طلاب «الأميركية» وهواجس الماضي: الخوف من صفقة سياسية تنهي التحرك

طلاب «الأميركية» وهواجس الماضي: الخوف من صفقة سياسية تنهي التحرك
01 Apr
2014

كارول كرباج - السفير

 

«البدء من الصفر»، تلخّص تلك العبارة حال التحركات الطلابية في «الجامعة الأميركية في بيروت» منذ السبعينيات حتى اليوم. يعتقد بعض الطلاب المنخرطين اليوم في تحرك زيادة الأقساط أنهم يخوضون معركتهم «بشكل مختلف»، بينما لم يسمع البعض الآخر عن معارك طلابية قامت تاريخياً للهدف نفسه. لم يعلموا عن احتلال وتظاهرات وإضرابات عطلّت حرم الجامعة لأيام وأشهر، ولم يألفوا وجوه وأسماء من اعتقلوا وفصلوا وضربوا بالهراوات وأعقاب البنادق. شهدت الجامعة أربعة تحركات طلابية سابقة ضد زيادة الأقساط، في 1971 و1974 و1994 و2010. تتمتع كل مرحلة بخصوصيتها وإطارها السياسي وخلفيات لاعبيها المختلفة. لكنها أفضت جميعها إلى تسويات تخدم مصلحة الإدارة. فشلت التحركات المطلبية المتعاقبة في رفض الزيادة والحفاظ على نسيج الجامعة المتعدّد الطبقات. لا يملك طلاب اليوم ذاكرة جماعية تسمح لهم بمراكمة العمل والخبرة والاستفادة من أخطاء الأجيال السابقة. الأمر أشبه بحراك دائري، لاعبوه طلاب مرحليون. يخوضون المعركة، يكتسبون الخبرة.. ويتخرجون. فيما يتحمّل الجدد تداعيات الفشل، أو بالأحرى تسويات من سبقوهم. ويعودون بدورهم إلى المربع الأول بغياب أي تراكم في المعرفة والتنظيم والتأطير. بينما خطاب الإدارة يبقى موحداً ومكرّراً في تبريرها زيادة الأقساط. تراهن الإدارة على «الحراك الدائري» ذاك. تدرك أن التواصل بين الطلاب المتخرجين والطلاب الحاليين خجول، وأن الذاكرة المؤسساتية توجدها عادةً الاحزاب الطائفية لا المجموعات المستقلة والنوادي الثقافية. تراهن على شرذمة صفوف الطلاب بالسيطرة على الطلاب الحزبيين (أو معظمهم) من خلال اتصالات تُجريها مع قياداتهم في الخارج من جهة، وعلى ضعف تنظيم المستقلين ونفاد طاقاتهم سريعاً من جهة أخرى. نستعيد اليوم تحركات الأمس بعد مواصلة طلاب «الأميركية» تحركهم منذ نحو شهر ضد زيادة الأقساط وغداة اعتصامهم المفتوح أمام مبنى الإدارة «كولدج هول». نعود إلى ارشيف السبعينيات والتسعينيات والألفين وعشرة، وإلى شهادات أبرز الناشطين والمشاركين والمؤرخين، لنستعرض التجارب، نقارن بينها ونفتح النقاش حول أسباب تعثر الحركات المطلبية السابقة وعدم تحقيقها المطالب. يختلف طلاب اليوم عن الأمس نتيجة الزيادة المستمرة للاقساط وتقلص «المنح السياسية والحزبية». أصبحت الجامعة تضيق تدريجاً بالطبقات الوسطى، وهي فئات تُعنى عادة بالشأن العام. يعكس ذلك تبدّلاً في النسيج الاجتماعي لجامعة لطالما اعتُبرت منبع الحركات السياسية والثورية. إلا أن الأمر لا يتعلق بخلفية الطلاب الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل بواقع تراجع الحركات الجماهيرية والافكار الكبرى. وإذا قارنا بين المراحل الأربع، نجد أن معارك الأقساط بخطابها ولاعبيها لا تنفصل عن