مع دخول الأزمة السورية عامها الرابع، بات معظم السياسيين اللبنانيين يُجمعون على القول إن العدد الكبير للاجئين السوريين في لبنان يشكل «تهديداً وجودياً» له. لكن الحلول التي يطرحونها للحدّ من هذا التهديد تدور حول المشكلة ولا تعالجها: مساعدات مادية وإنشاء مخيمات. الوزير السابق شربل نحاس يقدّم مقاربة مختلفة لطريقة المعالجة، تنطلق من الاعتراف بالواقع ومحاولة حرف مساره عبر خلق حلقات إنتاج جديدة تربط سوريا بلبنان
مهى زراقط - الاخبار
لا أرقام رسمية صادرة عن الدولة اللبنانية تخبرنا عن عدد اللاجئين السوريين إليه منذ اندلاع الأزمة السورية قبل ثلاث سنوات. وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس، أعلن مطلع شهر آذار الفائت، أن الدولة ستعلن رسمياً رقم «المليون النازح الذين تعترف بهم الأمم المتحدة، (وأعلنت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين هذا الرقم أمس) وأكثر من 250 ألفاً دخلوا بطريقة غير شرعية»، فيما كان رقم المليون، وأكثر، متداولاً على ألسنة الوزراء منذ شهر تشرين الأول الفائت. أي إن العدد يفترض أن يكون قد تجاوز بأشواط رقم المليون و250 ألفاً الذي يتبناه درباس، وإن توقع أن يصبح عدد النازحين السوريين موازياً لعدد سكان لبنان في نهاية عام 2015.
بدورها، خلت كلمة رئيس الجمهورية ميشال سليمان، التي ألقاها في القمة العربية بتاريخ 25 آذار الفائت من الأرقام، بل اكتفت بالإشارة إلى أن اللاجئين على الأراضي اللبنانية باتوا يشكلون أكثر من 32 في المئة من مجمل عدد سكانه. ويستند كلّ من درباس وسليمان إلى أرقام المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين، وتقرير البنك الدولي الذي صدر في شهر أيلول 2013، ويكشف عن وجود 914 ألف لاجئ سوري في شهر أيلول الماضي، مع توقعات بارتفاع العدد إلى مليون و600 ألف لاجئ نهاية العام الجاري. يمكن الاكتفاء بهذه المعلومة لفهم الطريقة التي تتعامل فيها الدولة اللبنانية (أو لا تتعامل) مع قضية اللاجئين السوريين. منذ بداية الأزمة السورية، سيطر الإرباك على إدارة هذا الملف. كان مجرد الاعتراف بدخول لاجئين من سوريا مادة لسجال سياسي بين طرف موالٍ للنظام السوري وآخر معارض له. أما الحديث عن تقنين لهذا الدخول، فكان مادة لسجال أخلاقي بين اللبنانيين الذين شُغلوا في تصنيف بعضهم لبعض: إنسانيون وعنصريون. لم يخرج اللبنانيون بخطاب بعيد عن هذه المعادلات الثنائية في التعامل مع الموضوع. ويتردّد أنّه، حتى الحلّ الوحيد الذي يتفق عليه معظم السياسيين اليوم، وهو المطالبة بالمساعدات من الدول المانحة، لم يأت نتيجة شعور بوجود مشكلة تستدعي حلاً. بل جاء على خلفية تحرّك أردني بين الدول المانحة، ما استدعى سؤالاً فرنسياً للبنانيين: وأنتم، ألا يوجد لاجئون سوريون عندكم؟ وكان الجواب: «بلى، عندنا الكثير». بعدها، ولدت بعثة البنك الدولي لتقويم أثر اللجوء السوري في لبنان، وخرجت بتقريرها الذي دقّ ناقوس الخطر في أيلول الفائت، مع الإعلان أن خسائر لبنان الاقتصادية جراء الأزمة السورية تقدّر بنحو 7,5 مليارات دولار. ورأى التقرير أن لبنان لا يستطيع تحمّل كلفة لجوء هذا العدد الكبير من السوريين، مطالباً الدول بمساعدته. وللغاية، عقد اجتماعان لمجموعة الدعم الدولية، الأول في شهر أيلول الفائت على هامش دورة الجمعية العمومية للأمم المتحدة، والثاني في 5 آذار 2014 في العاصمة الفرنسية باريس برعاية الأمم المتحدة. وكان قد سبقهما المؤتمران الدوليان اللذان عقدا في الكويت لدعم النازحين. حصل لبنان من هذه الاجتماعات على وعود بالمساعدة، فيما غابت الخطط المقترحة من قبل اللبنانيين لطبيعة المساعدة التي يريدونها. بخلاف المال الذي يسدّ عجز الدولة عن تقديم الخدمات المضاعفة، ترتفع أصوات المطالبين بإقامة مخيمات للاجئين. منهم من يريدها في لبنان (اقترح النائب وليد جنبلاط مطار القليعات)، ومنهم من يقترح إقامتها داخل الأراضي السورية (اقتراح الوزير جبران باسيل الذي حظي بتأييد من الوزير رشيد درباس).
