هيلدا حبش - السفير
سبع سنوات مضت على رحيلك أيها الحكيم يا رفيق الدرب النضالي الطويل. سبع سنوات عجاف مرت علينا وعلى شعبنا وأنت ما زلت تسكن وتشغل القلوب والعقول. نفتقدك اليوم أكثر من أي وقت مضى في هذا الليل الحالك وهذا الزمن الرديء. زمن يتجمد فيه الدم في عروق أطفالنا الذين يموتون قهراً وبرداً وجوعاً، تعصف الرياح العاتية بخيامهم وتجرف معها ما تبقى من نبض للحياة الحرة الكريمة. زمن تُدمّر فيه الأوطان. كل ذلك يجري أمام مرأى ومسمع العالم المتحضر الهش. عالم تجمدت فيه العواطف الإنسانية ومات الضمير واندثرت القيم والمبادئ التي تربينا عليها. عالم تسوده الصراعات الإقليمية والدولية والمصالح الذاتية الضيقة ويتهافت على نهب ثروات وطننا العربي ويبني أمجاده على حساب تدمير حضارة الشعوب ولو تطلب ذلك إبادة جماعية لشعوب بأكملها بتاريخها وحضارتها ومستقبلها ومستقبل أجيالها. عقود من الزمن عشتها إلى جانبك أيها الحكيم عاصفة بالأحداث التاريخية بكل ما حملته من منعطفات خطرة، وكانت تتطلب منا أعلى درجات التضحية والتفاني وإنكار الذات. منذ أن ارتبطت بالدكتور جورج حبش في 30 تموز 1961 والتحقت في صفوف حركة القوميين العرب، وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام أحداث كبيرة كانت تعصف بالوطن العربي والأمة العربية. في هذه الذكرى الأليمة سأتحدث عن الجانب الإنساني في حياة الحكيم وعلاقته الوثيقة بعائلته الصغيرة التي انصهرت في أتون الأحداث والمعارك الملتهبة. ورغم مشاغله وهمومه إلا أنه كان ينتزع الوقت ولو لبضع ساعات للجلوس معنا والتحدث إلينا والاستماع إلى مشاكلنا، وكنا نبادله المشاعر الجياشة والمتأججة نفسها، ونعبّر له عن مدى حبنا واشتياقنا له. كان يمثل لنا حالة من النقاء الإنساني والثوري النادر. في تلك المرحلة من عمرنا كنت أدرك تماماً أني ارتبطت بالطبيب الإنسان الثائر على الظلم. الطبيب الذي ربط مصيره بمصير شعبه وانحاز للفقراء والكادحين والمقهورين الذين ذاقوا مرارة النكبة وعاشوا تداعياتها من تهجير وتشريد وظلم وقهر وحرمان. كان رجلاً استثنائياً عاش ومات من أجل شعبه وقضيته العادلة، ووهب حياته وعصارة فكره وعلمه وتجاربه لمحاربة الظلم والاضطهاد. منذ أن تعرفت على هذا الإنسان الكبير تعرفت على السجون ومخافر الشرطة والمخابئ تحت الأرض وحياة المنافي والتنقل بجوازات سفر متعددة وبجنسيات مختلفة وأسماء مستعارة ومحاولات الاغتيال والاختطاف وأحكام الإعدام، والملاحقات الأمنية من قبل الموساد والاستخبارات الأميركية والعديد من القوى المعادية. منذ تلك اللحظة أعلنت حالة الطوارئ والاستنفار وتسلحت بأقصى حدود اليقظة والحذر وتدربت على السلاح. تلك الظروف القاسية انعكست على حياتنا الخاصة وحياة ابنتينا ميساء ولمى، لقد طالهما قسط وفير من التحمل والصبر والتضحية. كانت معاناتنا كبيرة وكان علينا بعد كل عملية فدائية للجبهة أن ننتقل إلى أماكن أكثر أمناً وننقل طفلتينا ليلاً وهما نائمتان حفاظاً على سلامتهما. كنا نلتقي على وقع الأوضاع الأمنية وعلى دوي الانفجارات والصواريخ، وخاصة أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، والاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت. علاقته بالرفاق في الجبهة الشعبية قامت على الاحترام المتبادل والتواضع والتسامح والاهتمام بشؤونهم الحياتية والعائلية الخاصة. كان الأب الروحي لكل منهم، يحترم حرية الرأي والتعبير، يجسد القيادة الجماعية فكراً وممارسة. لم يكن يوماً ديكتاتوراً بل أرسى قواعد الديموقراطية في صفوف الجبهة الشعبية، اعتمد على أسلوب التوعية والتثقيف الحزبي وإعطائهم الفرص للقيام بدورات فكرية تثقيفية مكثفة. حظي باحترام الجميع لما كان يتمتع به من خلق رفيع وقيم سامية لا يحيد عنها حتى أصبح يطلق عليه لقب «ضمير الثورة» عن جدارة وبامتياز. عمل جاهداً على تحقيق الوحدة الوطنية بين كل القوى الفلسطينية، لم يكن يعرف التعصب الديني أو الطائفي أو الحزبي ولا الأحقاد، بل كان متسامحاً حتى مع خصومه السياسيين. لكن الثوابت الوطنية بالنسبة له خط أحمر لا يمكن التفريط بها. بقي قابضاً على جمر مبادئه طيلة حياته النضالية وهذا ما منحه ثقة الشعب الفلسطيني والعربي وثقة جميع القوى الحرة والصديقة المؤيدة للثورة. بقي الحكيم حتى آخر رمق من حياته صادقاً وفياً لشعبه، منسجماً مع نفسه ومبادئه، يجسد كل كلمة كان يقولها وسيبقى الضمير الحي في تاريخ الثورة الفلسطينية، وستبقى ذكراه حية متوهجة في قلوب جميع محبيه وفي وجدان شعبه وأمته العربية. زوجة المناضل الراحل جورج حبش