الاطار السياسي الذي كان سائداً. في حين قاد طلاب «حركة فتح» ويساريون وقوميون إضراب العام 1971 ضد زيادة 10 في المئة، وتأثروا بالحركة الطلابية الفرنسية في أيار 1968، طغت المجموعات اليسارية المناوئة للماركسية السائدة والفصائل الفلسطينية (مجموعات ماوية وتروتسكية وفوضوية) في إضراب 1974، وفق ما أكده الباحث والمؤرخ مكرم رباح. بينما سيطرت الأحزاب الطائفية على احتجاجات العام 1994، التي أعقبت الحرب الأهلية، ضد زيادة 10 في المئة مرة أخرى. قادته وجوه طلابية تنتمي إلى «حزب الله»، «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«التيار الوطني الحر»، إضافة إلى «طلاب مؤسسة الحريري». بينما ألقى الاستقطاب السياسي بين 8 و14 آذار بثقله على إضراب العام 2010 ضد زيادة 25 في المئة، وإن حركته فعلياً مجموعات مستقلة نشطت بعد منتصف التسعينيات مثل «بلا حدود» (اليسارية)، يُبدي كثيرون تململاً من الأحزاب الموجودة. فسح ذلك المجال أمام النوادي المدنية والثقافية، مثل «النادي العلماني» و«نادي حقوق الإنسان»، لتؤدي دوراً أساسياً في الحراك الراهن من دون استبعاد الأحزاب كلياً. معارك مختلفة اختلف خطاب الطلاب ووسائل احتجاجهم مع كل مرحلة. فاعتبرت فترة السبعينيات الأكثر صخباً وعنفاً، حيث احتلّ المحتجون عامي 1971 و1974 مباني الجامعة وسيطروا على مداخلها واقتحموا مكتب عميد كلية الآداب والعلوم ومكتب رئيس الجامعة. فضّت إدارة الجامعة الاعتصامين بالقوة عن طريق اقتحام قوى الأمن الحرم الجامعي بفصل 22 طالباً في العام 1971 وباعتقال 61 طالباً وفصل 103 طلاب في العام 1974، استناداً إلى كتاب «حرم جامعي في حالة حرب» لمكرم رباح. كذلك، تصاعدت وتيرة التصعيد في العام 1994 بعد قيام الطلاب بوقفة احتجاجية على درج المدخل الرئيسي وصولاً إلى اقتحام المنزل الرسمي لرئيس الجامعة. اقتحمت قوى الامن ساحة «الماركواند هاوس» واعتدت بالضرب المبرح على الطلاب الموجودين ولاحقتهم في شوارع الحمرا، وفق شهادة الاستاذ في كلية الزراعة في الجامعة محمد أبيض الذي شارك في اعتصامات العام 1994. بينما لم تتجاوز احتجاجات العام 2010 الثلاثة أيام من الاضراب والاعتصام المفتوح، وانتهت بتسوية بين الأحزاب وإدارة الجامعة. وإذا كانت زيادة الأقساط مشتركة بين الاحتجاجات المتعاقبة، لكن تبدّل خطاب الطلاب واختلفت مطالبهم. فعلت أصوات رافضة السياسات «الامبريالية» والسلطة الأبوية التي تمارسها إدارة الجامعة على الطلاب في السبعينيات. فكانت الثورة داخل الحرم جزءاً لا يتجزأ من الثورة خارجها. وبينما حمل إضراب العام 1994 مطالب مشابهة للتحرك الراهن: «الحق في المشاركة بصياغة توجهات الجامعة ومراقبة أدائها وتوجهاتها المالية» (وفق بيان للطلاب في 1994) تحوّل إلى مطلب رافض لسياسة القمع والإرهاب الممارس على الطلاب بعد فضّ اعتصامهم في 10 تشرين الاول 1994 خلال فترة الوصاية السورية. خلّف «اليوم الدامي» أربعين جريحاً نقلوا إلى «مستشفى الجامعة الأميركية». اللافت