«الحق في الحصول على سكن لائق» من الحقوق الأساسيّة التي نصت عليها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والتي وقّع عليها لبنان. لكن أين المستأجرون القدامى من هذا الحق؟ وأين ستُرمى نحو 150 ألف عائلة لو طُبّق مشروع قانون الإيجارات الجديد الموضوع في لجنة الإدارة والعدل النيابية؟ الآن تدرس نقابة المحامين مشروع قانون آخر، غير الذي أعدته اللجنة النيابية، على أمل الوصول إلى حل منصف للطرفين: المستأجرين القدامى والمالكين
سهى شمص - الاخبار
منذ عام 1975 حتى اليوم، شهدت أسعار العقارات أعلى معدّلات التضخم بين جميع السلع الأخرى. تضاعفت أسعار الشقق خلالها مئات المرّات، فيما تصحيح الرواتب بقي هزيلاً مقارنةً بتطور أسعار الشقق. أمام هذا الواقع، ولولا تمديد قانون الإيجارات القديمة ما قبل 1992، لكان من المستحيل أن نجد عائلة تنتمي إلى الطبقة الفقيرة أو حتى المتوسطة تسكن في مناطق كالحمرا، الأشرفية، رأس بيروت، زقاق البلاط، البسطة، كورنيش المزرعة...
ماذا كانت ستفعل هذه الأسر؟ كانت ستفعل كما غيرها من الأسر غير الميسورة، كانت سترضخ لعبء قروض السكن المصرفية على 20 أو 30 سنة مقبلة، أو كانت ستخضع لبدلات إيجار باهظة تخضع لحرية التعاقد ومركز القوة للمالك الذي يستطيع كل 3 سنوات أن يرمي عائلة في الطريق أو يزيد من كلفة سكنها على هواه، أو بتعبير أدق، على هوى المضاربين على أسعار العقارات. اليوم ينتظر قانون الإيجارات القديمة التمديد له، كما كان يمدد له دائماً منذ إقراره إلى الآن؛ إذ مرّت سنتان دون بتّ أمره، كان يُعَدّ خلالها في لجنة الإدارة والعدل النيابية لقانون جديد، هو ما عرف بمشروع القانون الجديد لتحرير الإيجارات القديمة، الذي ينص على تحرير تدريجي لعقود الإيجار على مدى ست سنوات، يجري بعد انقضائها إمّا تجديد العقد لثلاث سنوات أخرى بحسب قيمة «بدل المثل» (5% سنوياً من قيمة الشقة) أو إخلاء الشقّة نهائياً. ولكي لا تختبئ الدولة وراء إصبعها فترمي ما بين 600 ألف الى 700 ألف نسمة في الشارع دون حل بديل، روّجت لقانون الإيجار التملكي، الذي سبق أن أُقر في عام 2006 (دون وضع مراسيمه التطبيقيّة)، وصورته على أنه هو الحل السحري البديل لقانون للإيجارات يضمن حق السكن وديمومته. القانون عبارة عن عقد يعطي المستأجر حق تملك المأجور لقاء ثمن متفق عليه عند إجراء عقد الإيجار، مع احتساب الأقساط المدفوعة منه كبدلات إيجار من أصل الثمن، على أن لا تتجاوز مدة الإيجار التملكي 30 سنة في حد أقصى. أخذ قانون تحرير الإيجارات الجديد حقه من النقاشات والأخذ والرّد. اعتبره المستأجرون قانوناً تهجيرياً، فيما نال رضى المالكين ودفعوا باتجاه إقراره. كذلك وجهت الكثير من الانتقادات لاعتماد قانون الإيجار التملكي كحل بديل، لكونه لم يأت في إطار خطّة سكنيّة شاملة وواضحة، وكونه لا يراعي حقيقة أن نسبة مهمة من المستأجرين القدامى هم من المتقاعدين وكبار السن، ونسبة مهمة أيضاً من ذوي الدخل المنخفض؛ ففي الحالتين لا تستوفي هاتان الشريحتان الشروط المفروضة للحصول على القروض السكنيّة الطويلة الأجل والمتناسبة مع أسعار المساكن الرائجة. كبار المالكين القدامى لا يبدون اهتماماً ملحوظاً بقانون التملك التأجيري. أصلاً ليس هذا ما يخدم مصالحهم الفعلية، بل تحرير عقاراتهم للاستفادة من الريع الكبير المتحقق من جراء ارتفاع اسعار الأراضي والمضاربات عليها. أما المستأجرون من الطبقة العاملة، فينظرون الى قانون الإيجار التملّكي بوصفه يخدم المستثمر فقط عبر زيادة استثماره ولا يخدم المستأجر، لكونه لا يلتزم سوى مصالح الشركات العقارية وتجار البناء واستثمارات المصارف التي وظفت خلال السنوات الأخيرة، ما يزيد على ثلاثين مليار دولار أميركي في قطاع السكن والبناء. قانون