غسان ديبة - الاخبار
«من الغد سنصنع طريقاً جديداً للشعوب الأوروبية» الكسس تسيبراس
قرار رئيس الوزراء اليوناني بالذهاب الى الاستفتاء يوم الاحد الماضي حول الشروط التي وضعتها الترويكا المتحكمة في الاقتصاد اليوناني، لم يكن قراراً وطنياً فقط يلجأ الى حكم الشعب في مسألة مصيرية، بل عملية سياسية كشفت عن الوجه الديكتاتوري للانظمة الاوروبية في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية منذ الازمة في 2010. واليونان كانت الضحية الاكبر لهذه السياسات؛ فمنذ ذلك الوقت خضعت اليونان للتقشف، أي خفض النفقات الحكومية وخفض الاجور وزيادة الضرائب وتغيير أنظمة الضمان الاجتماعي، وخصوصاً أنظمة التقاعد.
ففي حالة اليونان، كانت أنظمة التقاعد المسألة الاساسية في الخلاف بينها وبين الترويكا. الأخيرة أرادت خفض معاشات التقاعد وزيادة سن التقاعد في سياسة أفقرت المتقاعدين وزادت من بؤسهم. والمفارقة أن صندوق النقد الدولي (أحد أطراف الترويكا) لديه أكثر الانظمة سخاءً لتقاعد موظفيه ذوي الاجور المرتفعة أصلاً، وهو يضع نصب عينيه بشراسة معاشات التقاعد اليونانية، وأصرّ على إلغاء العلاوات للمتقاعدين الذين يحصلون اليوم مثلاً على 500 يورو وسيخسرون 200 يورو، في إطار أكثر السياسات التي تكشف عن الحقد الطبقي لهذه المؤسسة العالمية التي حادت عن الاهداف المنشأة من أجلها في 1944. إن فرض التقشف وخفص الاجور ومعاشات التقاعد و»الاصلاحات» في ظل اليورو، التي لا يمكن للحكومة اليونانية أن تخفض من قيمته (كما كانت تستطيع مع الدراخما)، كانت السياسة المتبعة من أجل خفض التكلفة وزيادة التنافسية للسلع اليونانية ودفع الديون، ولكن هذه السياسة لم تؤدّ إلا الى المزيد من الخراب الاقتصادي، لأنها دفعت البلاد الى المزيد من الركود والبطالة التي تبلغ الآن 26% وتصل الى 60% بين الشباب! وقد حذر جون ماينارد كينز منذ زمن من خطورة هذه السياسات. إضافة الى التقشف، ترزح اليونان تحت دين كبير، وليس هناك في الافق إمكان خفض وطأته المرتفعة لعقود قادمة، خصوصاً إذا استمرت التجربة الفاشلة المفروضة. إذ على اليونانيبن أن يتحملوا كل هذا من أجل لا شيء. وعلى الرغم من ورقة داخلية صدرت عن صندوق النقد الدولي دعت الى إعفاء اليونان من 50 مليار دولار من دينها، إلا ان كريستين لاغارد، مديرة الصندوق، كانت في اليوم الذي نشر فيه هذا التقرير تطالب اليونان بأن تدفع كل مستحقاتها للصندوق البالغة 21.1 مليار دولار، علماً بأن التقرير المذكور يفترض نمواً 1.5% وفائضاً في الميزانية يصل الى 3.5% من الناتج، وما هذا إلا حلم آخر من أحلام النيوليبرالية ودعاة التقشف، إذ إن هكذا شدّ أحزمة في حالة اليونان سيؤدي الى تفاقم الركود الذي بات عميقاً فيها أصلاً؛ فقد خسرت اليونان منذ 2010 حوالى 25% من الناتج، وهي خسارة موازية للخسارة التي حصلت للولايات المتحدة والمانيا، وهما البلدان اللذان شهدا أسوأ الازمات خلال الكساد العظيم في 1929. كذلك فإن التقرير يلقي باللائمة على حكومة سيريزا في تفاقم الازمة، ولا يزال يصرّ على إخضاع اليونان للتقشف.
إن قرار المصرف المركزي الاوروبي عدم زيادة السيولة المتاحة للمصارف اليونانية، اضطر الحكومة اليونانية الى إقفال المصارف، وهذا كان مقصوداً لإخافة الشعب اليوناني وإذلاله أمام قوة المال، وهو بمثابة «إرهاب» كما قال وزير المالية اليوناني. أرادوا لليونانيين أن يقولوا «نعم»، وهي «نعم» كانت ستكون لمزيد من المعاناة والفقر والبطالة والظلم. إن النظام الاوروبي لم يرد أن يسمع رغبة الشعب اليوناني الحقيقية، ليس لأنه يختلف حول بضع نسب مئوية من هنا وهناك، لأن في مقدور الاوروبيين أن يلغوا أكثر من نصف الديون وتحويل الباقي الى سندات طويلة الامد أو أزلية من دون حاجة اليونان الى دفع أصل الدين، فهم لا يريدون ذلك لأنهم يخافون ليس من العدوى المالية بعد أن اتخذوا إجراءات لحماية الانظمة المالية الاوروبية، بل يخافون من العدوى السياسية التي ستهز أوروبا. الكثيرون يسألون اليوم: ماذا سيحصل؟ إن الطابة هي الآن في ملعب الترويكا، وقد تتراجع سياسياً أمام اليونان، ولكن الطريق الامثل أمام اليونان هو بالخروج من منطقة اليورو وتأميم المصارف كما فعلت أيسلندا والعودة الى الدراخما. فكما قال الان بلايندر، نائب حاكم الاحتياطي الفدرالي الاميركي: «لو كان لليونان عملة وطنية في صيف 2010 لكان انخفض سعر الدراخما... ولكان من المرجح أن ينتهي الركود في ذلك الوقت». كل هذا يعني الخروج كلياً من تحت وصاية الترويكا وخطط الانقاذ المالي مهما تنوعت أشكالها وشروطها. هذا سيحدث صدمة للنظام الاوروبي لتستفيق شعوبه من السحر الاسود للفكر الاقتصادي اليميني التقشفي وسياسات المصرف المركزي الاوروبي التي تخنقهم. قد لا تكون اليونان بحجمها الاقتصادي قوية كفاية لكسر هذا النظام، ولكنها ستهزّه على أمل أن تتدحرج كرة الثلج بدءاً من إسبانيا الى دول أخرى، خصوصاً في الجنوب الاوروبي، لتشكل أوروبا جديدة، أوروبا الديمقراطية وعصر التنوير والفكر العالمي والحرب ضد الفاشية. إن اليونان تعطي الشعوب الاوروبية الفرصة للعودة إلى الديمقراطية في تقرير مصيرها؛ فالبلد الذي أعطى العالم الديمقراطية الاثينية يعطي اليوم عالمنا البارد والكئيب نعمة التخلص من ديكتاتورية الرأسمال المالي والمصارف الكبرى والفكر الاقتصادي المتخلف، ليبزغ شمس الجمهوريات ويثبت كما قال السياسي والنائب العمالي البريطاني الراحل توني بن «ان الديمقراطية هي أكثر الافكار راديكالية وثورية»، وصولاً الى ما أراده ماركس أن تربح الطبقة العاملة حول العالم «معركة الديمقراطية».