عمر ديب - الاخبار
يحتدم النقاش والبحث في أزمة الديون اليونانية وطبيعة الحلول المطروحة لها من قبل الاتحاد الأوروبي ومن قبل الحكومة اليونانية الحالية، وكذلك من قبل المعترضين عليهما معاً، خاصة مع اتجاه اليونانيين للاستفتاء على حزمة الإصلاحات الأوروبية. في هذا الإطار لا بد لنا خلال بحث هذه الأزمة أن نعود إلى مسألة دور ووظيفة الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو في خريطة السياسة والاقتصاد العالمي، وكذلك بحث مسألة الحلول السيادية وإمكانية السير بها من داخل المؤسسات الأوروبية أو من خارجها.
اكتمل تأسيس الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي عام 1993، علماً بأن جذوره التاريخية تعود إلى عام 1951 حيث تشكلت نواته الأساسية من 6 دول هي: فرنسا، ألمانيا الغربية، هولندا، بلجيكا، لوكسمبورغ وإيطاليا التي شكلت آنذاك «المنظمة الأوروبية للحديد والفحم» كأول جسم اقتصادي أوروبي للتعاون وفتح الأسواق، ثم تلته «المجموعة الاقتصادية الاوروبية» عام 1957، واحتاج الأمر إلى الكثير من الاتفاقيات والوقت للوصول إلى الشكل النهائي عام 1993. وإذا ما نظرنا ملياً إلى هذه الدول – النواة التي أسّست الاتحاد الموسع لاحقاً، نرى أنها تتشكل فعلياً من تحالف الدول الثلاثة الأقوى في أوروبا (ألمانيا – إيطاليا – فرنسا) و3 دول تدور في فلكها، وكانت الوجهة الأولى في عملية التوسع هي باتجاه دول أوروبا الغربية الأخرى، لإحكام السيطرة الاقتصادية على هذا الجزء من أوروبا، فتوسعت باتجاه الدانمارك وإسبانيا والبرتغال واليونان وقبرص، بينما وقفت بريطانيا وحلفاؤها ضد هذا المشروع في البداية بسبب ارتباطها الأوثق بالفلك الأميركي، ثم ما لبثت أن انضمت إلى المجموعة الأوروبية في منتصف السبعينيات.
ما يراهن عليه تسيبراس الآن هو حفظ رأسه مع الأوروبيين ويضم الاتحاد الأوروبي اليوم بعد توسعه شرقاً 27 دولة عضوة. أما منطقة اليورو، التي أدخلت العملة الأوروبية المشتركة مكان العملات الوطنية، فتأسست عام 1999 وتوسعت حتى باتت تضم اليوم 19 دولة تعتمد اليورو عملةً لها. وينبغي التمييز أن الاتحاد الاوروبي ومنطقة اليورو هما شيئان مختلفان، إذ إن عدة دول أعضاء في الاتحاد ليست ضمن منطقة اليورو، منها هنغاريا وتشيكيا وبريطانيا، وغيرها. وإذا نظرنا ملياً إلى تاريخ التأسيس الفعلي في اتفاقية «ماستريخت» والتوسع الكبير الذي جرى في بنية الاتحاد الأوروبي، نرى أنه حدث في عام 1993 وما بعد، أي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتساقط دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلكه. وبالتالي كانت وظيفة هذا التوسع هي الدخول إلى أسواق هذه الدول والسيطرة الاقتصادية عليها لإحكام القبضة على القارة الأوروبية وعزل روسيا. وكانت المستفيدة الأكبر في كل هذه المرحلة هي ألمانيا، لكونها الدولة الرأسمالية الأقوى في أوروبا والتي سيطرت شركاتها ومصانعها ومصارفها على الحصة الأكبر في السوق مع دور أقل لفرنسا وإيطاليا وبريطانيا ودور هامشي لكل من إسبانيا وهولندا، فيما ظلت الدول الأخرى مهمشة في هذا الاتحاد. فقد أصبحت المؤسسات الكبرى في هذه الدول، وتحديداً الألمانية والفرنسية والإيطالية ذات امتداد متشعب في كافة دول الاتحاد، وذلك على حساب المؤسسات الوطنية فيه، ومنها على سبيل المثال المصارف وشركات الاتصالات الخلوية وشركات البناء والنقل والفنادق. وتفرض العضوية في الاتحاد الأوروبي فتح الحدود أمام انتقال السلع والأفراد ورؤوس الأموال دون أي عوائق بين الدول الأعضاء، وهو ما أدى عملياً إلى غزو منتجات الدول المتقدمة أسواق الدول الأفقر وتدمير صناعتها وزراعاتها، وهذا ما ظهر جلياً في دول زراعية مثل البرتغال التي تشهد تحركات اعتراضية واسعة نتيجة غزو المنتجات