ورد كاسوحة- الاخبار
في المبدأ لا يوجد تناقض بين وصول حزبٍ ما إلى السلطة وقيامه بـ «مناورات» لتأجيل البتّ ببرنامجه الانتخابي ريثما تتغيّر موازين القوى لمصلحته، وهو بالضبط تعريف السياسة التي لا معنى لها من دون الاشتباك مع الواقع ومحاولة تعديل حيثيّاته. على هذا الأساس يمكن أن نفهم التحرّكات الدبلوماسية التي يقوم بها حالياً رئيس حزب «سيريزا» اليكسيس تسيبراس في نطاق دول الاتحاد الأوروبي، وجلّها إن لم يكن كلّها تستهدف تحسين شروط التفاوض على ديون اليونان التي وعد الحزب في برنامجه الانتخابي بجعلها متوائمة مع خطّة واضحة للنمو ودعم القطاعات الاقتصادية المنتجة.
في البرنامج توجد خريطة متكاملة ليس لشطب ديون البلاد فحسب بل ولإخراجها أيضاً من قاطرة التمويل بالإقراض التي تقودها ألمانيا إلى جانب أعضاء الترويكا الأوروبية (البنك المركزي الأوروبي، صندوق النقد الدولي، المفوضية الأوروبية)، وهذا المسعى ليس مستحيلاً كما يبدو، ولكنه يحتاج حتى يصبح ممكناً إلى سياسة «الخطوة خطوة» والتي يبدو أنّ حكومة تسيبراس الائتلافية قد بدأتها بالفعل.
حقيقة الوضع الحالي
إذا نظرنا إلى البرنامج الانتخابي الذي قدمه الحزب لجمهوره ووعد بتنفيذه حال وصوله إلى السلطة فسنجد أنه «يفتقر إلى الواقعية»، إذ ليس بين يديّ سيريزا الآن ما يمكّنه من خوض معركة بهذا الحجم مع الطبقة السياسية الحاكمة في اليونان وأوروبا عموماً، وجلّ ما يستطيع فعله حالياً بعد تشكيله الحكومة هو الانتهاء من مشكلة الديون والبدء على أساسها بتوسيع رقعة التحالف الاجتماعي الذي أوصله إلى السلطة. أصلاً برنامجه الانتخابي لا يتوجّه إلى شريحة واحدة من اليونانيين لا بل يضمن مصالح معظم الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسّطة، وباستثناء الأثرياء الذين سيتضرّرون حكماً من الإصلاحات التي ينادي بها فإنّ الجميع يبدو مستفيداً منه - أي البرنامج -، وبالتالي معنياً بإنفاذه، وعدم تركه يتآكل تحت ضغط المساومات السياسية والدبلوماسية.
هذا الخيار في يد تسيبراس حالياً، فهو الذي يستطيع إقناع القواعد التي انتخبته بناءً على برنامج معيّن بالانتظار قليلاً ريثما تنتهي مشكلة الديون، فإذا نجح في حلّها يصبح مطالباً بالمزيد وتنتقل اليونان بمعيّته إلى مرحلة أخرى من الإصلاحات وإذا فشل يكون على الأقلّ قد حاول إنقاذ البلاد بالأدوات المتوافرة له وفي ظروف هي الأسوأ على اليونان منذ عقود. هو لم يبالغ أساساً في تقدير فرص النجاح ورغم الوعود الكبيرة التي أطلقها إلا انه كان يعلم بصعوبة المجابهة مع الترويكا في ظلّ موازين القوى الحالية، إذ ليست ألمانيا وحدها من يتشدّد في موضوع الديون وإنما معظم القوى الأوروبية التي تتظاهر بدعم اليونان في حين أنها تخشى من تداعيات رفضه لسياسات التقشّف على اقتصاداتها. وفي مقدّمة هذه القوى تأتي الكيانات الاتحادية التي تمثّل أوروبا (المفوضية والبرلمان) وتفاوض نيابةً عن ألمانيا لإبقاء سياسات الإقراض كما هي، أي من دون تعديل يذكر، وبفوائد يجرى تمويلها من مدّخرات الفقراء والطبقة الوسطى المنهارة. هذه المؤسّسات لا يناسبها إلزام الأغنياء بالدفع عبر فرض الضرائب على أرباحهم الرأسمالية (وهذا البند يعتبر من البنود الأساسية في برنامج سيريزا الانتخابي)، فهي تتحدّث باسمهم ولا تسمح بإجراء تعديلات ولو بسيطة على مبدأ التراكم الذي يعمل لمصلحتهم ويضمن لهم هامشاً كبيراً للربح. الديون هي أداتهم للحفاظ على هذا الهامش، والمساس بها عن طريق التفاوض كما تريد الحكومة اليونانية يعني الإخلال بالتوازنات السياسية القائمة في أوروبا، والتي تقف على رأسها ألمانيا، صاحبة الاقتصاد الأقوى والمستفيد الأكبر من انهيار التوازانات الاجتماعية في دول جنوب القارّة.
