديه تلامذته ورفاقه، لم يفقد ثقته بالانسان. احتذى بالسيد المسيح وبذل كل ما بالامكان لاعادته إلى الناس، إلى البسطاء، من خلال تطبيق فكرة العدالة الاجتماعيّة. اشتغل على «تحرير المسيح والانسان»، متناغماً مع مدرسة «لاهوت التحرير» التي عرفت أوجها في سبعينيّات أميركا اللاتينيّة. كان يرى أن مشروعه الإيماني، لا يكتمل من دون الانسان، صورة الله على الأرض. «كل ما فعلتموه لهؤلاء إخوتي الصغار، فلي قد فعلتموه» كان يردد مع عيسى الناصري. لذلك كان النضال من أجل العدالة، جزءاً من رسالته. كان العمل مع الناس ـــ أيّاً كان دينهم لونهم اتنيتهم عقيدتهم ـــ والعمل من أجلهم، جزءاً من واجباته كمسيحي وكرجل دين. لذلك كان الإلتزام السياسي والأخلاقي في صلب فهمه لعقيدته وتطبيقه لها، من خارج كل المتاريس والعصبيات والغيتوهات الفئويّة. كان دينه انفتاحاً على الآخر حتى الاندماج به، وإصغاء إلى نبض المجتمع، وعملاً متواصلاً من أجل التقدّم والتغيير. كان يضحك حين نذكّره باللقب الاختزالي الذي أطلقه عليه خصومه: «المطران الأحمر»: «إنا مع الإنسان، حسب تعاليم المسيح، ليس إلا». شبك الدين بالانسان وشرّعه على المستقبل. مسيحيّته المتجذّرة في المكان والمشرّعة على العالم، وجدت مكانها الطبيعي في صلب الهويّة العربيّة لغة وأرضاً وتاريخاً ومعارك سياسية ووطنيّة. ومن منطلق إيماني أيضاً دافع بقوّة عن الزواج المدني… وخاض معاركه من أجل كسر القوالب الدوغامتيّة الجامدة، وتطوير الوعي الديني عبر الفكر والاجتهاد… ووقف ضد التمييز الجنسي بحق المرأة، وضد الظلم بكلّ أشكاله. ومن المنطق نفسه دافع عن العلمانيّة الشاملة التي تنتج انساناً ومواطناً، ولا تتناقض لحظة واحدة مع الإيمان والعقيدة الدينيّة: «النظام الطائفي هو أحد التهديدات الفعليّة للإيمان (…) العلمانيّة الشاملة ليست، كما يتهمها بعضهم، تحرراً وتحريراً من الدين، بل هي اسهام في تحرر الدين والإيمان من كل ما يشوّههما أو يشوبهما من انحرافات. وفي جعل الدين يحرر المؤمنين بدلاً من أن يستعبدهم». هكذا لخّص الأب غريغوار حدّاد دفاعه عن المشروع المركزي في عمارته الفكريّة والفقهيّة والسياسيّة، في كتاب «العلمانيّة الشاملة» (أحد مؤلفاته المرجعيّة التي أعادت نشرها «دار مختارات»، بيروت). وفي ربيع 2002، حين اعتدى عليه شاب مسيحي متطرّف، وهو خارج من «تيلي لوميار»، قامت الدنيا وكتبت الافتتاحيات، ووقّعت العرائض. انتظره كارلوس ع. على مدخل المحطّة الدينية التي كرّست سلسلة حلقات لمسيرته، ليرميه بتلك الصفعة الفظيعة التي أردته أرضاً، على مرأى من كاميرا «المؤسسة اللبنانيّة للإرسال». قام المطران وحمل جسده الثمانيني ومشى. سامح الفاشي الصغير، لأنّه يعرف سرّ الوجع والقهر اللذين يدفعانه إلى العنف. هو الذي اشتغل طوال حياته على نشر ثقافة التنوير والوعي والعقلانية واللاعنف والحوار ومعرفة الآخر، ونبذ الجهل والتعصّب والخوف والانعزال المذهبي والتقوقع الديني. هو الذي أمضى عمره يشتغل على الأرض، من أجل العدالة التي تزيل أسباب التطرّف، كما يطرد النور أضغاث الظلمة. اليوم يرحل غريغوار في واحدة من أحلك اللحظات التي عرفها لبنان، وتعرفها المنطقة العربيّة. يرحل، وبعض المسيحيّين معرّض لمطبات التزمت والأصوليّة واللاتسامح، كردّ فعل على «الكابوس العربي» ومسوخه. يتركنا الأبونا الذي لا نذكره الا باللحية البيضاء، فيما الظلام يزداد كثافة، وجحافل التكفيريين تخترق العقول قبل الحدود، فيما العالم الحرّ متواطئ على مشاريعنا النهضويّة. يتركنا فيما بعض رجال الدين المسيحيين، وبعضهم فقط، يتطاولون على الفضاء المدني، ويحرّضون على الكتب والأفلام والمسرحيّات، ويحنّون إلى القرون الوسطى ومحاكم التفتيش. ماذا نفعل سوى استعادة سيرة غريغوار حدّاد، واعادة قراءته، والتمثّل بشجاعته وصبره، بعزيمته وإيمانه. بـ «تفاؤله الثوري» كدنا نكتب! نعدك أبونا ألا نفقد الثقة بالانسان، ألا نسكت بوجه المطاوعة الذين حاولوا «تكفيرك» يوماً، وهم من كل المذاهب والأيديولوجيات. نعدك، في يوم ولادة الأمل، في مغارة بيت لحم في فلسطين، ألا نفقد بوصلة النهضة والتنوير والعدالة، وأن نعمل على توسيع فضاء الحريّة، بسواعدنا وقلوبنا وعقولنا.