شوكت اشتي- السفير
الاحتفال الأول الذي أقيم بمناسبة عيد العمال، في لبنان والمنطقة العربية، بشكل علني ومنظم، هو الاحتفال الذي أقامه «حزب الشعب اللبناني» في قاعة «سينما الكريستال» في بيروت العام 1925. وبرغم أن لهذا الاحتفال أهمية خاصة في تاريخ الحركة النقابية، فإن له وقعاً خاصاً بالنسبة لـ «الحزب الشيوعي اللبناني»، باعتباره كان نقلة نوعية في مسار تأسيس الحزب. غير ان الفضل في هذا العمل يعود الى النقابي - المناضل فؤاد الشمالي بالدرجة الأولى والاخيرة. قد يكون من الصعوبة تحديد «رقم» هذا الاحتفال الذي أقامه «حزب الشعب» في مسلسل الاحتفالات بعيد العمال. غير ان ما يمكن توضيحه، انه قد يكون الاحتفال الثالث في التراتبية الشكلية، لكنه الأهم في المضمون والأبعاد. اشار محمد دكروب في «جذور السنديانة الحمراء» إلى أن الاحتفالات بعيد العمال في بلادنا كانت عبارة عن مبادرات فردية وسرية وتقام في أماكن «نائية»، خوفاً من رقابة السلطات. وقد يكون أول احتفال على هذا المنوال جرى العام 1907 في محلة الروشة في بيروت، وفي مكان بعيد عن عيون الرقباء، وقد ضم مصطفى الغلاييني (بيروت) وفليكس فارس (صليما) وداود مجاعص (الشوير) وجرجي نقولا باز (بيروت) وخير الله خير الله (جران - البترون) الذي أصبح، بعد ثمانية عشر عاماً أحد خطباء مهرجان «سينما الكريستال» العام 1925. يشير فؤاد الشمالي في كتابه «أساس الحركة الشيوعية في البلاد السورية ـ اللبنانية» (كتابات مجهولة جمع فيها محمد كامل الخطيب بعضاً من كتابات الشمالي)، الى ان اللجنة المركزية لـ «حزب الشعب اللبناني»، الذي كان الشمالي سكرتيره العام، قررت في نيسان من العام 1925 الاحتفال بيوم أول ايار ـ يوم العمال الأممي. وتنفيذاً لهذا القرار قامت تظاهرات في الشوير والخنشارة وبتغرين، وقد تجمع بعض من هذا الحشد في بكفيا، حيث أقيم اجتماع كبير، ومن هناك توجه المحتفلون الى بيروت للمشاركة في احتفال «الكريستال». كما اقيمت تظاهرة في الشياح تنفيذاً لهذا القرار. أهمية احتفال بيروت ليس في كونه الأول كمهرجان شعبي وعلني فقط، بل لاختلافه شكلاً ومضموناً عن غيره من جهة، ولأبعاده السياسية والاجتماعية في مسار الحركة العمالية من جهة اخرى. فقد انتخب المحتفلون في بيروت عشرين شخصاً، وهؤلاء انتخبوا بدورهم سبعة أعضاء، لمقابلة حاكم لبنان (ليون كابلا) وتقديم عريضة بمطالب العمال. وهذا ما حصل ظهر اليوم ذاته. نشرت «جريدة الإنسانية» في عددها الأول يوم الجمعة في 15 أيار العام 1925 نداء «حزب الشعب اللبناني» الى العمال والفلاحين، والمطالب التي رفعتها «لجنة العمال» التي انتدبها مهرجان «الكريستال» الى السلطات الرسمية، وبينت ان الحكومة في حينه وعدت بأنها ستنظر في المطلب الأول في لائحة المطالب، المتعلقة بتحديد أوقات العمل 8 ساعات في اليوم. اما بقية المطالب (تحديد الحد الأدنى للأجور، نظام حماية للعمال، ضمانات للعمال الذين يصابون أثناء العمل، منع الشغل الليلي، إحياء مشاريع اقتصادية) فقد أيدتها الحكومة و «ستدعو فريقاً من العمال للاشتراك في سن قانون يحميهم». وتابعت الجريدة في العدد الثاني (الأحد 24 أيار 1925) في افتتاحيتها الرئيسية للكاتب يوسف ابراهيم يزبك، توضيح مبرر تحديد أوقات العمل وضرورته. فؤاد الشمالي (1894-1939) ابن بلدة السهيلة في كسروان، تلقى دروسه الابتدائية في بيسان بفلسطين. وبعد وفاة والده انتقل مع والدته الى مصر واستقرا بها. وبدأ العمل وهو في العاشرة من العمر. وقد انتسب الى الحركة النقابية في العام 1916. حيث تكونت لدى عمال التبغ والسجائر في مصر تقاليد نضالية عريقة، كما يشير جاك كولان. نذر الشمالي نفسه لقضايا العمال والفلاحين والتزم خطاً سياسياً كان أميناً له وأميناً عليه. ويعرف عن نفسه بأنه عامل منذ نعومة أظافره، تعرض في سبيل التزامه وانتمائه الطبقي الى الكثير من أنواع الضغط والإكراه والعنف والسجن والجوع والبطالة.. ويبدو ان كل هذه المعاناة كانت أرحم مما تعرض له من الحزب الذي أسسه («حزب الشعب اللبناني» الذي اصبح لاحقاً «الحزب الشيوعي»)، فقد تم تهميش دوره ومحاصرة حضوره ثم فُصل من الحزب، وعمدت قيادة الحزب في تلك المرحلة الى تشويه سمعته وصورته. لم يقتصر دور فؤاد الشمالي على هذا المستوى. بل هو من الرواد الأوائل، اذا لم يكن الأول، الذين