غسان ديبة - الاخبار
«نحن نعيش في مجتمع يزداد لاديموقراطية حيث تتحكم به قلّة من الأفراد من الذين يملكون أموالاً طائلة»برني ساندرز
بعدما وصلت شعبية الحزب الاشتراكي الأميركي الى مداها الأقصى في العقدين الأولين من القرن العشرين، وبعد انتعاش اليسار في فترة الكساد العظيم التي امتدت الى الثلاثينيات ومشاركة الحزب التقدمي في انتخابات 1948، تلاشى دور اليسار في السياسة الأميركية، وعاشت الحركة التقدمية في الولايات المتحدة الأميركية عقوداً عدة في كنف الحزب الديموقراطي، من دون أن يكون لها كيان فاعل مستقل.
أما اليوم، بعد الأزمة الاقتصادية التي بدأت في 2008، والتي أصبحت تعرف في الولايات المتحدة بالركود العظيم، عادت الروح الى الحركة التقدمية عبر ما عرف بحركة الاحتلال التي رفعت شعار تمثيل الـ 99% من الشعب الأميركي ضد الأقلية الصغيرة التي تمثل الـ 1% والتي تسيطر على جزء كبير من الدخل والثروة، والتي بسيطرتها هذه لا تتحكم فقط بالاقتصاد وثماره، مانعة تطور الطبقات العاملة والوسطى، بل تتحكم بالمفاصل الأساسية للسلطة السياسية، كما أوضح الاقتصادي الأميركي جوزف ستيغليتز في كتابه «كلفة اللامساواة»، حيث أصبحت السلطة السياسية مكونة من الـ 1% وبواسطة الـ 1% ومن أجل الـ 1%.حرّكت حركة الاحتلال الشارع الأميركي في أكثر من ولاية وانتشرت على الصعيد الوطني (وهو التحدي الأساسي لأي حركة بديلة من ثنائية الحزبين الجمهوري والديموقراطي)، إلا أنها عادت وخمدت بسبب انسداد الأفق التغييري أمامها والبدء بالتحسن الاقتصادي الذي نجم عن السياسات الكينزية للدولة وللاحتياطي الفدرالي. ولكن فجأة، وتزامناً مع بدء العملية الانتخابية للرئاسة الأميركية التي ستحصل في 2016، برزت حركتان سياسيتان تعيدان لليسار الأميركي التقدمي الحيوية السياسية، بل أكثر من ذلك المشاركة بفعالية في هذه الانتخابات.
برزت حركتان سياسيتان تعيدان لليسار الأميركي التقدمي الحيوية السياسيةالحركة الأولى أعلن عنها في أبريل الماضي واسمها «شعبوية 2015: بناء حركة من أجل الشعب والكوكب»، والتي تشكلت من عدة جمعيات أهلية في سابقة فريدة من نوعها وممتازة، وربما غير متوقعة لتحوّل عملاً أهلياً الى فعل سياسي على المستوى الوطني. ولهذه الحركة طعم ورائحة حركتي سيريزا في اليونان وبوديموس في إسبانيا. هذه الحركة أصدرت بيان تشكلها في ما يعتبر بمثابة مانيفستو من 12 عنواناً يتناول مواضيع اقتصادية ــ اجتماعية، محاولة نقل الوعي الأميركي الوطني المستجد من الدوائر الضيقة مثل تأييد الحقوق المدنية وإنزال العلم الكونفدرالي الى الدائرة الواسعة للحقوق الاقتصادية لمجتمع بدأ يفقد شيئاً فشيئاً ما عرف بالحلم الأميركي، ولم تعد الحلول المطروحة من الثنائي الجمهوري ــ الديموقراطي تتناسب مع هذا الانحدار، الذي بدأ منذ 30 عاماً وتسارع بعد الأزمة في 2008. من المواضيع التي تطرحها هذه الحركة: زيادة الأجور، التغطية الصحية ووضع حد لسيطرة الرأسمال الكبير على السياسة.أما الحركة الثانية فهي ترشح برني ساندرز للرئاسة الأميركية عن الحزب الديموقراطي، وهو عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرمونت، والوحيد في كل الكونغرس الأميركي الذي يعلن أنه اشتراكي. يقول ساندرز «بيل كلينتون ديموقراطي معتدل. بينما أنا ديموقراطي اشتراكي». ومن مواقفه التي تخيف الطبقة الحاكمة قوله «في الثلاثين سنة الماضية حصلت إعادة توزيع هائلة ــ نحن نتكلم على عدة تريليونات من الدولارات تم تحويلها من الطبقة الوسطى الى طبقة الـ 0.1% ــ وآن الأوان لإعادة توزيع هذه الأموال من هذه الطبقة الى العائلات العاملة في هذا البلد». إن هذا القول يعني أن ساندرز يعتقد أن الإصلاحات الطفيفة هنا وهناك لن تفي بالغرض، بل هناك حاجة لسياسات راديكالية من أجل تحقيق إعادة التوزيع هذه، وعلى رأسها رفع نسب الضرائب على الأرباح والمداخيل العالية والثروة بشكل كبير. إن اشتراكية ساندرز تبدو حتى الآن أمراً يجذب الأميركيين ولا ينفرهم، وهذا إنجاز كبير في بلد شنت فيه على مدى التاريخ، وخصوصاً أيام الحرب الباردة، أشرس الحملات ضد فكرة الاشتراكية وليس الشيوعية السوفياتية فقط. ففي آخر استطلاعات الرأي، بدا ساندرز يوازي قوة هيلاري كلينتون في مواجهة الجمهوريين في عدة ولايات حساسة.على الرغم من ذلك، يقول البعض إن تأييد ساندرز سيؤدي حتماً الى فوز المرشح الجمهوري، وبالتالي إن الخيار الوحيد أمام اليسار ويسار الحزب الديموقراطي أن يؤيدا ترشيح هيلاري كلينتون، التي مثلت قبل عهد بيل كلينتون وفي بدايته طموح هذا اليسار الذي سرعان ما بددته خلال الولاية الثانية لزوجها وخلال وجودها في مجلس الشيوخ ووزارة الخارجية الأميركية، والمثال الأبرز على ذلك كان تصويتها لصالح الحرب على العراق. تحاول كلينتون استمالة يسار الحزب عبر الإيحاء بالابتعاد عن «وول ستريت» وطرحها أخيراً فكرة مشاركة الموظفين في ربح الشركات واضطرارها في وجه الطروحات اليسارية الى تسويق فكرة طرح مشروع لزيادة الضريبة على الأرباح الرأسمالية على الاستثمارات القصيرة الأمد من 20% الى حوالى 40%. هذه الطروحات على أهميتها ليست إلا ذراً للرماد في العيون. فبروز اليمين الجمهوري على الساحة السياسية الوطنية من خلال حزب الشاي في السنوات الماضية ومن خلال دونالد ترامب الآن يجب أن يحفز اليسار على الإبقاء على زخمه الحالي وعدم الخضوع للوحدة الزائفة لأن الحلم الأميركي لن يبقى أو يستعاد إلا بحركة اشتراكية ديموقراطية تنتزع الولايات المتحدة ونظامها الديموقراطي من براثن أوليغارشية مالية وميروقراطية وتعيدهما وطناً ونظاماً من الشعب وبواسطة الشعب ومن أجل الشعب.