الدور الألماني القذر
في ألمانيا حالياً يوجد عشرات الآلاف من اليونانيين (وكذا من اسبانيا والبرتغال) الذين فقدوا فرص عملهم بسبب سياسات التقشّف ولم يجدوا غير ألمانيا لكي يعملوا فيها، فهي الدولة الوحيدة في أوروبا التي تسمح باستيعاب العمالة المهاجرة الآتية من «بلدان الجنوب»، على اعتبار أنّ اقتصادها هو الأقدر على التشغيل والاستفادة من «الفائض» الذي يمثّله هؤلاء المفقرون. والحال أنها تفعل ذلك باستمرار مستفيدة من موقعها المهيمن على السياسة المالية في أوروبا، فعبر الإقراض المصحوب بفوائد مرتفعة تستطيع إجبار الدول المَدينة لها على الحدّ من سياسة التقديمات الاجتماعية والدعم الحكومي، وهذا طبعاً لا يضرّ بالأغنياء في اليونان أو سواها، وإنما يصيب الفقراء (ومعهم الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة) وحدهم، ويتركهم من دون تغطية اجتماعية كافية، وغالباً أيضاً ما يفقدهم وظائفهم وأعمالهم. هكذا، تصبح الهجرة هي الحلّ الوحيد بالنسبة إلى هذه الشرائح، وعند انتقال أفرادها للعمل في ألمانيا التي هي في الحقيقة الخيار الوحيد المتاح أمامهم يتلقّفهم أرباب العمل الألمان الذين ينفّذون بدورهم سياسة الحكومة الألمانية في تفريغ دول جنوب أوروبا من العمالة المنتجة وزجّها في السوق الألمانية التي أضحت تعاني من شحّ في العمالة المحلّية. هذه الخلفية هي التي تحدّد في الواقع سياسة ألمانيا الحاليّة تجاه اليونان ودول جنوب أوروبا عموماً، ورغم أنها لا تظهر في الإعلام كما يجب إلا أنّ الإصرار الألماني الوقح على معاندة الواقع والاستمرار في سياسة الإملاء على اليونان كما لو أنّ شيئاً لم يتغير يوضحان إلى أيّ مدى يستفيد الألمان من بقاء سيف الديون مسلطاً على هذه الدول. حالياً يدفع الألمان بسياسة المواجهة مع اليونان إلى أقصاها، ولا يسمحون للدول الأوروبية المستفيدة من صعود اليسار اليوناني (فرنسا وايطاليا خصوصاً) بالتحرّك خارج الهامش المتروك لها، ومن هنا نفهم تصريحات فرانسوا هولاند «المتحفّظة» أثناء لقائه بالكسيس تسيبراس قبل أيام. فهذا الرئيس الذي ينتمي إلى «يسار الوسط» ويعوّل - صورياً طبعاً - على الحدّ من سياسات التقشّف لم ينسَ بعد إبداء دعمه للحكومة الجديدة تذكير تسيبراس بالتزاماته تجاه الترويكا والتي يجب حسب قوله ألا تتعارض مع مساعيه الهادفة إلى إعادة التفاوض على شروط الإقراض. وهو تعبير يُفهم منه استعداد فرنسا للعب دور «الوسيط» بين الترويكا واليونان ولكن ضمن الشروط التي تضعها ألمانيا، وهذا يعيدنا إلى أساس المشكلة التي يعبّر عنها وجود الألمان كخصم وحكم (عبر أتباعها) في الآن نفسه.
