غسان ديبة - الاخبار
«الخوف الجماعي يؤدي الى غريزة القطيع وينتج وحشية ضد الذين لا يعتبرون جزءاً منه» برتراند راسل
بعد انتفاضات الربيع العربي في 2011، تنادى البعض الى اعلان الأسف على عدم استفادة لبنان من الاضطرابات في بعض البلدان العربية، ربما متذكراً عن وعي (او بسبب وجود هذه القناعة في اللاوعي الجماعي اللبناني) ما حدث من هجرة للرأسمال العربي الى لبنان نتيجة الانقلابات العسكرية، التي أتت بأنظمة ذات توجهات اشتراكية سارت في دروب التأميم والتضييق على رأس المال، وبسبب الحروب العربية ـ الاسرائيلية الذي بقي لبنان خارجها، وأخيراً بسبب الاجواء السياسية العربية بعدم اليقين والتوتر في ظل محاور متحاربة، والتي وإن كان لبنان في فترة جزءاً من هذه المحاور الا ان حرب 1958 اخرجته منها.
إضافة الى هجرة الرأسمال، ترافقت الاضطرابات السياسية والعسكرية في القرن العشرين في محيط لبنان، دائماً، مع هجرات بشرية ضخمة اليه، كهجرة الارمن بعد الحرب العالمية الاولى وانهيار السلطنة العثمانية وهجرة الفلسطينيين في 1948 وبعد 1967. وبعكس هجرة راس المال الاجنبي المرحب به دائماً في لبنان كونه ساهم في جعل لبنان مركزاً مالياً في الشرق الأوسط فإن الهجرة البشرية دائماً شكلت ازمة للبنان من حيث التأثير الاقتصادي والديموغرافي الحقيقي في بعض الاحيان والمصطنع في أحيان أخرى. الهجرة الأرمنية مثلاً، أدت بسبب كون الاكثرية من الفقراء (الكثير افقر من خلال التهجير والاقتلاع) وتركز الهجرة في مدينة بيروت وبسبب الضائقة الاقتصادية إبان الانتداب، الى رد فعل سلبي من البعض، بسبب المنافسة على الوظائف وانخفاض الاجور الناجمين عن دخول أعداد لا باس بها الى سوق العمل آنذاك. إلا انه على المديين المتوسط والبعيد كان للهجرة الارمنية تأثير إيجابي في الاقتصاد اللبناني، بسبب عرض العمالة في قطاعات معينة كالإنشاء والصناعة، وتوفر عمالة ماهرة ومبادرين أرمن لخلق المؤسسات في قطاعات مثل صناعة السجاد والأحذية.
اما في حالة الفلسطينيين، كانت الاعداد البشرية والتمكن السياسي ثم العسكري للفلسطينيين (والمالي أيضاً من خارج اطار البورجوازية الفلسطينية التقليدية) أقوى في تأثيرها السلبي من التاثير الايجابي للراسمال الفلسطيني والعمالة الماهرة، اللذين ساهما أيضاً في جعل لبنان مركزاً مالياً ومركزاً سياحياً وتجارياً. واستطاعت القوى اليمينية ان تؤجج روح العداء ضد الفلسطينيين خدمة لمصالحها السياسية ومشاريعها المغامرة فأدخلت البلاد حرباً اهلية واجتياحات اسرائيلية لا يزال يعاني اللبنانيون والفلسطينيون من اثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يستعاد اليوم مع تدفق أعداد كبيرة للاجئين السوريين إبراز الجانب الاقتصادي السلبي للأزمة السورية لهذا اللجوء الجديد. واستعمل تقرير البنك الدولي الصادر في 2013 حول الكلفة في التجييش ضد هذا اللجوء. وتم التشديد على الارقام التي اعطيت حول الكلفة الافتراضية البالغة حوالى 7 مليارات دولار، والتي في اكثرها كانت حسابات محاسباتية وغير اقتصادية، اي على طريقة اضافة تكلفة