استدعاء أدوات الماضي لفهم الحاضر

استدعاء أدوات الماضي لفهم الحاضر
09 Apr
2014

فراس أبو مصلح - الاخبار

 

 

تحاول مجموعة من الشباب اليساري في «الجامعة الأميركية في بيروت» تلمّس «أدوات معرفية للتغيير»، في ظل «التشويه البرجوازي للسياسة والأيديولوجيا»، عبر إفراغ الأولى من محتواها الطبقي، والهجوم المنهجي على الثانية بتصويرها على أنها تحريف وتنميط للوعي. في إطار «نادي السنديانة الحمراء»، استضاف هؤلاء الوزير السابق شربل نحاس في ندوة سعوا من خلالها إلى تفسير معالم الاقتصاد اللبناني الراهن، انطلاقاً مما كتبه حسن حمدان، المعروف باسم «مهدي عامل»، عن «نمط الإنتاج الكولونيالي» في سبعينيات القرن الماضي.

 

دعا نحاس بدايةً إلى النظر في كتابات حمدان بنحو نقدي، وليس بوصفه «عدة جاهزة»، آسفاً للتعامل مع الأخير كأيقونة خارج المكان والزمان والظروف التاريخية المحددة، فشدد على أن قيمة الفكر في علاقته بالواقع المعيش، داعياً إلى اختيار موضوعات البحث «من سياق الوقائع، لا ذاتياً». «الوصفات الجاهزة لا تنفع»، أكد نحاس، داعياً إلى استخلاص البعد النظري لـ«تجربة» حمدان، دون الخلط بين ظروفها التاريخية المحددة والظرف التاريخي الراهن.

فرضت الأحداث سياقاتها على كتابات حمدان، يشرح نحاس، فكانت موضوعاته في حقبة السبعينيات تتمحور حول «قيادة التحول إلى الاشتراكية» والبرجوازيات العربية، وطغت عليها سجالات الماركسيين مع «البرجوازية الصغيرة»، ليفرض الحدث نفسه، متمثلاً في الحرب الأهلية والاستقطاب الطائفي، على كتابات حمدان في الثمانينيات، حين «انكفأ طموحه» من بناء التحالف الطبقي المؤهل لقيادة الاشتراكية إلى «حالة موضعية دفاعية» في ظل التشظي الطائفي «في الوقائع والفكر». ما عاد بالإمكان الركون إلى توصيف الواقع في حقبة «نمط الإنتاج الكولونيالي» والعلاقات الناشئة عنه. يشرح نحاس أن نمط التوسع العسكري والتجاري لمراكز النظام الرأسمالي، وعلاقته بالنخب «الكومبرادورية» الحاكمة في الأطراف «في بيروت وإزمير وشانغهاي وغيرها»، كان قد أفل في السبعينيات، بعد أن نما على حساب الدولة العثمانية، واستمر في حقبة الانتداب. يشير نحاس إلى مفارقة في سياسات النخبة الكومبرادورية الحاكمة في لبنان في حقبة الاستقلال، فلم تقم الأخيرة بتعزيز إرث الاستعمار في إنشاء بنى الدولة، ولا بتعزيز أدوات سيطرتها على مجتمعها، كما النخب الحاكمة في سورية ومصر، حيث بنت جيوشاً ووسعت نظام التعليم «كأداة تأطير للناس وضبط عملية الارتقاء الاجتماعي»، ولا هي اتبعت نموذج «استبدال الواردات» ووسعت الخدمات العامة، بل تمكنت من «الاستغناء» عن تعزيز سيطرتها على مجتمعاتها بأن «حصرت مدى سيطرتها برقعة أرض أصغر من السوق التي تتحكم به، واستجلبت الرساميل». أما اليوم، فنعيش مرحلة جديدة «لا يجوز علمياً وصفها بالكولونيالية»، ينبه نحاس؛ فالمقومات المادية الأساسية للنظام قد تغيرت: لم يعد مرفأ بيروت مرفأ المشرق والخليج، بل صار «بالكاد مرفأ لبنان»، فبرزت موانئ العقبة وطرطوس واللاذقية وغيرها، ولم تعد بيروت وجهة الشركات العبر - وطنية الكبرى، وانتزعت مدن الخليج هذا الدور. كذلك انقلبت بعض الأدوار الاجتماعية رأساً على عقب، يشير نحاس؛ ففيما كان حمدان يعول على أبناء الأرياف لإحداث التغيير الاجتماعي، غذى النزوح الهائل من الأرياف إلى المدينة «الميليشيات» التي تألفت من هؤلاء، وصارت الأخيرة الحاكمة الفعلية بعد الحرب، فيما «انتهى كل الطقم القديم» المتمثل بالبرجوازية الكولونيالية، بحسب نحاس. وفيما كانت النخب الكولونيالية تعتمد على زعامات محلية كوكلاء، كانت بحاجة إلى «أشكال» مؤسساتية، كالبرلمان والقضاء، فيما استغنت الميليشيات عن الوكلاء والأشكال، فباتت تمارس القمع وتوزع المنافع مباشرة، وبات النظام قائماً على «استجلاب المال من الخارج، وأصبح الصناعيون تجاراً»، وأصبحت «حلقة المال والمضاربات العقارية» الحلقة المركزية في النظام، ما يفرض قراءةً جديدة للتعامل مع المتغيرات في مواقع السلطة والوظائف الاقتصادية الراهنة، يشدد نحاس. ينتقد نحاس خطاب «أثبتت الوقائع صحة تحليلاتنا»، واصفاً إياه بالمنطق السلطوي التبريري، أو قراءة مسطحة في أحسن الأحوال، حيث «يدعي الفكر استباق الوقائع، على غرار المنجمين، أو يستلحق مجريات الأحداث»، في حين أن «الوقائع لا تثبت الفكر أو تغدره، بل تستفزه». المطلوب من الفكر «اختراق المنظومة الفكرية السائدة، بإعطاء معانٍ جديدة لمفاهيم حاضرة، أو تحريفها»، بدل الصدام المفتوح غير المجدي معها، يتابع نحاس. «أين الطبقة العاملة اليوم؟ غالبية العاملين بأجر في المؤسسات الرأسمالية اليوم من العمالة الوافدة»، فممن يتألف التحالف الطبقي المنشود؟ يسأل نحاس. «لا أجوبة جاهزة»، ففهم نمط الإنتاج الحالي، أو منظومة المصالح المتحكمة، يحتاج إلى جهد حقيقي لبلورة صورة عن الواقع، فيما يجد جزء كبير من الجماهير مصلحته في النظام القائم بالانتفاع منه والركون إلى «حمايته»!

الأكثر قراءة