جدوى الجولة الأوروبية لتسيبراس
في ضوء هذا الواقع لا يعود ممكناً توقّع الكثير من جولة تسيبراس ووزير ماليّته يانيس فاروفاكيس على الدول الأوروبية المعنية بمصير اليونان، إذ لا معنى لأيّ تفاوض على تحسين شروط الإقراض في ظلّ التعنت الألماني المصحوب بدعم الترويكا الأوروبية. والحال أنّ هذه الأخيرة هي التي هدّدت أكثر من سواها اليونان على لسان أكثر من مسؤول فيها، متوعّدة إياه بالإفلاس في حال لم تذعن حكومته الجديدة لما تسمّيه «بالاتفاقيات الموقّعة». وهو بالضبط ما سمعه تسيبراس من رئيس البرلمان الأوروبي جان كلود يونكر. فقد حذّره هذا الأخير من المّس «بالاتفاقيات الموقعة»، وقال في معرض تطرّقه للأمر أثناء مقابلة مع صحيفة «هاندلشبلات» الاقتصادية: «إذا غيّرت اليونان الاتفاقات من تلقاء نفسها فإنّ الطرف الآخر لن يكون ملزماً بعد الآن بالتمسك بها». ونقلت عنه الصحيفة قوله: «عندئذ لن تحصل اليونان على أيّ أموال أخرى، ولن تكون الدولة قادرة على تمويل نفسها». هذه التحذيرات لم تمنع رئيس البنك المركزي الأوروبي (وهو الضلع الأخرى من الترويكا) ماريو دراغي من إبداء ليونة في التفاوض مع الطرف اليوناني، وهو ما أقرّ به وزير المالية فاروفاكيس موضحاً بأنه بحث مع دراغي بشأن: «القيود والقواعد وآليات الضبط والعملية الإجرائية» التي يمنح بموجبها البنك المركزي الأوروبي مساعداته. وقد لمّح في هذا الخصوص إلى ميل رئيس المركزي الأوروبي إلى تجاوز القواعد الصارمة التي تنظّم دعمه للمصارف اليونانية. قد يستفيد تسيبراس بالطبع من هذه «التناقضات في المواقف» داخل الترويكا على أن يبقى حذراً في التعامل معها أثناء التفاوض، فهي ليست قائمة على خلافات جوهرية في الموقف من اليونان بقدر ما تعبّر عن سياسة العصا والجزرة التي تتبعها الترويكا بدفع مباشر من الألمان. فبعد لقاء وزير المالية اليوناني بنظرائه في بريطانيا وفرنسا انتقل إلى برلين للقاء نظيره الألماني وولفغانغ شويبل حيث جرت بينهما محادثات أفضت إلى نتيجة صفرية، ليخرج بعدها الوزيران إلى الإعلام معلَنين أنهما «اتفقا على عدم الاتفاق»، وهو تعبير أوردته وسائل الإعلام بحرفيّته نقلاً عن الوزير الألماني: «agreed to disagree». وهذا في الحقيقة لا يتناقض مع «الليونة» التي أبداها رئيس المصرف المركزي الأوروبي ماريو دراغي، بدليل إقدام المصرف بعد لقاء رئيسه بتسيبراس مباشرةً على تعليق العمل «بالإجراء الاستثنائي» الذي كان يتيح للمصارف اليونانية اقتراض الأموال منه بضمان سندات الدين الحكومية. في هذه الحالة لا تعود الاستراتيجية التفاوضية التي اتبعها تسيبراس ووزير ماليته مجدية كثيراً، فأنت إزاء طرف لا يبدو مستعداً للتنازل عن اشتراطاته، وإذا فعل فلكي يستدرجك إلى تنازلات تضعف موقفك التفاوضي ولا تسمح لك بالعودة إلى موقع القوّة الذي كنت فيه أثناء الانتخابات. ومن حسن الحظّ أن هذا الموقع لم يضعف بعد، إذ لا تزال القاعدة الشعبية العريضة التي تدعم «سيريزا» وائتلافها الحكومي مستعدة للاحتجاج والنزول إلى الشارع، وهو ما حصل بالفعل بعد تعليق المصرف المركزي الأوروبي إقراض اليونان بضمان السندات الحكومية.
