غسان ديبة - الاخبار
«إن الأمور تسوء عندما تصبح المؤسسات المنتجة كفقاقيع في خضم سيل من المضاربة، وعندما تخضع تنمية الرأسمال في بلد ما لنشاطات كازينو القمار». ﺠون مينارد كينز
جاءت انتخابات رابطة اساتذة التعليم الثانوي الرسمي، الاسبوع الماضي، لتقضي على آخر الاوهام حول امكانية ان تمثل الاحزاب الطائفية اللبنانية، حتى بمكوناتها الجماهيرية، أي رافعة تغييرية على الصعد الاقتصادية ـ الاجتماعية. فبعد انسداد افق التغيير السياسي، بسبب انغلاق النظام الطائفي وتجليه في ثنائية سياسية تحكم لبنان سوية في اغلب الاحيان، يتبين اليوم اكثر مما مضى الحاجة الى إنشاء تيار نقابي ديمقراطي، الذي بدأت بوادره مع اعلان التيار النقابي المستقل لأساتذة التعليم الثانوي، وفي الديناميّة الجديدة للاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان، يكون اساسه تيار سياسي يساري بديل يكسر كلياً مع السابق ويُعبئ ويؤطر للتغيير السياسي عند تلاقي انفجار الازمة الاقتصادية مع التشرذم على المستوى السياسي لنظام المحاصصة الطائفي.
ان دور النقابات اساسي، لأن أحد اهم محددات الازمة الاقتصادية التي تعصف لبنان، والمرشحة للتفاقم، هو سوء توزيع الدخل والثروة والنظام الضرائبي التراجعي. وتبيّنت اهمية النقابات في التغيير منذ معركة تصحيح الاجور في 2011 الى معركة سلسلة الرتب والرواتب مرورا بمشروع التغطية الصحية الشاملة، الذي اصاب الطبقات البورجوازية بالهلع، دافعا اياها الى التهديد الدائم بأن تصحيح الاجور على انواعه، وفرض ضرائب على الارباح والثروة لتمويل الشق العام من هذه الاجور واي تقديمات اجتماعية جديدة، سيؤديان الى كوارث اقتصادية وتضخم عال و»يونان» جديدة وما الى ذلك من مغالطات، تبين عدم صحتها، مثل التخويف من التضخم، اذ ان زيادة الـ 35% على الحد الادنى للأجر في بداية 2012 لم تؤثر في التضخم بتاتاً. من المؤكد ان ممثلي الهيئات الاقتصادية والغرف المختلفة وايديولوجييهم لا يزالون حبيسي النظريات النيوليبرالية التي برهنت على فشلها الذريع على مستويات عديدة. تجلى ذلك على نحو واضح بعد الازمة الراسمالية العالمية في 2008، وفي ازمة اليورو اليوم، وعلى مستويات تحديات التنمية في الدول النامية، وفي الصعود الصاروخي لاقتصاد الصين المبني على اسسس السوق الاشتراكي، الذي تخطى في اواخر عام 2014 اقتصاد الولايات المتحدة بحسب حسابات الاسعار العالمية (التي تعكس القدرة الشرائية المحلية)، ومن المتوقع تجاوزه اقتصاد الولايات المتحدة بالاسعار الجارية في 2024! لكن من المؤكد ايضاً (وأكثر اهمية) ان اطراف البرجوازية اللبنانية تدافع عن مصالحها الاقتصادية التي راكمتها منذ عام 1992 (ومنذ الثمانينات ايضاً)، والتي تتلخص باستحواذها المتزايد على الدخل والثروة. لكن المفارقة ان الرأسماليين اللبنانيين، بسعيهم العنيد للحفاظ على حصة دخلهم وثروتهم، يهددون اكثر فأكثر اسس النظام الرأسمالي في لبنان، لانه، اضافة الى الازمة الدورية الناتجة على نحو اساسي عن انخفاض الطلب الخارجي وتراجع القدرة الاستهلاكية للبنانيين الناتجة عن الاجور المنخفضة وثقل الدين الخاص على الافراد الناتج عن التملك والاستهلاك، فإن لبنان يواجه ازمة بنيوية طويلة الامد متمثلة في تبلور اقتصاد تغلب عليه القطاعات ذات الانتاجية المنخفضة، ولا يخلق الوظائف على نحو كاف، كما يبين تقرير البنك الدولي (مايلز) الأخير.
