سامي رستم - السفير
بثّت إذاعة «شام أف أم» مقابلة مع زياد الرحباني، يوم الثلاثاء الماضي (23/12). قد يكون هذا الخبر عادياً جداً، لكثرة اللقاءات التي يجريها زياد في الإعلام خلال الفترة الماضية. لكن بالنسبة للكثيرين من مستمعي الإذاعة، كان هذا الحديث إضافة مميزة، بمضمونه الحميمي، إلى أرشيفهم الخاص.«إعادة» تعريفتتكرَّر في أسطوانات زياد الرحباني مع فيروز فكرة «الاستعادة». في «كيفك إنت» (1991) نستمع إلى Reprise لأغنية «مش فرقة معاي»، وفي ألبوم «مشْ كاين هيكْ تكونْ» (1999) تأتي الأغنية السادسة بعنوان «تذكير». من ناحية موسيقية، ربما يُعدّ ذلك وسيلة للوصول إلى نغمةٍ جديدةٍ عن طريق تكرار اللحن ذاته، أو ربما يصل للمستمع احساس جديد من تلك «الاستعادة». نستلهمُ من تلك التقنية «حيلةً»، لتقديم عناصر المقال.سوريا: بلد متوسطي في غرب آسيا، يحده شمالاً تركيا، شرقاً العراق، جنوباً الأردن، غرباً فلسطين ولبنان... والبحر الأبيض المتوسط. يعيش هذا البلد مرحلة صعبة جداً في تاريخه، تتسارع فيه الأحداث مشكلة مأساة إنسانية كبرى تصل تداعياتها إلى الشرق والغرب.زياد رحباني (1956) فنان عربي من لبنان، ألّف مقطوعات موسيقية ساهمت في إثراء المكتبة العربية، كما شارك في مسيرة الفنانة فيروز عبر أربعة عقود. هذا الصوت الذي وصفه حديثاً في مقال صحافي في «الأخبار» (2014) بالتالي: «قَرَطْني «الصوت»... اشتغلت فيه لهلق 40 سنة، وولا مرّة قدرت شفتو... كتير بيشبه الله».إذاعة «شام اف ام» هي وسيلة إعلامية تأسست العام 2007 في دمشق، وكانت منبراً تمايز عن باقي الإذاعات السورية الخاصة في البداية، لنوعية البرامج الفنية والاجتماعية التي تحترم المستمع. في تلك الإذاعة تعمل هيام حموي في غرفة ضيقة جداً، وتحيك من الأصوات والكلمات والألحان عملاً تسمّيه هي: «فناً اذاعياً».زياد في «الحياة المسرحية» والسينماحضر زياد الرحباني إلى دمشق وهو طفل صغير. نعثر في مجلة «الجندي» السورية (1959) على صورة نادرة: يجلس زياد إلى جانب والدته فيروز، وهي تستمع إلى المحامي والناقد الموسيقي نجاة قصاب حسن، وهو يلقي محاضرة عن فنّ الأخوين رحباني، بحضورهما. يختتم عاصي الرحباني تلك المحاضرة بأبيات شعرية تقول: «لا أنا ولا إنتي أنا، لا التقينا ولا منعرف بعض، ع دربكن الورد الله يحرسه، والمفرق الصوب المزارع دربنا».استمرّت الزيارات إلى العاصمة السورية برفقة الرحابنة. في العام 1971، قدّمت فيروز المسرحية الغنائية «ناس من ورق» في دمشق. حضر زياد بين العازفين. كان ذلك قبل أن يقدّم أوّل ألحانه بصوت فيروز العام 1973 «سألوني الناس». في العام 1977، عرضت مسرحية «بترا» في دمشق وافتُتح العمل بمقدمة موسيقية ألفها الرحباني، وهي أولى المرات التي يستمع فيها الجمهور السوري لموسيقى صرفة كتبها صاحب «قديش كان في ناس».خلال الحرب في لبنان، لم يقدّم الرحباني أيّة حفلة في سوريا، على الرغم من شعبيته الواسعة، إلّا أنّ تواصله مع الجمهور السوري لم ينقطع كلياً.في خريف العام 1980، صدر عدد من مجلة «الحياة المسرحية» الفصلية (ترأس تحريرها الكاتب المسرحي سعد الله ونوس) حاملاً على غلافه صوراً من أجواء مسرحية «فيلم أميركي طويل». في داخل العدد نعثر على ندوة موسعة أجريت مع الرحباني والمشاركين في العمل. كانت المجلّة تصدر عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي، لكنّ ذلك لم يمنع من إجراء مقابلة مع زياد، على الرغم مواقفه السياسية في تلك الفترة.بعد سنوات قليلة، استمع الجمهور السوري إلى موسيقى زياد، لكن في صالات السينما. على «يوتيوب» نقع على مقتطفات نادرة من فيلم «وقائع العام المقبل» (1986) للمخرج سمير ذكرى. تمّ إنجاز العمل رغم الصعوبات الأمنية وكان الفيلم من انتاج «المؤسسة العامة للسينما»، ويحكي قصة شاب درس الموسيقى في الاتحاد السوفياتي، وعاد حاملاً مشروعاً موسيقياً إلى بلاده إلا أنّه اصطدم بمشاكل البيروقراطية وغيرها. قد تتشابه حياة «نور في شي فاشل» مع تلك الشخصية.