محمد زبيب
المشهد أمس لم يكن يسمح بتجاهله أبداً. لقد جاءت الحشود في تظاهرة «الزحف الى السرايا» فوق كل التوقّعات، وضمت فئات شعبية تشارك لأول مرّة من خارج قاعدة الموظّفين والمعلمين، وبذلك وجهت رسالة بليغة إلى جميع المشتغلين في الشأن العام، في الحكومة وخارجها: إنها كرة الثلج تكبر كل يوم وتجذب المزيد من المتضررين، وقد لا يعود ممكناً بعد حين السيطرة عليها... كثر تلقّفوا هذه الرسالة، وبدأوا في إعادة ترتيب مواقفهم مجدداً. صدرت مواقف من قوى أساسية: حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر... تدعو إلى إيجاد حلّ ما سريع قبل أن تضطر الى مواجهة جماهيرها. وسارع رئيس «هيئات أصحاب العمل» عدنان القصّار الى الإقرار بوجود «قوّة» يجب التعامل معها وعدم تجاهلها، وقال في اتصال مع «الأخبار» بعد اجتماعه مع الرئيس نجيب ميقاتي قبيل جلسة مجلس الوزراء: «علينا أن نرجع جميعاً الى الحوار، نحن لا نريد أن يستمر هذا الوضع السلبي». هل هذا يعني بداية تراجع عن الموقف الرافض لأي بحث بمبدأ إحالة مشروع السلسلة الى مجلس النواب وإنهاء مقاطعة «الحوار» مع الحكومة؟ أجاب القصّار: «لهم حق لم يأخذوه طيلة 12 سنة، طيب سنعطيهم من اللحم الحي، ولكن لغاية قدّيش، نحن متخوّفين من نتائج كارثية، لذلك علينا أن نجلس على الطاولة جميعنا، وقد اتفقت مع الرئيس ميقاتي على عقد اجتماع مع الهيئات مطلع الأسبوع المقبل، وبالتالي المقاطعة كانت مجرد موقف صدر في حينه وصار وراءنا».
كلام القصّار، مهما كانت تفسيراته أو أهدافه، شكّل تعديلاً، ولو شكلياً، للموقف المتعنّت الذي أبلغته الهيئات قبل يوم من التظاهرة الى وزير السياحة فادي عبّود، فهي حمّلته موقفاً حاسماً لإبلاغه الى مجلس الوزراء برفض مشروع السلسلة جملة وتفصيلاً، واستفاضت في محاولة الابتزاز للحصول على مكاسب إضافية بدلاً من القبول بالمساهمة في تمويل الكلفة عبر اشتراطها، للعودة الى «الحوار»، البدء من تعديل نظام التقاعد وإلغاء المنح التعليمية للمعلمين والاستيداع لجنود وضباط الجيش ودعم النمو واعتماد الخصخصة في تنفيذ مشاريع البنى التحتية... إلا أن القصار أعاد أمس صياغة هذه الشروط بلغة مختلفة، قال «إن الهيئات على استعداد للبحث في ضريبة الربح العقاري إذا جاءت من ضمن إصلاحات مطلوبة لتخفيف الضغوط على الخزينة العامّة».
مجلس الوزراء لم يكن أقل قلقاً من اتساع حجم المشاركة في التظاهرة، لكنه كالعادة لم يفعل شيئاً سوى الإقرار بأن الوقت قد حان لفعل شيء ما. تمت دعوة اللجنة الوزارية المختصة إلى الاجتماع اليوم واستكمال البحث عن مصادر التمويل من أجل استهلاك المزيد من الوقت، بانتظار إيجاد صيغة حل توافق عليها هيئات أصحاب العمل. إلا أن مصدراً وزارياً قال بعد جلسة أمس: «ليس هناك أي مؤشّر على أن الحل سيأتي سريعاً، على الرغم من أن الجميع يقولون إنهم يريدونه، لكنهم ما زالوا رهينة استخفافهم بما قد يحصل في الشارع لاحقاً».
هل يكفي ما سبق لوقف المسار التصعيدي وانتظار ما قد يحمله مطلع الأسبوع المقبل؟
يدرك حنّا غريب ورفاقه في هيئة التنسيق النقابية أن هذا النوع من ردود الفعل في مجلس الوزراء أو في هيئات أصحاب العمل أصبح خلف التظاهرة وليس أمامها، وبالتالي يدركون تماماً أنهم يملأون اليوم فراغاً كبيراً في السياسة، ولو من زاوية العمل النقابي. فراغ ثقيل تراكم على مدى عقود جرى فيها «تدجين» الناس وأحزابهم ونقاباتهم وأحلامهم عبر منظومة معقّدة من آليات الضبط والاستبداد والعلاقات الزبائنية والفساد البنيوي والتشجيع على الريع والتدمير المنهجي لفكرة الدولة، وطابعها المدني تحديداً... يدركون أيضاً أن ما يقومون به بات يرتّب عليهم مسؤوليات جمّة تتجاوز كثيراً ما يفرضه موقعهم التمثيلي لقاعدة عريضة من المعلّمين والموظفين في الإدارة العامّة. فما حدث أمس في التظاهرة، وما يجري التحضير له في تظاهرة الأسبوع المقبل، لم يعد يمت بصلة الى مطلب إحالة سلسلة الرواتب الى مجلس النواب إلا بوصفه «الشرارة»... لقد رأى الكثيرون في هذا الحراك مساحة جدّية وموثوقة لخوض مواجهة مختلفة عمّا اعتادوه، شعروا بأن هناك أملاً لا يزال يلوح في الأفق، على الرغم من كل ما يحصل الآن. كانت حناجرهم تصدح: توت توت ع بيروت عنّا حقوق ما بتموت... كانت نبرتهم تحمل تهديداً جدّياً، فلينتبهوا!
الخميس ٢٨ شباط ٢٠١٣