لكن هل يشكل هذا الاقتراح معالجة جدية للواقع القائم على الأرض؟
على مرّ الأزمات التي عصفت بلبنان، أثبتت التجارب أن المساعدات المالية لا تسهم إلا في تسكين الوجع، وخصوصاً أنها ستنقطع بعد حين. عندما تتبدّل أولويات الدول المانحة، أو حين يصبح المجتمع اللاجئ عبئاً على الدول الكبرى، «الإنسانية». إنسانية إلى حدّ أنها تنتقي اللاجئين الذين ستدخلهم إلى بلادهم بناءً على لائحة طويلة من الشروط تبدأ من العمر والمستوى التعليمي، ولا تنتهي عند الطائفة. أما المخيمات، فليست حلاً بديهياً. كأن نقيم مخيماً وينتهي الأمر، من دون الإجابة عن أسئلة أساسية: ماذا سيفعل اللاجئون في المخيمات؟ هل سيقيمون في مكان مسوّر ويمنعون من الخروج على أن توفّر لهم مختلف احتياجاتهم، أم سيكون متاحاً لهم العمل في لبنان؟
نحاس: حرف المسار
في هذا السياق، تندرج مقاربة الوزير السابق شربل نحاس لقضية اللاجئين السوريين. برأيه «لا يجوز التعامل مع هذه المسألة من باب إزاحتها وإحلال أخبار ثانية مكانها من صنف التغيير في نسب الطوائف، والتقويم الأخلاقي على قاعدة إنساني وعنصري. نحن خبرنا الحرب الأهلية، فمن يتذكر منّا اليوم ماذا حصل في المكان الفلاني عام 1977؟ أو ما كانت مواقف فلان أو فلان من حدث معيّن؟ ما نتذكره المفاعيل الدائمة: أين كنّا وأين أصبحنا». لذلك يقترح معالجة للمشكلة تتعامل مع الواقع القائم حالياً على الأرض، وهي تقوم على محاولة حرف هذا الواقع عن مساره، والتكيّف مع الحالات التي ستنجم عنه لاحقاً.
يشرح نحاس فكرته انطلاقاً من خلفية تفيد بأن الحرب الأهلية «تخلق عدداً من حالات الأمر الواقع التي تستمر بعد انتهائها. لا شيء يعود إلى ما كان عليه». وهذا يعني أنه لا يجوز التعامل مع الموضوع على قاعدة أن هناك حرباً اندلعت، ومع انتهائها، سيعود كلّ السوريين الذين غادروا بلدهم إليه. «هذا الوهم يتناقض مع التحليل العلمي لما ينجم عن الحرب الأهلية وأبرزه البطالة». والأخيرة، هي التي تسبّب مغادرة السوريين لوطنهم «لو كان السبب الأساسي أمنيّاً، لكانت حركة النزوح قد صبّت في المناطق الأكثر أمناً في الدولة نفسها، وهي موجودة». وبما أن لبنان كان دائماً بلداً جاذباً للسوريين، حطّت الغالبية من اللاجئين فيه، وخصوصاً مع عدم وجود قرار سياسي بتنظيم الدخول أو الحدّ منه على غرار الدول المجاورة الأخرى. وجاءت المساعدات، لتشجّع المتردّدين على اللحاق بمن سبقهم، مصطحبين عائلاتهم؛ لأن المساعدات توزّع على العدد. هكذا، يحصّل اللاجئ جزءاً من معيشته من المساعدات (سواء عبر استخدامها أو بيعها)، ويبحث عن تحصيل الجزء الباقي من خلال العمل الذي يرضى به مقابل أي أجر. يقول نحاس: «هنا يكمن التحدّي الأبرز الذي يواجهه لبنان، ذلك أن دخول ما يقارب 35% من القوة العاملة إلى بلد ما، يرضون بأجر دون الحدّ الأدنى، كفيل بخفض الرواتب فيه، وهي بدأت بالانخفاض فعلاً. أما التحدّي الثاني، فيكمن في ارتفاع نسبة الهجرة لدى اللبنانيين، ونكون عندها أمام حالة إحلال. وإذا التفتنا إلى أن المستقبل الذي تذهب إليه سوريا، سيجعلها من الدول الفقيرة، التي ستشكّل مخزوناً من اليد العاملة لبلدان المنطقة نغطس في الحفرة كلياً، وهذا الأثر يصبح دائماً ولا يعود مؤقتاً».