اهتموا بجدية ومثابرة بتنظيم جهود العمال وحثهم على توحيد طاقاتهم وتشجيعهم على الانخراط في العمل النقابي كإطار تنظيمي لحماية حقوقهم والدفاع عنها. ويبدو ان هذا التوجه في العمل النقابي ترافق مع مجيء الشمالي الى لبنان العام 1923. فسواء كان قدومه الى لبنان نتيجة لتكليفه من قيادة «الحزب الشيوعي المصري» (كان الشمالي مساعد سكرتير الحزب العام) لتأسيس حزب شيوعي في لبنان، أم نتيجة لملاحقته من السلطات البريطانية بسبب نشاطاته السياسية والعمالية وميوله البولشيفية، فإن ما يمكن تأكيده ان استقراره في لبنان أحدث تحولاً نوعياً في مسار الحركة النقابية في لبنان، لدرجة يمكن القول معها إنه أرسى اللبنات الاساسية في العمل النقابي في الدولة الناشئة. لقد اكتسب قبل قدومه الى لبنان الكثير من الخبرات ومر بالعديد من التجارب واستند الى نظرية فكرية متينة، الأمر الذي جعله بحق مناضلاً مميزاً برغم صغر سنه. فقد كان عضواً في «الاتحاد العمالي العام» الذي تأسس في الاسكندرية سنة 1921، وعضواً في «الحزب الشيوعي المصري»، وواحداً من الذين حاولوا في الاسكندرية، تأسيس «الحزب الاشتراكي السوري اللبناني» في نيسان العام 1923. وعند وصوله الى لبنان، أسس في بلدة بكفيا العام 1924 «نقابة عمال التبغ» التي يمكن اعتبارها اول إطار نقابي يستند الى أسس تنظيمية واضحة وخلفية «ايديولوجية» وفكرية محددة. بل يمكن القول إنها اول نقابة مستقلة في لبنان. لم يقتصر دور فؤاد الشمالي على تركيز الاطار التنظيمي للعمل النقابي فقط. بل انه رسخ هذا التوجه من خلال التنظير للفكرة، والكتابة عنها. فقد أصدر العام 1929 كتاباً بعنوان «نقابات العمال» بيَّن فيه وضعية العمال، وكيفية تأسيس النقابات، وكتابة محاضر الاجتماعات، ومهمة السكرتير في النقابة، ومسار العمل التنظيمي، وغاية النقابات، وقانونها، وأهمية اتحاد النقابات العام ومسار قيامه، وضرورة انحسار كل مهنة بنقابة خاصة بها. وفي الإطار ذاته ولخدمة هذه التوجه، ساهم في العمل الصحافي. ووظف كتاباته لإثارة قضايا العمال وحشد طاقاتهم وحمل همومهم وحثهم على الانتظام في الأطر النقابية لتحقيق مطالبهم. من هنا أصدر جريدة «صوت العمال» الاسبوعية التي حصرت اهتمامها بالقضايا النقابية. وبعد توقفها (صدر منها اربعة أعداد)، اتفق مع سجيع الأسمر في 2 تشرين الثاني على ان يعهد اليه بتحرير جريدة «العمال». غير انها لم تستمر طويلا. أهمية فؤاد الشمالي تكمن في انه من أوائل، اذا لم نقل الأول، الذي أكد على اهمية العمل النقابي وضرورته كإطار منظم لنضال العمال، وأعطى للعمل النقابي في بلادنا، إطاره النظري ـ الفكري، وأكد على ضرورة الدعم «الحزبي» للنضال النقابي. إن مسار حياته النضالية لم يزل يجسد نموذجاً للمناضل المتفاني البعيد عن أي مكاسب ذاتية ومصالح خاصة وفئوية. وبالتالي لم تزل تجربته مع حزبه («حزب الشعب اللبناني») الذي اصبح يعرف باسم «الحزب الشيوعي اللبناني» مأساة تقض مضاجع المناضلين. بمعنى ان الاختلاف بالرأي في الإطار التنظيمي الواحد يتحول الى «خلافات» حادة وقاسية ومؤلمة، مما يترك آثاره السلبية على مسار العمل السياسي والنقابي والحزبي. فالآخر في الحزب (رأياً، شخصاً..) لم يزل مرذولاً ومطروداً ومشكوكاً في ولائه ومتهماً في انتمائه. وهذا ما حصل مع فؤاد الشمالي بعد ان أحكم خالد بكداش قبضته الحديدية وصنميته الفكرية على «الحزب الشيوعي»، فأدت الى طرده واتهامه وتبخيس حقه ومحاربته في لقمة عيشه. مات فؤاد الشمالي مريضاً، فقيراً مادياً، كما عاش حياته كلها، يقول البعض إنه لم يكن معه نفقة للعلاج، لكنه كان غنياً بإنجازاته وطموحاته وتفاؤله بغد مشرق وشعب سعيد. قد يكون ومن الضروري إعادة الاعتبار الى مثل هؤلاء الرموز في الحركة النقابية، كما السياسية، بعدما غدت هذه الحركة مطيعة للبعض وسلَّماً للبعض الآخر، وبعدما تصادرت قضايا العمال وغدت قضاياهم شعارات معلبة للمناسبات. فإلى أي مدى تحضر اليوم تجربة فؤاد الشمالي كنموذج في العمل النقابي ـ السياسي؟ وإلى أي مدى يمكن الاقتداء بتجربته لتجديد العمل النقابي وتحريره من قيوده المتمثلة في بعض الذين يدَّعون تمثيل العمال، وفي بعض الأحزاب المستقيلة من دورها والمتنكرة لقواعدها ومبرر وجودها، وفي بعض رموز السلطة الغائبة أو المغيبة عن هموم الناس وشؤونهم كافة؟