العودة إلى القواعد
مساء الخامس من شباط نزل آلاف اليونانيين إلى شوارع أثينا احتجاجاً على الخطوة التي أقدم عليها المصرف المركزي الأوروبي، وقد أوردت وكالات الأنباء ومنها «أ ف ب» أنّ النزول كان موجهاً ضدّ الابتزاز الذي تتعرّض له حكومتهم من جانب المصرف المركزي الأوروبي، وذلك كما قالت حسب دعوات المساندين للحكومة الجديدة المنتخبة. من جهتها نقلت الوكالة عن متظاهرين قولهم إنهم نزلوا إلى الشارع لإبداء دعمهم إلى الحكومة التي شكّلها حزب سيريزا اليساري «الذي يدافع عن حقوق اليونانيين». يظهر هذا النزول في الحقيقة قدرة الشعب في اليونان ليس على مجابهة الترويكا فحسب، وإنما أيضاً على الضغط باتجاه إبقاء الحكومة الجديدة عند الالتزامات التي قطعها رئيسها في برنامجه الانتخابي. وإذا كان وجود الحزب في السلطة سيحدّ من قدرته على الوفاء بالتزاماته ويفرض عليه قيوداً معينة فهذا لا يعني أنه قد غير رأيه في ما خصّ العودة إلى القواعد و»استفتاءها» مجدداً بشأن الخطوات الواجب اتباعها حيال قضية الديون. يجدر بسيريزا حسم هذه المسألة نهائياً وربطها إن أمكن بموضوع التفاوض مع أوروبا، إذ إنّ العودة هنا لا يجب أن تكون منفصلة عن استراتيجية التفاوض، لا بل يتعيّن جعلها جزءاً منها إذا ما أراد الحزب الانتصار في معركته مع الترويكا. لنقل إنها إحدى الأدوات التي يمكن من خلالها تحسين الموقع التفاوضي لتسيبراس وحكومته، وعليه بالتالي أن يغتنمها بسرعة قبل أن تصبح عبئاً عليه. هذه المرّة دعمه المتظاهرون بقوّة في مواجهة عنجهية وصلف الترويكا الأوروبية، ولكنهم لن يبقوا كذلك إلى الأبد، فهم يريدون منه مزيداً من التشدّد في التفاوض، وهذا حقّهم، لأنهم انتخبوه وفوّضوه بحكم البلاد على أساس سياسة المجابهة مع الترويكا. في هذه الحال يجب عليه توقّع الأسوأ إذا لم يكن على قدر المسؤولية التي أولاها إياه الناس، وهو في الواقع لا يزال يحظى بثقتهم، غير أنّ هذه الثقة تبقى مرهونة بقدرته ومن ورائه الحكومة والحزب على مجابهة سياسات الترويكا وتفادي الأفخاخ التي تضعها له بمعية وليّ الأمر الوحيد: ألمانيا. * كاتب سوري