مفيد قطيش
بعد مرور 145 عاماً على صدور المجلد الأول من كتاب كارل ماركس «رأس المال»، تقدم «دار الفارابي» للقارئ العربي ترجمة كاملة للكتاب وللمرة الأولى من اللغة الألمانية، نفذها الدكتور فالح عبد الجبار.
ما يميز هذه الترجمة عن المحاولات السابقة هي شموليتها لكل المادة المتعلقة بالمجلدات الثلاثة من الكتاب، ودقتها ووضوحها. والأهم من كل ذلك هو كونها ترجمة للكتاب من اللغة التي كتب بها ـ الالمانية.
على هذا النحو تتاح الفرصة للقارئ العربي ـ لكل المهتمين من قوى سياسية ودوائر علمية وفكرية فرصة التعرف على هذا الكتاب الذي ما انفك يمارس تأثيره على الفكر السياسي والاقتصادي في العالم أجمع، وفرصة التزود بمعرفة النظرية الاقتصادية الأصيلة.
بعد المحاولات العديدة لدفن الماركسية وتراثها الفكري، خاصة في مرحلة ما بعد انهيار التجربة الاشتراكية والقاء الحرم على الاقتصاد السياسي العلمي، ولَدت الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة حمى البحث عن كتاب ماركس «رأس المال» وانتظمت الصفوف الطويلة أمام المكتبات لشرائه، وتبرع فريق سينمائي لانتاج فيلم عن الكتاب. ولم يكن هذا الأمر مصادفة. «فرأس المال» موسوعة فكرية لتفسير آليات عمل وقوانين وتناقضات النظام الرأسمالي بما هو نظام علاقات اجتماعية تقوم على استغلال الانسان للانسان. وهو كتاب الصراع الطبقي في هذا النظام.
ولأن الفكر البرجوازي عجز عن الاحاطة بمشاكل هذا النظام وايجاد العلاجات لأمراضه تم اللجوء للاستعانة برأس المال. لكن على الأكيد ليس من أجل التزود بالاستنتاجات الثورية التي تضمنها، وإنما لفهم آليات عمل هذا النظام.
إلى ذلك ما زال الكتاب يتمتع براهنية أكيدة نابعة من استمرار ذلك الموضوع الذي عالجه، على الرغم مما تعرضت له الرأسمالية من تغيرات، ومع أن التغيرات هذه تجعل رأس المال غير كاف لفهمها، إلا أنه يبقى ممراً اجبارياً لفهم جميع الظواهر التي تشكل اليوم الرأسمالية المالية المعولمة.
إلى ذلك فإن ترجمة الكتاب تأتي في ظروف تاريخية استثنائية يمر بها العالم العربي، حيث يشهد انفجارات وانتفاضات اجتماعية هي نتاج التطور في ظل الرأسمالية التبعية وما انتجته من تأخر وفقر وقهر واستغلال واستبداد. ولأن الحركة الثورية لا تستقيم بدون نظرية ثورية فإن ترجمة رأس المال تزود الشعوب العربية المنتفضة بمعرفة ضرورية لآليات عمل وقوانين هذا النظام المسيطر والشكل التبعي منه بشكل خاص. وتتيح للقوى الثورية صياغة برنامجها التحرري البديل.
ولكي يحصل القارئ على أكبر مردود ممكن من قراءة رأس المال لا بد له من بعض الاطلاع المسبق على مسار كتابته وبنيته ومنهجيته. وهي مسائل تلعب معرفتها دوراً كبيراً في فهم هذا العمل الموسوعي الضخم.
محطات كتابة رأس المال:
بعد أن توصـل ماركس وانجلس في أربعيـنات القرن التاسـع عشر إلى صياغة الفهم المادي للتاريخ تبين لهما أن البنية الاقتصادية ـ أي بنية علاقـات الانـتاج، هي القـاعدة التي يقوم عليها البناء الفوقي ـ السياسي، الحقوقي والايديولوجي. فوجه ماركس كل اهتماماته إلى دراسة هذه البنية، وهي تشكل عملياً موضوع الدراسة في «رأس المال».
مرت كتابة هذا المؤلف بعدة محطات:
1 ـ المحطة الأولى شملت النصف الأول من خمسينات القرن التاسع عشر حيث جمع ماركس المادة الضرورية لبحثه وقام بدراستها وتصنيفها.