الإيجارات المطروح يواجه بالرفض من قبل آلاف المستأجرين، وبعض هؤلاء يشكّل قوة ضغط لا باس بها. لذلك بادرت نقابة المحامين للعمل على وضع صيغة قانون جديد يمكن أن توفق بين مصالح المستأجرين ومصالح المالكين. يشرح المحامي منير حدّاد، أحد المكلّفين بالمبادرة. ويقول إن «النقابة غير منحازة إلى أي طرف، وهي في موقع الوسط. وبعد الاستماع إلى هواجس وشكاوى كل طرف على حدة بعد سلسلة من الاجتماعات واللقاءات، نحن الآن في مرحلة الإعداد للقانون الذي سيناقش في ما بعد في لجنة الإدارة والعدل». تجمّع مالكي الأبنية المؤجّرة في لبنان الذي أسس أخيراً «نقابة مالكي العقارات والأبنية المؤجّرة في لبنان»، يطمح إلى التصويت على مشروع قانون تحرير إيجارات ما قبل 1992 المحال على الهيئة العامّة لمجلس النوّاب. فبحسب رئيس تجمّع المالكين، جوزف زغيب، «إن مبادرة نقابة المحامين الهادفة إلى إيجاد تصوّر جديد لمشروع آخر غير المشروع المحال على مجلس النوّاب، يصبّ في مصلحة المستأجرين، عبر إضاعة المزيد من الوقت والحؤول دون التصويت السريع على قانون الإيجارات الجديد؛ فدراسة تصور جديد لقانون إيجارات آخر قد تمتد لسنوات أخرى وتؤخّر التصويت على القانون الموجود حالياً». ورأى أن إقرار قانون الإيجار التملكي يتيح الفرصة للمستأجرين بتملّك شقّة سكنيّة جديدة والتخلّص من الإيجار، لكن من يدّعي تمثيل المستأجرين وهم لا يمثلونهم، مجموعة أغنياء مستفيدين من الإيجارات الزهيدة في شقق في قلب بيروت ولا يريدون الانتقال للعيش في مساكن شعبيّة». طبعاً، لا يستطيع زغيب أن يوضح كيف جمع بين طرفي معادلة: «المستأجرون الاغنياء الذين لا يريدون الإقامة في المساكن الشعبية»، إلا في إطار صياغة خطاب حماسي موجه إلى الفئة التي يمثلها. لجنة الدفاع عن المستأجرين من جهة أخرى، حسب أمين سرّها زكي طه، تؤكد انفتاحها على أي قانون جديد يرعى مصالح الطرفين ولا ينحاز إلى المالكين كما مشروع قانون تحرير الإيجارات المطروح، وترى أن الحل لا يكون إلّا بوجود خطّة سكنية شاملة وطرح بدل إخلاء مناسب يكون بمثابة الدفعة الأولى يدفعها المستأجر لتقسيط شقّة جديدة بديلة. واستشهد بفرنسا، حيث تعالج مشكلة كبار السن من المستأجرين القدامى بدفع البلديّة جزءاً من عبء الإيجار عن المستأجر، ولا يحرر المسكن إلّا بوفاته. واستغرب البيان الصادر عن العائلات البيروتيّة الذي يتهم الجهات التي تمثّل المستأجرين بالتحريض الطائفي، وسأل: «هل المستأجرون من طائفة واحدة أو لون سياسي واحد أصلاً لكي نستعمل اللهجة الطائفيّة. وهل يعتبر المالكون نفسهم أنهم يمثلون طائفة واحدة؟». وكان بيان منسوب إلى «عائلات بيروت من المالكين القدامى» قد دعا المالكين القدامى في بيروت والضواحي إلى «الانضمام إلى نقابة مالكي العقارات والأبنية المؤجرة، لنكون صفاً واحداً في وجه بعض التجمعات التي تطلق الأبواق الحاقدة على المالكين القدامى تحت شعارات مذهبية وطائفية، بهدف الاستمرار في احتلال بيوتنا إلى الأبد»، مجدداً المطالبة بـ«صدور قانون جديد للإيجارات؛ لأن الكيل طفح، في حين أن بيوت المالكين ليست إلا ملكاً لهم، لا لغيرهم مهما طال الزمن». المالكون يرمون اللوم كله على المستأجرين، لكن المستأجرين هم ضحايا لسياسة اقتصاديّة أطلقت العنان لتجارة العقارات والمضاربات العقاريّة على حساب حق المواطن في السكن، ودون اتخاذ أي خطوة تنفيديّة باتجاه صيانة هذا الحق خلال 40 عاماً مضت على آخر قانون فعلي. سياسة تجعل اللبنانيين يستغربون أن يكون هناك بدل إيجار قديم لمسكن في بيروت بـ100 ألف ليرة شهرياً، ولكنهم لا يستغربون أبداً أن يصبح بدل الإيجار الجديد للمسكن نفسه في حال تحريره أكثر من ألف دولار شهرياً، في حين أن الحد الأدنى للأجور يساوي 450 دولاراً!