أن المشاركين في تحرك 2010، الذي حمل شعار «نحو تعليم أفضل وأقل كلفة»، كان معظمهم في مرحلة التخرج. نشطت مجموعة صغيرة من «بلا حدود» ونوادٍ مدنية أخرى تؤمن بأحقية التعليم لجميع الطبقات. يعتبر الناشط المقرب من «بلا حدود» في تلك الفترة جيفري كرم أنه «لم يكن عند هذه المجموعة أي مصلحة مباشرة. كنا سنتخرج بعد أشهر، وكنا نخوض معركةً عن الطلاب الجدد». ويسجل لمجموعة الناشطين في العام 2010، أنهم خاضوا معركة مبنية على الأرقام وعلى تقسيم العمل بفعالية عالية. وبدعم عدد من المتخرجين، استطاعوا دحض حجج الجامعة بشكل علمي وموثق. أجرت المجموعة بحثاً لفهم بنية الجامعة ودينامية القوى، معتمدةً على حركات طالبية مماثلة في الولايات المتحدة الأميركية، لتشابه بنية «الجامعة الأميركية في بيروت» والجامعات الأميركية. يوضح كرم: «اكتشفنا أن الصلاحيات الحقيقية ليست في يد رئيس الجامعة، كما هي حال جامعات لبنان، بل في يد مجلس الأمناء. وفهمنا أن ما يحصل دائماً هو أن بعض أعضاء مجلس الأمناء يستخدمون علاقاتهم مع القوى السياسية لحثهم على السيطرة على مجموعاتهم داخل الجامعة. لذلك ركزنا هجومنا على مجلس الأمناء، لا على الرئيس والعميد فحسب». ويشرح أحد أعضاء «بلا حدود» هراتش هاسرجيان تجربته في تلك الفترة: «كنا طلاباً من جميع الاختصاصات. استخدمنا كفاءاتنا العلمية وفكرنا النقدي الذي اكتسبناه في الجامعة، للمطالبة بحقوقنا ومواجهة إدارة الجامعة». إلا أن المجموعة الصغيرة لم تتمكن من استقطاب «الأغلبية الصامتة» وإقناعها بشرعية حراكها المطلبي. فاعتمدت على حشد وتمويل الأحزاب الموجودة، التي طعنت الطلاب وقامت بصفقة مع الإدارة. وكأنها انخرطت في الحراك للقضاء عليه من الداخل أو خوفاً من فقدان السيطرة على الجسم الطالبي. هاجس التسوية تصدت إدارة الجامعة تاريخياً للتحركات المطلبية في الجامعة، مستخدمةً أدوات الإقناع أو القمع، أو الإثنين بالتوازي. كان يترافق غالباً استعمال القوة مع اتصالات ووساطات سياسية مكثفة. خلال تحرك 1994 مثلاً، حين كان النواب يتناوبون إلى حرم الجامعة للإدلاء بمواقفهم أمام الإعلام، حصل اتفاق سياسي بين الادارة وبعض الأحزاب تزامناً مع عملية الاقتحام، وفق أبيض. لم تتطوّر أحداث 2010 بحيث تُضطر الجامعة إلى استدعاء قوى الأمن، حيث قامت الاحزاب خصوصاً نائب الرئيس (من «القوات اللبنانية») والحكومة الطالبية حينها بالدور المطلوب نيابةً عن الإدارة، ما أحدث انشقاقات في أوساط الطلاب منعت الناشطين من مواصلة التحرك وسحب الثقة من الحكومة الطالبية. ولعل تصعيد الاحتجاجات بشكل فوري، أي البدء مباشرة بإضراب مفتوح، لم يسمح للمجموعة باستقطاب المزيد من المستقلين وتوسيع قاعدتها الطلابية. بالإضافة إلى ذلك، أدت عوامل أخرى إلى انحسار الزخم المطلبي، منها ترويج الاحزاب لـ«الصفقة» على أنها «انتصار طالبي»، واقتراب موعد الامتحانات النهائية والأبواب المفتوحة التي تنظمها الجامعة سنوياً. تشكل «صفقة 2010» هاجساً حقيقياً