طوال أربعين سنة، راقب التحوّلات التي مرت بها العاصمة بحجرها وبشرها من نافذة مكتبه في منطقة تلة الخياط. مع ذلك، ظل معتصماً بهندسة تشبه الناس وتلبّي حاجاتهم وتحاكي بيئتهم ولا تقلّد ولا تتماهى. اليوم، تكرّم جريدة «السفير» المعلّم اللبناني الذي أشرف على إعادة إعمار ضاحية بيروت الجنوبية إثر عدوان تموز مع نشر كتاب يوضح الخطوط الأساسية في رؤيته إلى العمارة
زينب حاوي - الاخبار
قد تتغير الأمكنة والناس، لكن ظل رهيف فيّاض (1936 ـ بترومين، شمال لبنان) يراقبها بثبات عبر نافذة مكتبه الزجاجية في تلة الخياط طوال أربعين عاماً أمضاها في المنطقة. المعلّم المعماري والمهندس الذي يقف على عتبة الثمانين، خطّ الزمن تجاعيده على وجهه ويديه، لكن ظلت الثورة داخله متقدّة كابن العشرين الذي كان عند انخراطه باكراً في الحزب الشيوعي. مرحلة طبعت «صفحته الأولى» كما يصفها لـ»الأخبار»، ووسمته بوسم «المناضل». تلك الصفة تشرّبها في مقاربته للأمكنة وللناس: «أنا مناضل في الحياة، وفي منزلي، وفي علاقاتي بالناس». علاقته بميادينه الثلاثة أي العمارة، والتعليم الأكاديمي، والكتابة (أصدر أكثر من 7 أعمال عن العمارة) يصفها بأنّها وصلت حدّ «الإدمان».
إنّها قوت يومه وسبب بث الحماسة مجدداً في المسيرة النضالية التي تبدأ حتماً بالتعليم، «فالتعليم ليس محايداً». خرّج فيّاض أجيالاً متعاقبة و»آلاف المعماريين الذي يحتلّون اليوم مواقع متقدمة في الإدارة والتعليم والوظائف العليا». مع تغيّر الأزمنة، والأدمغة وغزو العولمة، لم يتعال فياض عن الواقع الحالي بمرارته مع وجود كل هذه العناصر القابضة على العنصر البشري. ينظر إلى هذه المتغيرات على أنها «سطحية»، لا عميقة كما قد يتراءى للآخرين. يضرب بيده التي شاخها الزمن على خشبة مكتبه ليخرج هذا الدفق والشحن داخله في وجه العولمة. يقاومها قبلاً واليوم ومستقبلاً، كفرد، كمؤثر في الجماعة: «أقول لتلاميذي لا تخضعوا لها (...) عليكم أن تبحثوا عن عمق الأشياء وتزيلوا عنها القناع لتروا الجوهر داخلها». تلك الوصية التي نقلها لمعماريي الغد، تنسحب بشكل مباشر على العمارة التي ترتدي اليوم «قناعاً يتغرّب عن الحاجات الاجتماعية للناس». نضال كبير المعماريين العرب كان دوماً مقاومتها ومقارعة زيفها وارتمائها في أحضان التقليد ونسخ العمارة الغربية التي تختلف عناصر مناخها وطبيعة عيش سكانها عنّا نحن. مقاومة تصل إلى هدفها المنشود: «عمارة تبنى لهذا المكان، وليس لمكان آخر». تعود نزعة الشيوعية في كل مواقفه ومهنته وأكاديميته. يتحدث عن العدالة الاجتماعية ومقارعة الفكر المستورد الذي بات أكثر حضوراً لدى الطلاب والمجتمعات، وعن التحرر الوطني والمقاومة العسكرية. يضخ هذه القيم في محترفاته الثلاثة بين الأفراد والجماعات. يرى أنّ الانحطاط الذي نعيشه لا يطاول عالمنا فحسب، بل باقي شعب الأرض، لكنّه يصيب العالم العربي أكثر «لأنه تابع». شيوعية لازمت منزله المسيّس منذ المراهقة، وكانت أساسية في مسار حياته وتشكّل وعيه الاجتماعي: «بت أنظر إلى العمارة كشأن عام لا كتصميم أبغي منه الربح المادي». وكما تغيّرت الأمكنة والناس حوله ودار الزمن دورته، يبقى الثبات والالتزام ملازمين لفياض «الآن ومستقبلاً». «المعلّم» و «المعمار» هكذا وصفته جريدة «السفير» عشية تكريمها له في «قصر الأونيسكو».
