وقفت السيدة تتأمل في القادمات بألوان قوس قزح إلى منطقة الحمرا في قلب بيروت. عاملات مهاجرات، بعضهن يعملن في المنازل والبعض الآخر في مكاتب ومؤسسات. مع هؤلاء حضر عدد من العمال المهاجرين. تأملت السيدة الأربعينية في لباس العاملات: الإثيوبيات بالأبيض المطرز بالفيروزي أو الأخضر الداكن والأحمر. نساء من الكونغو فرشن جزءاً من موقف السيارات بألبسة ملونة ومزركشة حصدت إقبالاً كبيراً. الإفريقيات عقدن شعورهن بجدائل ناعمة جميلة، وجدلن شعر اللواتي رغبن بالمثل. الوافدات من كينيا خصّصن المساحة الأكبر بالحلى الجميلة. السودانيات زينّ بالحنة بعضاً من أيادي الحضور. بنات سيريلانكا حملن إلى العاصمة اللبنانية أقمشتهن المزركشة. تبرجت نساء الفيليبين ولبسن أجمل ما عندهن. سيدات نيجيريا زيّن رؤوسهن بحلى ملونة تتناغم مع فساتينهن الطويلة المكشوفة على الأكتاف. ومع كل هذا علت الموسيقى لتصل إلى آذان رواد مقاهي الحمراء وعابري شارعها الرئيسي ومتفرّعاته. قالت السيدة لصديقتها: «كم يحتاج بعضنا من الوقت ليرى هؤلاء العمال والعاملات كبشر.. كم نحتاج من العمل ليطهر بعضنا نفوسهم من العنصرية». فعلاً، هذا ما كانت عليه الحال في قلب بيروت في اليومين الماضيين. استرجعت المدينة بعضاً من اعترافها بالآخر وتقبله. فتحت قلبها عبر مهرجان ثقافي وحياتي واجتماعي للعمال والعاملات المهاجرات بمبادرة من منظمات المجتمع المدني بالتعاون مع الجاليات الأجنبية في لبنان. كانت من المرات القليلة التي يحضر فيها رجال الأمن ليتأكدوا من أن الأمور تسير على خير ما يرام وليس ليدققوا في الأوراق «الشرعية» للمحتفلين والمحتفلات. كان يوماً من أيام ليست كثيرة ومتاحة تمكنت فيها عاملات المنازل من الخروج من بعض المنازل المقفلة إلى مساحة خاصة بهن. من المرات القليلة التي يتاح لهن التعبير فيها عن أنفسهن. يتبرجن، يرتدين أزياءهن، يقدمن طعامهن بمطيباته لتفوح روائح البهارات والحر من دون خوف من انزعاج الآخرين منها، ويصنعن مشروباتهن الملونة، والأهم يرفعن صوت موسيقاهن ويتركن لأجسادهن حرية التعبير والرقص. أرادت منظمات «كفى عنفاً واستغلالاً» و«عامل» و«إنسان» و«كاريتاس» و«حركة مناهضة العنصرية»، تكريس استراتيجية أساسية في النضال من أجل حقوق العاملات والعمال المهاجرين في لبنان. أن يخرج هؤلاء بأنفسهم ليكونوا جزءاً من المعركة التي تخاض من أجل تأمين حماية قانونية فعالة لهن، من أجل معاملتهن كبشر، من أجل حقوقهن بالعمل الكريم، وبمنع الاستغلال والعنف الذي يمارسه أصحاب العمل بحقهن. وتركيز الاحتفال بعيد العمال على مدى ثلاثة أيام متتالية (من 2 إلى 4 أيار) على العاملات في المنازل، لم يعن للحظة واحدة استثناء العمال المهاجرين من الذكور. فـ«إلغاء نظام الكفالة»، وهو المطلب الرئيس الذي تندرج تحته كل المطالب الأخرى، بوصفه النظام القانوني الذي يسمح للانتهاكات والتجاوزات بالحصول، يطال العمال والعاملات الأجانب في لبنان. لكن ذلك لم يلغ أيضاً خصوصية العاملة والضرب على الوتر الحساس لخصوصية أوضاعهن، كونهن، في الغالبية الساحقة بينهن، يسكنّ في منازل الكفلاء وخلف الأبواب المغلقة. هنا، نعم، تصح عبارة «لا أحد يعرف ماذا يحصل وراء الأبواب المقفلة». فالقصص التي تعرف طريقها إلى الإعلام ومنظمات المجتمع المدني لا تختصر المعاناة ولا تكشف عن كل شيء، ولا تبين الحقيقة كاملة. وحدها العاملة التي يعلن عن انتحارها وتختم التحقيقات الأمنية بتثبيت واقعة الانتحار، تعرف ما الذي تعرضت له فقط، كيف قضت في بلاد غريبة وما الذي دفعها إلى إنهاء حياتها بعيداً عن أطفالها أو عائلتها التي هاجرت لتعيلها. عليه، منح المهرجان فرصة للعاملات للتعبير عن معاناتهن إلى جانب الاحتفال بعيد العمال. خصص المنظمون زاوية