2 ـ تمثلت المحطة الثانية في رحلته الابداعية بكتابة مسودة مخطوطة 1857 ـ 1858، حيث اعتبرت الصيغة الأولى لرأس المال، وقد تضمنت خطة الكتب الستة لتحقيق رأس المال.
3 ـ المحطة الثالثة تمخضت عن كتابة «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» وكانت أهمية هذه المخطوطة في أنها أعدت للنشر. وتضمنت الأفكار الأساسية لكتابه اللاحق وخاصة في جانب منهجية البحث.
4 ـ المحطة الرابعة هي مخطوطة 1861 ـ 1863 أي الصيغة الثانية لرأس المال.
5 ـ الصيغة الثالثة لرأس المال حققها ماركس في مخطوطات 1864 ـ 1865.
6 ـ خلال 1866 ـ 1867 قام ماركس بتدقيق وتصحيح المجلد الأول. وبالفعل فقد صدر هذا المجلد في أيلول 1867. وقد شكل صدور المجلد الأول انقلاباً ثورياً في الاقتصاد السياسي، حيث هزَ أسس الاقتصاد السياسي البرجوازي ونظرياته التبريرية للرأسمالية، وقدم تأسيساً للمسائل التي طرحها البيان الشيوعي.
7 ـ تابع ماركس عمله في مرحلة السبعينات وحتى وفاته في مواد المجلد الثاني والثالث، ولكنه أسرّ لأصدقائه بصعوبة اصدارهما بسبب المرض. لذا أوصى انجلس أن يتابع هذه المهمة بعده.
وبالفعل فقد قام انجلس بعمل عظيم خلال عشرين عاما، في تجميع وتنسيق مخطوطات المجلدين الثاني والثالث وقام باصدارهما على التوالي في عامي 1885 و 1894.
أما المجلد الرابع ـ «نظريات القيمة الزائدة» فقد صدر ما بين 1905 ـ 1911 بمبادرة من كاوتسكي، ثم عاد معهد الماركسية اللينينية لدى الحزب الشيوعي السوفياتي باعادة اصداره ما بين 1954 ـ 1961.
يتكون رأس المال من أربعة مجلدات، حيث تتضمن المجلدات الثلاثة الأولى نص النظرية الاقتصادية الماركسية في الرأسمالية وهو مؤلف موحد بوحدة المادة التي يدرسها وطريقة البحث. إن دراسة المادة في المجلدات الثلاثة تخضع لنفس الهدف ولفكرة واحدة - كشف قانون حركة أسلوب الانتاج الرأسمالي وأدائه وأفوله. وكل مجلد جزء لا يتجزأ من الوحدة الكلية ويقدم مستوى من مستويات تحليل الموضوع وعرض المادة.
في المجلد الأول درس ماركس عملية انتاج الرأسمال مأخوذة بذاتها ومجردة عن العمليات الأخرى (التداول والتوزيع) حيث قام ماركس هنا بصياغة القانون الاقتصادي الأساسي لأسلوب الانتاج الرأسمالي، أي قانون انتاج القيمة الزائدة.
أما في المجلد الثاني فقد قام بدراسة عملية تداول الرأسمال كعملية ضرورية في دورته. وفي المجلد الثالث ينقلنا ماركس إلى سطح الواقع الرأسمالي الملموس ويدرس عملية الانتاج الرأسمالي المأخوذة بوحدتها كعملية انتاج وتداول للرأسمال. حيث يدرس الاشكال الملموسة التي تتوزع اليها القيمة الزائدة.
وفي المجلد الرابع عرض ماركس ونقد النظريات البرجوازية في القيمة الزائدة.
جدير بالذكر ان ماركس ركز اهتمامه قي كتابة رأس المال على بريطانيا كونها كانت البلد الرأسمالي النموذجي آنذاك.
لا تقتصر أهمية رأس المال على اكتشاف القانون الاقتصادي الأساسي للرأسمالية واكتشاف المحدودية التاريخية لهذا النظام، بل وفي تضمنه لسلاح المعرفة أي لنظرية الديالكتيك المادي التي استخدمها ماركس في تحليل المجتمع الرأسمالي مما جعل من رأس المال لوحة ديالكتيكية رائعة.
أستاذ جامعي ـ لبنان