ان النموذج الاقتصادي المأزوم هذا انبثق عن السياسات النقدية والمالية والاقتصادية المتبعة منذ 1992، التي تمثلت في تثبيت سعر الصرف والاعتماد على الرساميل الخارجية الوافدة وخفض (او عدم استحداث) الضرائب على الارباح والريع والثروة والانفاق السياسي ضمن اطر التوزيع الاقتصادي لنظام الطائف التحاصصي وتمويل عجوزات الخزينة عبر الاستدانة من المصارف واصحاب الثروات الكبرى بفوائد عالية، وتشجيع الفورة العقارية. هذه السياسات ادت الى تمركز الدخل والثروة وارتفاع حصته من الناتج المحلي، مضافاً اليها الشلل الاقتصادي المتمثل في اقتصاد تسيطر عليه القطاعات ذات الانتاجية المنخفضة من خدمات وتجارة، ولا يؤمن الوظائف للشباب (24% بطالة بين الشباب) ويستثني المرأة من العمل (23% مشاركة للمرأة في سوق العمل)، إضافة الى دين عام خارج عن السيطرة حتى الآن، ودين خارجي بلغ 170% من الناتج. على نحو اعمق، تحول الاقتصاد اللبناني الى اقتصاد مزدوج (dual economy)، بين «اقتصاد تقليدي داخلي»، ذي اجور منخفضة، يعاني بنية تحتية مهترئة ويفتقدٌ حتى المبادرة الفردية الخلاقة التي اصبحت تدميرية، اذ يعيد انتاج المؤسسات المنخفضة الانتاجية ويستنسخها، حيث ترتفع نسب الافلاسات لعدم المقدرة على الابتكار والمنافسة، و»اقتصاد حديث خارجي» حيث العمال والرأسماليون يعملون في الخارج في دول اوروبا والخليج في وظائف ومؤسسات عالية الاجور والانتاجية ومعدلات الربح. تنعكس هذه الازدواجية الاقتصادية بارتفاع اسعار العقارات والسلع في لبنان المدفوعة عبر الطلب من المداخيل الخارجية، مؤدياً الى حرمان العاملين في الاقتصاد الداخلي القدرة الشرائية، مما يدفعهم الى الاستدانة للحفاظ على قدرتهم الشرائية، وبالتالي تعميق عملية تمركز الثورة وارتفاع نسبة عدم المساواة الاقتصادية بين اللبنانيين وتسريع ديناميتها. إن الحركة النقابية، وبالتالي الحركة السياسية الجديدة، يجب ان تكسر اهم حلقتين في هذا النموذج الاقتصادي، وهما سوء توزيع الدخل والثروة، ودينامية الدين العام الناتجة من عدم التناظر بين الانفاق الحكومي (ومن ضمنه خدمة الدين المرتفعة البالغة نحو 10% من الناتج المحلي)، والواردات الضريبية التي تستثني اصحاب الثروات المرتفعة والمؤسسات والمصارف ذات الارباح العالية. فالمجال مفتوح الان امام حركة جديدة كهذه، فازمة الرأسمالية اللبنانية انفتحت على مصراعيها بعد تعطّل قنوات الاستدانة العامة والخاصة، التي غلّفت الازمة البنيوية للاقتصاد، جاعلة منه اقتصاد يقف على حد السكين، وبدفاع الاطراف البرجوازية عن مصالحها فيه تدفعه الى حد عدم الاستقرار والانهيار الشامل.