زياد في دمشق: الغلاف الأصفرجاء العام 2008 المحطة الأبرز، أولاً لأن فيروز قدمت مسرحية غنائية بعنوان «صح النوم» في دمشق، وقام زياد بتوزيعها موسيقياً وإن لم يذكر اسمه على الملصق (!). وثانياً، لأنّ الرحباني حضر شخصياً وقدّم سلسلة حفلات موسيقّية ضخمة في قلعة دمشق وصفت «بالتاريخيّة».ترافقت رحلة العمل بإطلالة إعلاميّة أولى لزياد على أثير اذاعة «شام أف أم». الحماس الكبير وأجواء التحضير الضاغطة جعلت من هيام حموي التي حاورته تتعثر قليلاً لأسباب خارجة عن ارادتها، وكانت اتصالات الناس المباشرة والصدق في التعبير، حالة نشتاقها اليوم. بالتزامن مع ذلك أجرى زياد حواراً على جزءين مع صحيفة «تشرين»، أجراها حسن م. يوسف.في العام 2009، عاد زياد إلى مسرح القلعة وقدم حفلات بعنوان «منيحة»، وكانت المفاجأة الأحلى هي اسطوانة توثّق لحفلات الصيف الذي سبق، توثيقاً موسيقياً وانسانياً. فنحن نسمع أصوات الجمهور المتصاعدة بالـ «آه». أثناء تلك الزيارة أجرى صاحب «وحدن» مقابلة تلفزيونية مع الممثل السوري بسام كوسا. أهمية المقابلة حينها مراجعة زياد لمواقفه السياسية من سوريا مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، على قناة التلفزيون السوري. اتسم اللقاء حينها بالعفوية والصراحة والجرأة... والتطرق السريع إلى إرث الرحابنة.«شو بَدّي بالبلاد»انطلقت شرارة الحرب في سوريا العام 2011. سأل الناس عن موقف الرحباني. بعضهم الآخر سأل عن موقف فيروز أيضاً، علناً أو سراً. تسارعت الأحداث وتداخلت وتعقدت. أدلى الرحباني مع نهاية العام 2012 بتصريحات اعلاميّة كثيرة بخصوص المشهد السياسي العام في المنطقة والعالم. تسبّبت آراؤه حول ما يجري في سوريا بانقسام. بالنسبة للكثيرين هي تغيّر في خط زياد السياسي والإنساني العام، وبالنسبة للبعض الآخر هي فقط تأكيد عليه. ربما الجواب الأصدق يأتي من انفعال القلب وما تبوح به الذاكرة. مكانة الرحباني موسيقياً بقيت محفوظة، وذلك الأهم، لأن محبة الجمهور السوري لمؤلف «إيه في أمل» مبنية على إبداعه الموسيقي ورؤيته المعاصرة لموسيقى الأخوين رحباني، وفيروز.اجتمعت عناصر كثيرة كي يتحقق لقاء هيام حموي بالرحباني بعدما تأخر قرابة العام. تعددت مواضيع الحوار. أهمها عن ظروف العمل والإنتاج الموسيقي في الغرب، وامكانية تسويق موسيقى الشرق في أسواق جديدة، وعن عمله في صحيفة «الأخبار» ضمن زاوية «تبلّيسي». كذلك أوضح الرحباني سبب مغادرته للعمل خارح لبنان: «مشْ هجرة على روسيا. انتقال على المانيا. عم تمم كلّْ شي حتى فلْ، لأن ما بقى فيي اعمل اللي عم أعمله هون. انخرب بيتي أكتر من مرة وما بدي ارجع اتديّن. فيي اعمل مصاري هون بس بطرق غير شرعية». ربطت هيام حموي ذلك بالجانب العاطفي الأسري المتعلق بفيروز، فجاوبها زياد قائلاً: «ممكن. لم أفكر فيها بصراحة. مجموعة عناصر غلّقت (كملت) مجموعة قصص. أي ما عندك شي كتير تخسريه هون. مش قطيعة. ماعم بقدر اتصلْ فيها. يعني ما عم تجاوب».يقول زياد عن جلسته مع الإعلامية هيام حموي بأنّها «مفيدة» لأنّه لا يعرف ماذا يقول إلا من انطباع الآخرين عنه، وختم اللقاء برسالة مؤثرة إلى الشعب السوري. وترك أيضاً رسالة إلى والدته متمنياً منها أن تجاوبه قبل نهاية السنة الحالية، وضحك.قد «تحنْ» فيروز وتردّ على زياد بغمضة العين، وفي ذلك إجابة جزئيّة على تساؤلات كبيرة نطرحها عليها اليوم تخص العمل ومستقبل الأرشيف. وقد تتحقق أمنية زياد للشعب السوري أيضاً بأسرع مما توقع. لكن الأهم، نتمنى أن نستعيد تلك «الضحكة» في المستقبل بعد أن تتحقّق الأغنية التي تقول: «تترك أرض الأجداد، وتجرب غير بلاد، لا تنساني».