مرسيل خليفة
في هذا اللقاء الحميم في المعهد الموسيقي الوطني، ليتني أجد معكم مقعداً للحنين على وقع الأوركسترا الوطنية وكورال سيدة اللويزة، وليتني أقدر على أن أجعل الحلم قنديلاً يؤرجح ظلالكم. ما يعنيني في أمسية اليوم القدرة على إعادة الدهشة من جديد، عبر الرحيل مع الطيور الصادحة إلى أفق بعيد، واضح المعالم مع تلك الأقاصي الزاخرة، رغبة في التعبير عن فرح غامض، عن سعادة وسط هذا الظلام الدامس، علنّا نستطيع تغيير هذا الواقع، واستبدال فوضاه بإيقاع الموسيقى.
ليس سهلاً الكلام عن الموسيقى، بمعزل عن حالنا العامة؟ كيف نستطيع تحريض الناس على الفرح لا الغياب، على الحياة لا العدم وهناك حروب صغيرة وكبيرة ومحاولات مقصودة ومنظمة لإرهاب كل أشكال الفكر والثقافة، وقمع كل مسعى إبداعي. الثقافة الحرة، الرافضة، للامتثال هي المستهدفة. لا تكون ثقافة، الا متى كانت حرية، الحرية للثقافة شرط وجود أو هي بهذه المثابة. الحرية للمثقف، كالفضاء الفسيح للطائر، كالماء للسمكة، كالتربة الخصبة للمزارع. الحرية لا تقاس بالمقادير ولا تخضع للتكميم الحسابي (من الكم). في تقييدها بالحدود حط وزراية بمعناها. وكما أن الطائر لا يملك أن يحلق في القفص، والسمكة لا تملك أن تسبح في زجاجة الزينة المنزلية، والمزارع لا يملك أن يزرع في الرمل، كذلك لا يكون في وسع المبدع المحجوز بأصفاد المنع أن يبدع بالمعنى الحقيقي للإبداع، المعنى الوحيد له للتعبير النظيف عن العالم والذاكرة والوطن والحياة.
■ ■ ■
أصدقائي طلاب واساتذة المعهد الموسيقي، اعبروا بثقة الطريق، وبخطى الواثق، مقتحمين مجاهل ومناطق معتمة، باحثين عن نقطة ضوء صبوح. أتخيلكم تتابعون التحصيل، وتواصلون سرد القصة كي تذهبوا الى الحلم، وتجلبوا وردة المستحيل لتكون زاداً لكم ولمستقبلكم. ومن أي قلب أبوح لكم اليوم بحبي. منذ 30 سنة، كنت هنا معكم قبل طردي وإقصائي عمداً من هذا المعهد الذي نحن فيه الآن. حملت أمتعتي وعودي ونوتاتي وقصائدي واغنياتي وذهبت في رحلة فنية الى المستقبل الغامض (أحبه غامضاً دائماً) وظلّ الحلم يراودني كل ليلة أن أعود إليكم وأحيي أمسية في ربوعكم. أمنية مجيئي اليكم تضاهي الولع، وذلك اعترافاً بجمال روحي الذي يزخر في الاعماق. ومرّت الأيام، وحاولت ألا أشعر بذلك الزمن الفيزيائي الذي يتلاشى في الجسد وما زلت أنتظر هذا اللقاء ليل الخميس 13 شباط. هل تستطيع أمسية موسيقية على أرض المعهد الموسيقي الوطني أن تخلّصني من ثقل أشياء عديدة ترمي بوزنها على الذاكرة، كما على الجسد والروح؟ كأن سنين الحياة تهرب ونحاول أن نلتقطها، أن نستوقفها، ونستدعي كل شيء مجدداً لنروي في رنينها وإيقاعها قليلاً من المعنى لهذه الحياة. وليست علاقة الانتماء التي تربطني بالكونسرفاتوار تلميذاً واستاذاً، سوى واحد من عناصر عديدة أعتز وأمجد بها حياتي بلا تردد. ربما الحياة ستخلو من المغزى إذا خلت من هذا الانتماء أو من هذه العاطفة وافتقرت الى الحب، لانني أرى مع الانتماء سلوكاً انسانياً في الدرجة الأولى. في المعهد الموسيقي لا أستطيع أن أرى حدوداً، أراها مفتوحة على كل الاحتمالات، وأرغب في أن تصدقوني بأنني أطمح إلى أن أتوصل الى ممارسة حريتي الى أقصاها، وأن أحقق أمنية ذات يوم بأن ننقلب على الموروث البالي، وأصبح واحداً منكم وبينكم، كأن في الموسيقى من الأحلام، ما يكفي لايقاظ العالم. أصحو اليوم على غيم طفيف يزين غربتي في صباح مدينتي. أفتح نافذتي على شمس متوّجة كسيدة الليل قبل النهار، وأغور عميقاً بذاكرة الطفولة وأطلّ بلمح البصر على مقاعد دراستي هنا. أسمع الاستاذ الكبير فريد غصن يدندن على عوده ويهمس بمقام «الصبَا» الحنون. يتحسس أجنحته الكثيرة، يبرأ بها من أقاليم أقلّ من ابجديته. يجعل ثقته في الريح، يخرج من الماء العابث مثل شجرة تطلع من سهرة المطر مغسولة ومشبوقة. لا يتسع قلبي لنقرة عوده، لمطره الاخضر، لمقاماته فتعانق الروح. فتحت صباحي شمس ساطعة في شرفة شاسعة تسع الحب كله. وليس لي غير أن ابدأ الحلم باكراً وأسأل ذلك العاشق الأبدي ـ أين نصيبي من الشمس اليوم؟ ـ ليس للشمس سرير، لها أفق تأخذنا اليه. ليس للشمس سرير سوى البحر. ليس لك أن تسمى زرقة القلب سوى كتاب الشمس في ليل هذا العالم، غيمة من شرفة الموسيقى. إن للشمس اسماً واحداً هو في جسر الحب، جوهرة الطريق. وكانت نبرته الصافية ترنّ في ذاكرتي عندما أحاول أن أحبو على سلالم عوده العتيق. ـ لا تصدق الكلام، ضع ثقتك بأحلامك وددت لو سألته قبل أن يعود الى سمائه الاولى: كيف تغفل شمس عن اطفالها الموشورين بين الجليد والجحيم وتهنأ بالنوم؟ لكنه رحل مسرعاً مع تلك الطيور العاصية الى ذلك الافق البعيد ليلامس نور الاقاصي. ليلتها لم أذهب الى النوم وحدي، كانت الاحلام في انتظاري. والحب ـ الحب ليس أقل من هذا درساً للعالم، والحرية ـ الحرية وطن الطائر.
الكلمة التي القاها مرسيل خليفة أول من أمس خلال المؤتمر الصحافي للحفلة التكريمية التي تقيمها الاوركسترا الوطنية اللبنانية الليلة (20:00) في الاونيسكو ـ