عامر محسن - الاخبار
في كتاب «حوارات مع جيجك»، يتكلّم المفكر السلوفيني عما يعتبره أزمةً عميقة في هوية اليسار، وتعريفه لنفسه، واستراتيجيته. اليسار (في الغرب)، يشتكي جيجك، محاصرٌ بين نمطين من السياسات، لا يجدهما مجديين.
الأوّل هو تيّارٌ راديكالي «فرنسي» الطابع، يمثّله باديو وباليبار وموفه ولاكلو، ينادي بما يسمّيه جيجك «سياسة صافية»، أي السياسة كمشروع تحرّري مطلق، يغيّر الحالة الانسانية جذرياً (المساواة الكاملة، مثلاً، أو الديمقراطية الراديكالية)، ولكن ليست له ملامح عملية أو ترجمة لسياسات محدّدة (يعتبر جيجك أن هذا التيار، في جوهره، ليس يسارياً ولا شيوعياً، بل يعقوبيّ يستكمل التراث المتطرّف في الثورة الفرنسية وأهدافه الرومانسية). التيّار الثاني «أنغلوساكسوني» و»ما بعد حداثي»، يجد تعبيره الفكري في الكثير من أدبيات «الدراسات الثقافية» في الأكاديميا الأميركية المعاصرة، وهو، بحسب جيجك، يرتكز على «الصراعات الهوياتية المزعومة للتعددية الثقافية ما بعد الحداثية: حقوق المثليين، مطالب الأقليات الاثنية، سياسات التسامح، الحركات المعادية للنظام الأبوي، الخ…». هذه المطالب، في رأيه، هي «مشاكل الطبقة الوسطى العليا في اميركا… وهم يريدون أن نقبل بها كأفقٍ لالتزامنا السياسي». على الرغم من أن التيارين ــــ الراديكالي الفرنسي والثقافوي الأميركي ـــــ يبدوان، من الخارج، على تضاد، الا أن جيجك يصرّ على انهما يتشابهان بمعنى انه، لدى المعسكرين، «يختفي الاقتصاد باعتباره الميدان الرئيسي للصراع». ثم يستنتج: «أنا مقتنعٌ أكثر فأكثر بأن هذه القضايا هي ظواهر خاصة بالطبقة الوسطى العليا، ولا يجب تبنيها كأفق للنضال بالنسبة الى اليسار… أنا لست معادياً للتعددية الثقافية بذاتها، ما أعارضه هو فكرة أنها العنوان الأساسي للنضال اليوم». كمثالٍ على الطبيعة النخبوية، محدودة الأثر، لهذه السياسات، يمكن استخدام حالةٍ معروفة، هي «الخطاب الصحيح سياسياً» في اميركا، الذي يحثّ على استخدام تعبيرٍ معين للإشارة الى المثليين، وآخر «مسموح» لتسمية السود، وطريقة معينة للحديث عن الضحايا، الخ… خلف هذا الاصرار فكرةٌ عن الطبيعة «اللغوية» للعنصرية والذكورية وغيرها من ظواهر عدم التسامح. العنصرية «المعاشة» اذاً ــــ وهذه صورة روج لها الاعلام والثقافة الشعبية ــــ هي في أن يستعمل الأبيض تعبيراً تحقيرياً مع الأسود، وتفكيك تراث العنصرية يكون في أن يناديه بـ «أفريقي اميركي» بدلاً من «زنجي». المشكلة هي أنّ هذا الخطاب (بغض النظر عن صوابيته وفعاليته) لا تستعمله الا الطبقة الوسطى البيضاء حصراً، للكلام عن السود بين بعضها البعض أو في المجال العام. السود، مثلاً، لا يستخدمون هذه اللغة حين يشيرون الى أنفسهم، والطبقة العاملة البيضاء، ايضاً، تعتبر أن هذه التعابير هي للساسة والتلفزيون. هنا ايضاً مدخلٌ لفهم الناشط العربي ــــ «ليبرالياً» كان أم «يسارياً» ــــ الذي يريد نقل مفاهيم وخطابات كهذه الى حقلنا السياسي، مستنداً الى الغرب ومرجعيته. ولكن ما يعتبره «غرباً» ــــ والمثال الذي يحاسب مجتمعه بمقاييسه ــــ هو، في الحقيقة، الطبقة الوسطى العليا في الغرب، أو الوسط الأكاديمي (وهو، اجتماعياً وطبقياً، «فقاعة» معزولة)؛ ويغفل أن سواد الناس في اميركا، والطبقة العاملة في بريطانيا واوروبا الغربية، هي، بالكامل، خارج اطار السياسات التي تقدّم باعتبارها تمثّل «الغرب» وقيمه ومجتمعه السياسي (كارل ماركس كان يحلم بأن يحوّل البروليتاريا الى «ارستقراطية» جديدة، تهتم بالكتب والفن ولديها وقت فراغٍ ولا تكترث للمال وجمعه، والغرباوي العربي اليوم يريد، عن قصدٍ أو غير قصد، أن يأخذ الطبقة الثرية في الغرب مثالاً، ويبني على أساسها مجتمعه ــــ وهو هدف جميل، ولكنه لن يحصل). مؤخراً، أجرى ممثلون من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوناني مقابلة مطوّلة مع مجلّة «جاكوبين». الشيوعيون اليونانيون لديهم مشروع واضح وجذري: القطع مع الاتحاد الأوروبي والـ «ناتو» والتوقف عن دفع الديون، بناء اقتصادٍ وطني يبدأ بالاهتمام بالزراعة واستثمار المهارات اليونانية، تأميم المؤسسات الوطنية الكبرى، اعطاء الأولوية للإنتاج والتوظيف وتغيير نمط الاستهلاك… اذا ما ترجمنا هذه النظرة الى الإطار اللبناني، فهي توازي برنامجاً يدعو للكفّ عن دفع الديون، وتحويل هذه المليارات الخمسة من الدولارات، التي تجمعها الدولة من الشعب سنوياً، الى انفاق اجتماعي وتنموي؛ وتقرير راتبٍ ــــ 400 دولار مثلاً ــــ لكلّ عاطلٍ عن العمل أو معيلٍ لأسرة كبيرة بدخلٍ متواضع (هكذا اجراء، يقي فقراء المجتمع اللبناني من خطر الجوع، يكلّف أقلّ من الدعم السنوي للكهرباء)؛ ونمطٍ تنموي يدعم الريف والزراعة أوّلاً، وصناعاتٍ مرتبطة بها؛ والتشريع الفوري لزراعة الحشيشة الخ… هوغو تشافيز فعل ما هو أقلّ من ذلك لمواطنيه الفقراء، وهي فئات مستعدّة الى اليوم للقتال، بعد سنين من وفاته، دفاعاً عن ذكراه ومكتسبات عهده. ولكن كلّ شعارات «اليسار الليبرالي» ومطالبه لن تجعل المواطن يشعر بأن هذه «الدولة» تنحاز اليه، وفيها ما يستحق الدفاع عنه (هناك قاعدة قديمة بأن أحداً لم «يستشهد»، على مرّ التاريخ، من أجل قضية ليبرالية). قولوا ما شئتم عن الشيوعيين اليونانيين، انّهم خشبيون ومتطرّفون و»دقّة قديمة»، ولكنهم يجمعون في الانتخابات، ببرنامجهم «الخيالي» هذا، ما يقارب الستة في المئة من التصويت الشعبي ولديهم 15 نائباً في البرلمان، وهو أكثر مما حقّقه اليسار اللبناني على مدى تاريخه.