الزراعية الفرنسية والإسبانية أسواقها وتقهقر الإنتاج المحلي تحت ضغط المنافسة. وكانت الاستفادة المباشرة الوحيدة لهذه الدول هي فتح باب التنقل والهجرة أمام مواطنيها إلى الدول الأغنى، فهاجر فقراؤها وطبقتها الوسطى وتحولوا إلى عمال وأجراء وأحياناً متسولين في الدول الأغنى، كذلك استفاد الطلاب من انفتاح الجامعات الأوروبية أمامهم. أما منطقة اليورو، فهي أكثر تطلباً وأكثر سطوةً على الدول الأعضاء فيها، إذ إضافةً إلى كل الشروط السابقة، فهي تفرض عملة موحدة وسياسة نقدية موحدة وإشرافاً مركزياً على سياستها المالية من قبل المصرف المركزي الأوروبي الموجود في ألمانيا وترأسه فرنسا، فلا تملك الدول الأعضاء القدرة على اتخاذ قرارت مالية مهمة، حتى لو كانت ذات طابع سيادي ومصيري مثلما يحصل في اليونان الآن تحت طائلة الطرد من منطقة اليورو. إذ إن أموراً مثل أسعار الفوائد أو طباعة العملة أو خفض قيمتها أو دعم المنتجين المحليين أو اعتماد سياسات ضريبية مختلفة وتحديداً الضرائب على رؤوس الأموال، وهي الوسائل التي قد تلجأ إليها الدول لاجتراح بعض الحلول المالية، كلها أمور ممنوعة على الدول الأعضاء لأنها أمور مقررة سلفاً في المصرف المركزي الأوروبي وفي دوائر القرار السياسي في بروكسل. بالتالي، إن مؤسسة الاتحاد الأوروبي ومؤسسة منطقة اليورو والمصرف المركزي الأوروبي هي من ضمن المؤسسات الرأسمالية الدولية والإقليمية للسيطرة والتوسع تحت غطاء الشعارات البراقة كالتكامل والتعاون، وهي تنطلق في برنامجها ووصفاتها من المنطق الليبرالي السائد عند الطبقات الحاكمة في الدول الأوروبية الكبرى. وهي بذلك لا تختلف كثيراً عن الدور الذي تقوم به هيئات اقتصادية ومالية أخرى مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وفي ما يخص الموضوع اليوناني تحديداً وحكومة «سيريزا» والمسائل المطروحة أمامها، فلا بد من فهم متطلبات العضوية في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو التي تنتمي إليهما اليونان حتى نفهم مدى عمق الأزمة وضيق الخيارات المتاحة أمام اليونانيين. وكنا قد أشرنا في مقالة سابقة هنا في «الأخبار» إلى التحديات المطروحة على سيريزا، والنقد الموجه إليها من قوى اليسار الأخرى مثل الحزب الشيوعي اليوناني لناحية تبنيها خطاباً يسارياً ديمقراطياً يحاول القول، منطلقاً من الوهم السائد عند الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، إنّ بناء «أوروبا أخرى عادلة» من ضمن آليات الاتحاد الأوروبي هو الخيار المطروح الآن. كذلك قامت هذه الحكومة بالعديد من الخطوات التي لا يمكن المرور عنها بالنسبة إلى حزب يصنف نفسه في خانة اليسار ويصنفه خصومه في خانة التطرف. وأهم هذه الخطوات زيارة رئيس الحكومة تسيبراس للولايات المتحدة وطلب المساعدة من الرئيس الأميركي، معتبراً أن الديمقراطيين بقيادة أوباما أصدقاء لسيريزا واليونان، وثانيتها زيارة وزير الدفاع في الحكومة الجديدة لقواعد «الناتو» في اليونان وتأكيده انتماء اليونان إلى الحلف الذي يشكل الأداة الأساسية للحروب العدوانية كخيار أساسي لبلاده. هذه المؤشرات ترافقت مع قفزات إلى الجانب الآخر من الاصطفاف، إذ زار تسيبراس روسيا والرئيس بوتين، والتقى مسؤولين صينيين طالباً المساعدة في الأزمة. وهذا ما يشير إلى مقدار عالٍ من الانتهازية السياسية عند سيريزا، وهذه السمة من سمات الاشتراكيين الديمقراطيين في أوروبا في العقود الأخيرة. يريد تسيبراس أن يفعل كل شيء إلا وضع الإصبع على الجرح ووضع الأمور في نصابها الصحيح. يريد البقاء في اليورو ولا يريد تنفيذ الإملاءات الاوروبية، يريد الشيء ونقيضه، وهذا لا يعدو كونه مراوغة سياسية مفرطة، إذ يعلم العارفون أن البقاء في اليورو غير ممكن دون تنفيذ السياسات. يريد تسيبراس ان