بأقلام عريضة وأوراق «كرتون» مقوى ليكتب عليه العمال مطالبهم وما يجول في خواطرهم. كتبت عاملة أثيوبية «بشتغل 16 ساعة وليس لدي الحق بالراحة حتى عندما أمرض». وسألت سيدة فيليبينية في لافتة خطتها بيدها: «في شي مرة انحبستوا بالشغل؟». أما تلك المرأة الكينية التي ارتدت فستاناً بألوان الخريف فطالبت «بتحقيقات جدية في انتحار العاملات». وأصرت العاملة الآتية من سيريلانكا على إسماع صاحب العمل عبارة «إذا بشتغل ببيتك ما تفكر إني ملكك». هكذا، أخبرت العاملات رواد الحمرا، وكل من عبر بمهرجانهن، عما يتيحه نظام الكفيل من انتهاكات ترتكب بحقهن. عبروا عن شعورهن لحظة يسلم الأمن العام في المطار جواز سفرهن للكفيل في مطار بيروت: «جواز سفري ملكي مش من حقك تحتفظ فيه». تحدثن عن ساعات العمل الطويلة: «من 16 ساعة وما فوق في اليوم». عن العنصرية: «ملعقتي وصحني وفنجاني لحالي». عن العنف اللفظي: «أنا مش وحدة حيوانة، ما فيك تهينيني». عن العنف الجسدي: «مش من حقك تضربني»، والجنسي: «جسدي ملكي مش ملكك». عن الجوع والمهانة والسجن في المنزل، عن عدم القدرة على تغيير العمل: «يحق لي تغيير عملي». وعن حقهن في أن يستمع لهن رجال الأمن باحترام وتفهم: «من حقي تتاخد شكواي على محمل الجد». وعن حقهن بقضاء عادل ومنصف بعيداً عن الهشاشة التي يشعرن بها في ظل نظام الكفيل المطبق. قلن إن من حقهن أن يكن سيدات أنفسهن، ومن حقهن، كما صاحب العمل، أن يتمتعن بفترة تجربة يقررن بعدها الاستمرار بالعمل أو تغييره. عليه، شكلت منطقة الحمرا عصر السبت وشارع الدورة وصولاً إلى مار مخايل، صباح الأحد، أمس، مسرحين مهمين لطرح قضايا العاملات. وعبر الاحتفال بعيد العمال أكدن على حقهن بالخصوصية الثقافية والمعيشية والاجتماعية والأمان الاجتماعي والحقوقي والقانوني. تحولت بيروت إلى أكبر جدار تعلق عليه لافتاتهن. خرج أصحاب الأصوات الجميلة من بين العمال والعاملات ليشدوا بأغانيهم الوطنية والفولكلورية. غنى محمد للسودان ورقص السودانيون رجالاً ونساء على صوته وموسيقاهم. وصدحت آديس في أثيوبيا بأغنية دفعت بكل بنات بلدها إلى حلبة الرقص. وبين العمال والعاملات سجل الأجانب في بيروت حضوراً لافتاً في المهرجان والتظاهرة التي سارت من الدورة إلى مار مخايل. اللافتات التي خطوها في ساحة المهرجان حملوها في تظاهرة الدورة، بمشاركة مئات العاملات، بينما خرج اللبنانيون إلى الشرفات. تعليقات اللبنانيين عكست التباين في المجتمع اللبناني. البعض كشف عن رد فعل عنصري ومستنكر لخروج العاملات في تظاهرة مطلبية، والبعض الآخر بطريقة منفرة، بينما انضم إلى العاملات ناشطون ومدنيون كثر. رجال قوى الأمن الداخلي أنفسهم سيروا آلية في مقدمة التظاهرة وأخرى في نهايتها، فيما اصطف عدد منهم على جوانب الطرقات لحماية المشاركين فيها. هناك، في نهاية المهرجان والتظاهرة، تذكر المشاركون «العاملات اللواتي قضين في لبنان، وأولئك اللواتي لم يشاركن لأن أصحاب العمل أقفلوا عليهن أبواب المنازل». هتفت العاملات بالصفات التي تطلقها عليهن بعض العائلات «خادمة، البنت، الصانعة»، بينما «نحن عاملات نقوم بعمل كريم كما كل العمال». رفضن «سياسة أكل حقوقنا» التي تمارس ضدهن. وطالبن بإطار بديل لنظام الكفالة بآخر مبني على علاقة عمل عادلة تحترم حقوق الإنسان، وبإدخالهن ضمن قانون عمل عادل، والاعتراف بحقوقهن الأساسية في فسخ عقد العمل وفي يوم عطلة وبساعات عمل محددة وبالراحة والصحة في حال المرض، وبالتحقيق الجدي في حالات الاعتداء والانتحار التي يتعرضن لها. وختمت العاملات احتفالاتهن على أمل أن يلحظهن لبنان، لبنان كله بناسه، بأنهن بشر وموجودات ولهن الحق بالعمل الكريم وبالمعاملة كبشر، وكذلك ببعض الخصوصية بعيداً عن العنصرية. سعدى علوه - السفير