كيف نتعامل مع هذا الأمر؟
يقدّم نحاس الفكرة الآتية: «نحن في دولة وقع فيها حدث طارئ غير مرتقب، هو زيادة القوة العاملة فجأة. المطلوب أن نفكر بكيفية مقابلة هذه الطاقة الإنتاجية المعطلة بزيادة فجائية وكثيفة ودائمة للطلب وللاستثمار في رأس المال. يكون ذلك من خلال جعل عملية الاستثمارات متصلة بحلقات معينة لتطوير سلع، منتجاتها الأساسية قابلة للإنتاج في سوريا حتى في ظروف الحرب، فيما تكون الصناعات التحويلية عندنا نحن». مثلاً، «تعدّ سوريا ثاني أو ثالث منتج للقمح القاسي الذي تصنع منه المعكرونة. يمكن الاستعانة بسلسلة من الوسطاء (حتى لو كانوا من سماسرة الحرب) يقنعون مزارعين في قرية سورية ما بزراعة القمح (أو الزيتون، أو القطن)، مع وعد بشراء المحصول، وإرساله إلى لبنان الذي يفترض أن يصنّعه، سواء عبر إنشاء مصانع محلية أو قدوم شركات عالمية لافتتاح مصانع لها هنا». عندها، يذهب لبنان إلى مؤتمرات الدعم الدولية التي تعقد من أجله، وهو يحمل خطة عمل: «لن تستمرّ قضية اللاجئين السوريين بالشكل الحالي، لأنها تتخطى الاعتبارات الظرفية والإنسانية على أحقيتها. لذا نحن نطلب منكم الآتي: 1- إصدار قرار سياسي يعتبر المنتجات الآتية من لبنان أو سوريا دون تمييز في المنشأ أن تعامل كالمنتجات الوطنية عندكم. 2- افتتاح نموذج مصغّر عن البنك الدولي في لبنان للقيام باستثمار مباشر، أو تقديم كفالات، أو قروض لإنشاء هذه الصناعات التحويلية. 3- إنشاء صندوق دعم لتغطية الكلفة الإضافية الناتجة من حالات المخاطر». ويرى نحاس أن «التعامل مع قضية اللاجئين انطلاقاً من هذه الخلفية يمكنه أن يثبت صيغة للعلاقات الاقتصادية بين لبنان وسوريا في المرحلة اللاحقة، استباقاً لما سينجم عن حالات الأمر الواقع قيد التشكّل. وأهمّ ما فيه أنه سيخلق، إن طبّق، وضعية تتيح للسوري أن ينضم إلى واحدة من حلقات الإنتاج، وقد يعود إلى الحلقة الاساسية، وهي الزراعة في أرضه، إذا ضمنّا له تسلّم المحصول». أمر آخر لا يقلّ أهمية هو أن «هذا الكلام لا يستدعي اتخاذ أي موقف من صراع الأطراف في سوريا». طبعاً، الأمر ليس سهلاً. «إذا اقتنعنا به، يمكن أن نفرضه. لا يجب أن نعرضه ونحن لا نصدّق قدرتنا على تنفيذه. يجب أن يكون هناك من يقول: إما أن تأخذوا هذا الموقف وإما أننا غير مستعدين على الاستمرار في هذه الطريقة...». فهل من يقتنع به، أو يقدّم بدوره اقتراحاً آخر يتجاوز تسوّل مساعدات ستتوقف يوماً ما، أو المنادة بإقامة مخيمات لن تنجح في ضبط التزايد في عدد اللاجئين؟