استعمال البنى التحتية مثل الكهرباء واستعمال الطرقات والمدارس والنفايات وغيرها، من دون الاخذ بعين الاعتبار السعة الزائدة الموجودة في المدارس والتي تخفض الكلفة الفعلية او عدم الاستعمال الفعلي لهذه الخدمات بسبب نقص العرض كالكهرباء مثلاً. كما تم التركيز على فرضية ان البطالة سترتفع الى اكثر من 20% اي بزيادة 100% بالاضافة الى انضمام اكثر من 170000 الى صفوف الفقراء في استعمال غير دقيق للارقام، التي لا يمكن ان تكون صحيحة بناء على الحدس الاقتصادي البسيط. وبشكل عام يشوب هذا التقرير الكثير من العيوب المنهجية. والآن بعد حوالى السنتين على صدوره، لم يتم حساب تطابق الواقع الآن مع هذه التنبؤات او الافتراضات. فعلى الرغم من صحة بعض هذه السلبيات، الا ان الارقام مبالغ بها وتعتمد إما على حسابات غير اقتصادية، أو على نماذج اقتصادية مبنية في داخلها نتائجها، خصوصاً لناحية استبدال العمالة اللبنانية بالعمالة السورية، وتجدر الاشارة هنا إلى أن اكثرية اللاجئين هم من الاعمار التي لا تعمل ومن النساء الذين لا ينافسون في سوق العمل. الى ذلك، فإن بعض الجوانب الاقتصادية الإيجابية لم يتم أخذها بعين الاعتبار ولم يتم نقاشها بشكل جدي على المستوى العام. أولاً، تدفق اعداد لا بأس بها من البورجوازية والطبقة الوسطى السورية، وما لذلك من تاثير ايجابي في الطلب على السلع والخدمات. ثانياً، الإنفاق من قبل المؤسسات الدولية على اللاجئين، وبالتالي اصبح العديد من المناطق يعتمد على الإنفاق على الطعام والنقل والخدمات التعليمية مثل اجور المعلمين، وكل هذا الانفاق في اكثره على السلع المنتجة محلياً، ما يؤدي الى تاثير إيجابي في الاقتصاد. وفي دراسة لم تنشر بعد تم حساب المضاعف لهذا الانفاق وبلغ حوالى 1.3، وهو شبيه بالمضاعف في الدول الراسمالية المتقدمة. ثالثاً، ان ظاهرة اللجوء أدت الى تحول الإنفاق للعمالة السورية الى الداخل اللبناني، بعد ان ارتحل الكثير من العائلات الى لبنان، وبالتالي فإن ما كان يقال إن العمال السوريين لا ينفقون اجورهم في لبنان لم يعد صحيحاً بالكامل. رابعاً، ان تدمير الصناعة السورية ادى الى تراجع منافستها للسلع اللبنانية. خامساً، ان الكثير من المبادرين الراسماليين السوريين أنشأوا مؤسسات في لبنان في الكثير من القطاعات، وبعضها نقل وسائل عمل وتكنولوجيات حديثة في التصنيع، ولو كان هذا الاستثمار من غير السوريين لكان سمي «استثمار اجنبي مباشر» وصنف بالايجابي من ناحية تاثيره في ميزان المدفوعات وخلق الوظائف. مما لا شك فيه ان اللجوء السوري الى لبنان قضية معقدة ولا يقتصر تاثيره في النواحي الاقتصادية بل يتعداها الى الجوانب السياسية والاجتماعية والديموغرافية، ولكن استعمال الاقتصاد للتحريض وخلق مناخات من العداء ضد السوريين، لعبة خطرة، وقد استعملت في السابق إن كان في لبنان او في انحاء العالم، ولا تزال تُستغل من قبل القوى السياسية التي تستعمل التحريض على الاجانب أساساً في جذب المهمشين والفقراء والطبقة الوسطى الخائفة دوماً الى اجنداتها الفاشية، وهذا ما يجب النضال دائماً ضده.