لكثيرين اليوم. فلم تمنع التسوية من زيادة 25 في المئة بل أجلتها سنة واحدة. «حيصير متل ما صار 2010»، سمعت الناشطة في «النادي العلماني» لما غانم الطلاب يرددون ذلك عند حثّهم على المشاركة في الحراك الحالي. أما اليوم، فالجو أقرب إلى «كيف يمكننا ضمان عدم حصول الصفقة»، تعبّر بحماسة. شاركت غانم بشكل خجول باضرابات العام 2010، وشعرت بالخيانة والاحباط بعد إبرام التسوية على حساب مصلحة الطلاب. لكنها تستثمر تجربتها المتواضعة حينها وتنخرط أكثر في حراك اليوم. «نحاول اليوم استقطاب أكبر عدد من الطلاب، بشكل منظم أو عشوائي، خصوصاً غير المسيّسين أو غير المعنيين بالشأن المطلبي منهم». ويستبعد الطلاب اليوم إتمام صفقة سياسية بأوامر من قيادات خارج الجامعة لأن معظم الناشطين اليوم، مستقلين وتابعين لنوادٍ مدنية وثقافية، يعبرون عن أهمية دعم الأساتذة لحراكهم اليوم، خصوصاً بعد تأسيس «اتحاد الأساتذة» (Faculty United) السنة الماضية لـ«بلورة مواقف موحّدة للأساتذة وتفعيل مشاركتهم في القرارات الأكاديمية والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم»، وفق رئيسها جاد شعبان. ويبقى أن نجاح الحراك الحالي يعتمد على قدرة الناشطين بالحصول على دعم باقي مجموعات الضغط، لا الأساتذة والإعلام فحسب، بل المتخرجين والأهالي وبعض أعضاء «مجلس الأمناء»، إلا أن التحدي الأساسي للحراك الراهن يكمن بضمان عدم احتكار الأحزاب لتمثيل الطلاب، من دون أن يؤدي ذلك إلى ضعف البنية التنظيمية للحراك. وعلى الرغم من تقديرها عمل الحكومة الطالبية و«لجنة المتابعة لزيادة الأقساط»، تأسف جيليان غريزل، وهي طالبة أميركية من «بلا حدود» تنشط اليوم إلى جانب «النادي العلماني» والمجموعات الاخرى، لغياب تناقل الخبرات بين حراك 2010 والراهن. تتحدث عن تجربتها في الولايات المتحدة الأميركية حين استطاع الطلاب فصل رئيس كلية دراسات الشرق الأوسط بعد أن وثّقوا حالات فساد وسرقة فكرية تورط بها. تؤكد أن الحركة اليوم تحتاج إلى توثيق الهدر والفساد الحاصل في الجامعة. وفي الإطار نفسه، يعتبر رباح أنه «إذا قمنا بقراءة تاريخية للتحركات الرافضة لزيادة الأقساط، فيمكننا القول إنه من قصر النظر فعل الأمر بالأسلوب نفسه مع انتظار نتائج مختلفة». ويعلّل ذلك برغبة الطلاب اليوم بأ»استخدام وسائل الاحتجاج نفسها ولكن من دون المسّ بجوهر الخلل، من خلال دحض حجج الإدارة وبلورة البدائل المتعلقة بميزانية الجامعة، لا رفض الزيادة فحسب». تعاطت الإدارة تاريخياً مع الأساتذة كموظفين ومع الطلاب كأشخاص مرحليين، رفضتهم كشركاء. هل سيتمكن طلاب اليوم من تحقيق مطالب طلاب الأمس الذين اعتصموا وقمعوا واعتقلوا وفصلوا من جامعتهم؟ هل سيرفضون تحوّل شعار الجامعة من «لتكون لهم حياة.. وتكون حياةً أفضل» إلى «لتكون للأغنياء حياة.. وتكون الحياة لهم فقط» الذي رفضه طلاب السبعينيات والتسعينيات؟ هل سيسمعون نداء طالب في 1994 حين تمنى على «الطلاب الجدد التعلم من تجاربنا؟».

الأكثر قراءة