يراوغ، فهرب إلى استفتاء الناس حول قبولهم بالزيادات الضريبية كي يحسن شروط بقائه في اليورو ويتجنب قدراً قليلاً من الإملاءات الألمانية وكي يخرج بمظهر الزعيم الشعبوي الذي سأل الناس رأيهم في الضرائب. لكن في النهاية، لو أراد سيريزا البقاء في اليورو فستنفذ اليونان الشروط الاوروبية بطريقة أو بأخرى رغم كل المناورات. كذلك، لا ينبغي إغفال ان كل المفاوضات الدائرة اليوم ليست حول تخفيف الديون أو إلغائها، ولا حتى حول خفض فوائد القروض، بل تقتصر على إعادة جدولة الديون على فترات زمنية أطول عبر إعطاء اليونان قروضاً فورية لدفع القروض المستحقة ومن ثم استيفاء هذه الأموال بعد بضع سنوات، أي أنها تقترض لإيفاء قروض بفوائد عادية. هذه هي كل المسألة. ليست خلافاً على دور أوروبا وسياستها وليست خلافاً إيديولوجياً كما يحاول الألمان التهويل. تسيبراس يريد قروضاً دون أن يفرض الكثير من الضرائب على اليونانيين كي لا يخسر شعبيته، وأوروبا تشترط رفع الضرائب قبل إعطاء القروض لضمان استيفاء أموالها. وتشير كل المعطيات الأخيرة إلى أن سيريزا على استعداد للسير بمعظم الشروط المطلوبة مع رفض القليل منها حفظاً لماء الوجه. بالمناسبة، كل القروض التي ستأخذها اليونان في الحالتين، لن يصل منها شيء إلى الشعب اليوناني، بل ستستعمل لدفع قروض سابقة لصندوق النقد الدولي والمصرف الأوروبي والمصارف الألمانية والفرنسية، أي إن هذه الأموال ذاهبة مباشرة إلى المقرضين أنفسهم، وبالتالي لا تعدو كونها إعادة جدولة للديون الموجودة. كذلك، حتى إذا وصلت الأمور إلى طريق مسدود، ومضى سيريزا بتنفيذ ما وعد به لناحية عدم التزام الشروط المفروضة، فاليونان ستخرج من اليورو وليس من الاتحاد الأوروبي وهذا ما لم يطرحه سيريزا. أمام هذا الواقع الأسود، وأمام هذه السطوة الرأسمالية للمؤسسات الدولية والأوروبية، لو أرادت «سيريزا» أن تتصدى للعنجهية الألمانية فعلياً كما تقول، فالطرق واضحة ومختصرة: لا سيادة ولا قرار اقتصادياً مستقلاً داخل اليورو والاتحاد الأوروبي. مجرد البقاء داخله يعني الانصياع لسياسته. الطريق الأصوب والأسلم هو الخروج من هذه المؤسسة والعودة إلى القرار السيادي للدول الأعضاء. هناك، بعد استعادة العملة الوطنية، يمكن اتخاذ القرارات الاقتصادية التي تريدها الدول، عندها يمكن الحكومة فرض الضرائب كما تشاء والتعامل مع المصارف كما تشاء. يمكنها الدخول في تحالفات مع الروس أو الصينيين أو الأميركيين إن وجدت ذلك مناسباً أو مع غيرهم لو أرادت، لكن هذه الفسحة من الاستقلالية في السياسة المالية والاقتصادية معدومة كلياً داخل الاتحاد الأوروبي. المراوغات الأخرى التي تقوم بها سيريزا هي عواصف رملية سيجري خلفها إمرار ما يريده الأوروبيون، مع إظهار أن الشعب اليوناني حقق بعض ما يريد. ما يراهن عليه تسيبراس الآن هو حفظ رأسه مع الأوروبيين وإبقاء اليونان في اليورو من جهة وأمام شعبه الغاضب من جهة أخرى، وهذه المراهنة ليست سهلة على الإطلاق. كذلك كان من الغريب أن تحافظ اليونان على ميزانية عسكرية بقيمة 4 مليارات دولار في موازنتها السنوية الأخيرة دون أي خفض. وهذه الميزانية تساوي 2% من الناتج المحلي، أي إنها أكبر من مثيلاتها في ألمانيا وفرنسا. لم تشأ سيريزا إغضاب المؤسسة العسكرية، فحافظت على ميزانية هائلة كان يمكن توفير نصفها على الأقل مع حكومة أكثر جدية وجذرية. لطالما قيل إن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية هي «عجلة احتياطية للرأسمالية»، إذ عندما يفشل اليمين في تحقيق السياسات الاقتصادية في الأوضاع الصعبة أمام شعبه، من الجيد أن يكون لديك بديل يساري ديمقراطي يحقق السياسات نفسها (ولو مع قليل من التجميل) ضمن الخطة ب البديلة لإنقاذ المؤسسة الرأسمالية من أزمتها. * ناشط يساري ــ لبنان