تشكّل وعيه السياسي والاجتماعي باكراً مع انخراطه في الحزب الشيوعي
تكريم لافت في اختيار شخصية معمارية يرى فياض أنّه «اقتحم مجالاً مختلفاً أي الهندسة والعمارة» و«خطوة شجاعة» لأنّ الصحيفة كرمته «في حياته» وليس كما حصل مع المهندس عاصم سلام الذي كرّم بعد وفاته. يسمح المعماري العتيق بأن يتسلّل بعض الغرور إلى داخله، فـ «قليل من الغرور هو حق أحياناً»، ولا ينسى أن يقرن تكريم «السفير» بأبعاده الفكرية والسياسية، فصفحاتها على مدى سنوات أفردت له لتحتضن مواقفه وأبحاثه الهندسية وعلاقتها بالناس وبالمكان. قد تُختصر هذه العلاقة بأنها خلاصة «انسجام فكري مع الصحيفة العريقة التي تشاطره بالطبع أسساً مشتركة». التكريم اليوم يضم ثلاثة أقطاب تشكل مكونات مسيرة فياض المهنية والسياسية بدءاً من الحزب الشيوعي (كلمة أمين عامه خالد حدادة)، مروراً بالجامعة اللبنانية (رئيسها عدنان السيد حسين)، وصولاً إلى البعد العربي في مسيرته المهنية (أمين عام اتحاد المهندسين العرب عادل الحديثي). تكريم يترافق مع إصدار «السفير» كتاب «العمارة والشأن العام». العمل عبارة عن 8 نصوص اختارها فياض وتقدم استنتاجات وخلاصات عامة كتبها فياض بين عامي 1976 و2014 ، حيث يعيد فيها القول بأن «العمارة لصيقة بالشأن العام»، وأن «المدينة منتج اجتماعي جماعي». صحيح أنّ رهيف فياض يحارب مشروع «سوليدير» في وسط بيروت، ويصفه دائماً بـ «مدينة الأشباح» حيث «أمكنة فارغة لناس لن يأتوا». لكنه أيضاً يزور هذه البقعة بين الحين والآخر. يتمشى في شوارعها ليتعرّف إلى الجديد هناك. تظل المشهدية عينها حيث «المدينة مضاءة من تحت، ومظلمة من فوق». حاربها معه عاصم سلام الذي أصيب بالإحباط مراراً كما يكشف رفيق دربه. لكن فياض لم يستسلم ويجعل هذا الإحباط «عائقاً أمام القدرة على الإنتاج». يكرّر بأنّه كان «لحياته معنى مختلف مع الانخراط في الشأن العام وفي المهنة». وسط بيروت المزنرّ بالأوتوسترادات، يراه فياض «ضاحية» حقيقية تعيش على هامش المدينة بخلاف منطقة «الضاحية» التي تمتدّ شرايينها إلى باقي مناطق «بيروت الإدارية» وتشبه بعضها بعضاً في بيوتها وطريقة عيش ناسها، علماً أنّه أشرف على إعمار ضاحية بيروت الجنوبية عام 2007. في ظل هذه السوداوية وسحق الطبقات الاجتماعية لصالح أخرى مرفّهة ستحلّ مكان هؤلاء بقوة المال وضمن شبكة متآمرة من القانون إلى الريع العقاري، يرى فياض بأنّ المضاربات ستقضي شيئاً فشيئاً عليها. هذه البقع المؤلمة والمحبطة يعيد قراءتها من زاوية الأمل بأن «عناصر التغيير ستعود إلى موقعها المعتاد في المجتمع. والأخير سيعيد الأمور إلى نصابها في مجرى التاريخ نحو العدالة الاجتماعية»
* تكريم «السفير» للمعماري رهيف فياض: 17:00 مساء اليوم ـــ «قصر الأونيسكو» (بيروت)