القانون الكارثي
أعدّ تجمّع المستأجرين في لبنان دراسة توضح أسباب رفضه لاقتراح قانون الإيجارات الجديد، وفي مقدمها إن الزيادات التي سيفرضها هذا القانون المقترح، كبدل عادل على بدلات الإيجارات القديمة تساوي سنوياً 5% من قيمة ثمن المأجور، يضاف إليها زيادة تراكمية سنوية، تعادل 5% من قيمة بدل الإيجار كمعدل سنوي للتضخم. فقيمة هذه الزيادات في ظل ارتفاع أسعار العقارات بمضاعفات جنونية لا تتناسب، بأي شكل من الأشكال، مع المداخيل المتواضعة للغالبية الساحقة من اللبنانيين المستأجرين المقيمين في وطنهم، وسيكونون عاجزين تماماً عن تسديد بدلات الإيجارات الناتجة من هذا القانون ابتداءً من السنة الأولى لإقراره، وستكون النتيجة إخلاءات قسرية جماعية وتشريداً وتهجيراً وتحرير عقود الإيجارات القديمة سريعاً ومن دون أي تعويض. ورأى التجمع أن اقتراح «إنشاء صندوق لدعم بعض محدودي الدخل من المستأجرين لمدة زمنية محددة وليس بشكل دائم، هو اقتراح وهمي سينتهي دعماً انتقائياً لعدد من المستأجرين المحظوظين أو من الأتباع والمحاسيب»، أما الباقون فليس لهم أي مساعدة أو دعم، ما سيسبب عجزهم عن السداد وتهجيرهم وتشريدهم بالقانون، علماً بأن أغلب الصناديق التي أنشئت في لبنان تحولت إلى معاقل ومراكز للهدر والسرقة والنهب وإرضاء التابعين والمحاسيب. ونادراً جداً ما كانت تؤمن حلاً لمشكلة من مشاكل مَن أنشئت لأجلهم. علماً أن هذا الصندوق وضع فعلياً لمصلحة المالكين ليسهل عملية تحرير العقود وليس لمصلحة المستأجرين؛ فهو لا يشكل حلاً دائماً ونهائياً؛ لأن دوره محدود ومدته الزمنية محددة. فبعد عدد من السنوات حددها القانون، سيتوقف هذا الدعم بعد أن تكون بدلات الإيجارات قد تضاعفت بشكل أكبر وأخطر، بما لا يتناسب كلياً مع مداخيلهم. وكأن كل المطلوب من إيجاد هذا الصندوق هو «تسليك» المعضلة نظرياً» لا حلها، وتهوين آثار الكارثة المتوقعة وتجميلها في أذهان الناس البسطاء والطيبين والمسؤولين ذوي النيات الحسنة. فالهدف الحقيقي هو تأمين مصلحة كبار المالكين وأصحاب الرساميل الأجنبية والمتعاونين معهم والمصارف وحيتان المال من أجل الانقضاض على شراء واستملاك واستثمار وهدم هذه العقارات القديمة والاستحصال عليها مواربة بموجب وكالات تلغي فعلياً وعملياً وتحايلاً مفاعيل قانون تملك الأجانب وتحكم سماسرة العقارات من أصحاب النفوذ والسلطة بمقدرات الوطن وبيع البلد لمن يدفع الثمن. إن هذه العقارات القديمة تشكل هوية هذا الوطن وتراثه وخائن، ومدان كل من يساعد على التفريط بها. وقال التجمع إن اقتراح القانون هذا قد ألغى فعلياً وعملياً تعويض الإخلاء الذي لحظته وأكدته وثبتته جميع قوانين الإيجارات السابقة، طوال أكثر من خمسة وسبعين عاماً، فبات حقاً مكتسباً لا يمكن إلغاؤه بتشريع جائر ومشبوه وحرمان أصحاب الحق الفعليين منه. وقد سبق وأعطي وشرع للمحتلين والانتهازيين والمعتدين على الحق العام والخاص بغير وجه حق، وللمهجرين والمستأجرين القدامى المتضررين. فهو حق مكتسب في القانون والممارسة، وثابت لا يمكن التفريط به، أو التنازل عنه، مهما كانت الأسباب والدوافع والمبررات والحجج.