قد لا يكون مارسيل خليفة في حاجة إلى تكريم إضافي، لا لأنه لا يستحق ذلك، بل لأن الشخص والموسيقي – الذي أعطى هذه الواحة الفنيّة الكبيرة التي غطت مسافات شاسعة من حياتنا وثقافتنا (في لبنان والعالم العربي) – كان كرّم الجميع منذ عقود، عبر أخذه في رحلة مدهشة من الألحان والكلمات والأخيلة والأحلام والآمال... لذا تبدو كلّ محاولة تكريمية، وكأنها تبقى قاصرة فعلا، بمعنى كيف تكرم وجدان شعوب بأسرها وبلداناً بأسرها، حملها معه في موسيقاه، من دون أن تسقط في السهو والنسيان، لتقدم تحية مرجوة؟
في أي حال، حضر مارسيل خليفة بما يمثل، ليلة الخميس الماضي في قصر الأونيسكو، عبر حفل موسيقي تكريمي له أحيته "الأوركسترا الوطنية للموسيقى الشرق - عربية" (التابعة للكونسرفتوار الوطني) بقيادة أندريه الحاج، وبمشاركة كورال جامعة سيّدة اللويزة، وبحضور وزير الثقافة كابي ليون، الذي قدم درعا للمحتفى به قائلا له: "أنت ساحر وثائر. سحرك مصدره حلم، وثورتك مصدرها عنف الحنجرة، وعنف الأنامل التي تضرب على آلة العود. أنت ابن المعهد العالي للموسيقى، وأنت ابن هذه المدرسة ومنها. لك منها، ولك عليها ألف تحيّة وتقدير، أمثالك يكرّمون بموسيقاهم وليس بتكريم الدروع".
من هنا، يبدو الحفل هذا الذي أقيم، بمثابة "صلح ما" (إن جاز القول) وإعادة وصل ما انقطع بين خليفة وبين المعهد العالي للموسيقى، إذ كان الفنان قد صرح قبل أيام في مؤتمر صحافي أنه طُرد من المعهد قبل ثلاثين سنة بسبب مواقفه السياسية، من هنا قد نفهم هذه اللفتة التي تأتي اليوم، وكأنها استدراك لهذا الزمن الذي مضى. لكن مهما يكن من أمر، أتاح هذا الزمن لمارسيل خليفة أن يكون ما هو عليه اليوم، إذ أفرد وقته للعمل الموسيقي، وهو عمل في أي حال، لا يمكن تجاهله ولا التغاضي عنه، أكنا نحبه أم لا.. أكنّا معه أم لا. فالمساحة الموسيقية التي أبدعها مارسيل ستبقى حاضرة في ذاكرتنا، كما ستستمر في ذاكرة الجيل المقبل.
في العودة إلى تفاصيل الحفل، تنوع عزف الأوركسترا اللبنانية، والغناء الذي قدم الجزء الأكبر منه كورال جامعة اللويزة. لنتنقل بين "الحنة" (سميح القاسم)، و"يا نسيم الريح" (الحلّاج)، و"قالوا مشت" (أدونيس)، و"خبئيني أتى القمر" (محمد السويدي)، و"في البال أغنية" و"سلام عليك" (محمود درويش)، إضافة إلى المقطوعات الموسيقيّة التالية: تانغو، صلاة، ولونغا نهوند، والإضافة إلى ذلك مشاركة رامي خليفة (ابن الفنان) عزفا على البيانو، بينما قُدمت وصلتان غنائيتان لكل من أميمة الخليل التي صدحت بـ"وقلت بكتبلك" (محمد العبد الله) والفنان المصري محمد محسن الذي غنى "ركوة عرب" (طلال حيدر). بهذا المعنى قدمت مروحة واسعة من الأغاني التي جال خليفة في شعر أصحابها، بمعنى أن الحفل لم يتوقف فقط عند تعاونه التاريخي مع شعر درويش، بل اختار شعراء ومناخات شعرية أخرى، ليقدم تلك "الوجوه" المتعددة التي عمل عليها الفنان اللبناني.
وإذا كنّا نعرف أميمة – التي رافقت خليفة منذ البدايات – "فالاكتشاف" الجديد ما قدمه المصري محمد محسن الذي بدأ صعوده الفني مع ثورة 25 يناير، وهي موهبة أكيدة في طور التفتح، وقد تكون مناسبة الخميس فرصة لنتعرف إليه شخصيا، بعد أن سبقه اسمه إلينا.
هو حفل نستعيد فيه بعض ما قدمه خليفة، وربما من ميزات هذا الحفل، أن نستمع إلى ما حفظناه غيبا، بأصوات أخرى، تفتح لهذه الموسيقى ولهذه الأغاني العديد من الآفاق الأخرى.
إسكندر حبش - السفير